نحو رؤية استشرافية للتحركات الأمريكية على المسرح الأفغاني:
استرداد الهيبة وصناعة العدو “الحرب بالوكالة”
(المقال الثاني بشأن المشهد الأفغاني)
اللواء الدكتور شوقي صلاح
أستاذ القانون بأكاديمية الشرطة المصرية
وخبير مكافحة الإرهاب
القاهرة (زمان التركية) – * لقد اعترف مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي بوجود أخطاء شابت تقديرات الموقف المتعلق بتنفيذ قرار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.. وحاولت الإدارة الأمريكية تعليق هذا الإخفاق على شماعة فشل قيادات هذا الجيش ــ الحقيقة أن قوام هذا الجيش المدرب لا يزيد على 20 ألفاً، فالمعلن يختلف عن الواقع ـــ والانتصار المدوي لطالبان، والذي حدث ولم تخرج بعد كامل القوات الأمريكية، إنما سيؤدي غالب الظن إلى انقسامات عميقة في المجتمع الأمريكي، بل ولا نبالغ إن توقعنا حدوث تصدعات بين دول حلف الناتو بسبب الانفراد الأمريكي بالقرار.. لذا فإن الشغل الشاغل للإدارة الأمريكية سيتركز على القيام بعمل تسترد به هيبتها ـــ بعد الانسحاب الكامل لقواتها ـــ ولها الخيار بين أحد سيناريوهين:
الأول : قيامها بأفعال توحي بها للعالم بأن تنظيم طالبان لم ينتصر، فتعد العدة للقيام بضربات انتقامية ضد مواقع تمركز التنظيم في أفغانستان، وستفتعل الأسباب المبررة لهذه الضربات.. وربما يؤدي هذا لتشجيع ميليشيات من بقايا الجيش الأفغاني لمحاربة طالبان.. فأجهزة المخابرات تُعد العدة لزرع هذه الميليشيات لتصبح حجر عثرة في مواجهة طالبان؛ وربما يُطلق عليها “الجيش الأفغاني الحر“.. نعم سيناريو سبق اتباعه في سوريا.
* ولعل إرهاصات هذه الضربات المرتقب القيام بها، نراها تتمثل في تحركات مخططة ومنهجية على مواقع التواصل الاجتماعي، فرغم أن القاصي والداني يعلم بأن طالبان حركة دينية متطرفة وإرهابية، وتدعم تنظيمات إرهابية في مقدمتها القاعدة، وتحركاتها كانت تمثل خطراً على السلم والأمن الدوليين.. إلا أن الحملة الموجهة لهم على مواقع التواصل الاجتماعي ملخصها المزيد من التشويه للتنظيم، وذلك من خلال رسائل تحمل مشاهد مروعة للقتل والنهب ـــ لكنها مشاهد قديمة، ولا يوجد مصدر موثوق به يوضح انتماءات الفاعلين ـــ ويشار من خلال عرض هذه المشاهد بأن الفاعلين هم عناصر ينتمون لطالبان.. هذا بينما تحظر شركات التكنولوجيا العملاقة المتحكمة في مواقع التواصل الاجتماعي الرسائل التي تبث من أتباع تنظيم طالبان، ولعل هذه التحركات على مواقع التواصل بوضعها الحالي إنما تهيئ معنوياً المجتمع الدولي لتوجيه ضربات انتقامية عنيفة ضد التنظيم.
ولا شك أن لدى الإدارة الأمريكية حاجة ملحة لتغيير الصورة الذهنية التي رسخت في يقين المجتمع الدولي، بهزيمة الولايات المتحدة بعد عقدين من احتلال أفغانستان، فقد عاد تنظيم طالبان وسيطر على الدولة وأصبح أقوى من ذي قبل.. وبعد التكلفة البشرية والمادية الضحمة التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
مباحثات الدوحة 2021 بين طالبان والحكومة الأفغانية
والسيناريو الثاني: أنه وبعد الخروج الآمن لقوات التحالف.. تقوم الولايات المتحدة بعرض مشروط على طالبان؛ حيث تطلب منها القيام بمهام تثبت بها أن استراتيجيتها الإرهابية قد تغيرت، وأن البداية المتمثلة في قيام التنظيم بالسيطرة على الدولة الأفغانية دون إراقة دماء، ربما تشير إلى هذا التغير الإيجابي، ويعزو بالطبع هذا التغير للتجربة القاسية التي مر بها التنظيم خلال فترة الغزو، بمعنى أن الحرب أنهكته.. إضافة لتعهد طالبان في مفاوضات الدوحة بعدم تقديم أي دعم للتنظيمات الإرهابية، وتعهدات أخرى سيعلن عنها، توحي كلها بعدول التنظيم عن توجهاته الإرهابية.. مقترباً إلى حد ما من وسطية الدين الإسلامي.
* ولعل السيناريو الثاني ينسجم مع مواقف الصين وروسيا وإيران؛ فقد أعلن المتحدث الرسمي للخارجية الصينية بأن الصين ستقدم مساعدات لأفغانستان تحت إدارة طالبان لتحفيز جهودها الهادفة لإحداث تنمية اجتماعية واقتصادية، وأن عودة العلاقات الدبلوماسية سيرتبط بتشكيل حكومة متسامحة ومنفتحة. والجار الروسي أرسل هو الآخر رسائل دعم؛ تمثل أهمها فيما صرح به وزير الخارجية “لا فروف” بأن “حركة طالبان ترسل إشارات إيجابية، ولا يجب فرض حكومة عليها من الخارج”. كما صرح الرئيس الإيراني أنه على استعداد للتعاون مع الصين في تحقيق استقرار الأوضاع في أفغانستان. وبهذا ومع وجود أسباب تدعو هذه الدول للحيطة والحذر.. فلا شك أن استقرار الأوضاع الأمنية، وإقامة علاقات تعاون مع الدولة الأفغانية إنما هو هدف يحرص جيران طالبان ــ خاصة روسيا والصين وإيران ــ على إدراكه.
* وبعد عرض هذين السيناريوهين، نرى أن الإدارة الأمريكية ستدمجهما معاً وتنفذ سيناريو ثالثا؛ يتم فيه توجيه ضربة عسكرية استعراضية ومركزة، ومدروسة دراسة دقيقة، هدفها استرداد الهيبة الأمريكية وإثبات القدرة على التأثير، وفي سياق مواز ستَستَخدم أساليب حروب الجيل الرابع، فتحاول صناعة الأعداء لهذا التنظيم سواء من الداخل الأفغاني أم من الخارج.. على التفصيل التالي عرضه:
إن كان التصور الثاني المعنون: (طالبان تغيرت وأنهكتها الحرب..) ربما يمثل البداية المعلنة للتعامل مع طالبان من قبل الإدارة الأمريكية، وأن هذا الإعلان مرتبط بالطبع بخروج آمن لكافة القوات الأمريكية وقوات التحالف من أفغانستان.. إلا أنه سيمثل الوضع السياسي الظاهر، ففي الواقع ستصنع المخابرات الأمريكية ” العدو” الذي يناط به محاربة التنظيم بالوكالة؛ ولعل أخطر سيناريو يمكن أن ترتب له شياطين الإنس؛ أن يصبح العدو المحتمل هو الدولة الباكستانية.. وربما يبهتني القارئ الفطن بالسذاجة الأمنية؛ فكيف تصبح باكستان العدو المحتمل وقد اتـُهمت مراراً فيما سبق بدعم طالبان، نظراً لتصريح قادتها بضرورة استبعاد الحل العسكري في أفغانستان ؟؟؟
جانب من وادي سوات بباكستان
وللإجابة نقول: يوجد في باكستان حركة يطلق عليها ” طالبان باكستان” تشكلت هذه الحركة في 2002 على أثر قيام الجيش ـــ الباكستاني بتنسيق أمريكي ـــ بفرض سيطرته على منطقة القبائل لوقف تنقل المسلحين على الحدود مع أفغانستان، وفي 2007 أعلن تشكيل تلك الحركة رسميا، وأقامت الحكومة الباكستانية اتفاقية سلام معها، تقضي بإقامة “الشريعة الإسلامية” في نطاق جغرافي ضيق “وادي سوات” إلا أن هذا السلام كان هشا؛ حيث قامت طالبان باكستان بتوسيع نفوذها واقتربت من العاصمة الباكستانية إسلام أباد، فقام الجيش بعملية واسعة النطاق على الوادي الذي يقيم فيه أغلب عناصر الحركة والمناطق المجاورة له، أدت لتراجع قوات طالبان باكستان إلى المناطق القبلية والسيطرة فقط على معظم أجزاء الوادي، وأدت تلك المواجهات إلى تشريد أكثر من مليون باكستاني وتدمير معظم البنى التحتية للوادي. هذا ويقدر عدد المقاتلين في صفوف الحركة لأكثر من 30 ألف مقاتل؛ معظمهم من خريجي ومنتسبي المدارس الدينية الديوبنديَّة ـــ وهي مدارس دينية إسلامية سنية موطنها الهند ـــ التي تتبنى فقه الإمام أبو حنيفة.
مدرسة دار العلوم الإسلامية في ديوبند بالهند
ولنتساءل الآن: هل تطمع حركة طالبان باكستان في السيطرة على الدولة الباكستانية كقرينتها في أفغانستان؟ خاصة حال توفير الدعم اللوجيستي الأمريكي، إضافة لدعم “رد الجميل” من طالبان أفغانستان.. واستكمالاً لهذا التحليل الاستشرافي فإن سيطرة طالبان باكستان على مقاليد الأمور في الدولة الباكستانية، أمر يحتاج لسنوات من العمل.. وأؤكد أنه حال نجاح هذا التنظيم ــ لا قدر الله ـــ فإن باكستان ستتعرض بالضرورة لضربة عسكرية أمريكية تجهض بها قدراتها النووية العسكرية.. لذا فإن على الدولة الباكستانية الانتباه لنشاط هذه الحركة، وإنني على يقين من كفاءة أجهزة المخابرات الباكستانية واحترافيتها.
واستكمالاً لسيناريو صناعة العدو؛ فإن إيران يمكن أن تكون هي أيضاً المُخَلِص لدى المخابرات الأمريكية؛ وذلك من خلال إحداث وقيعة بين نظام طالبان السني المتطرف والطائفة الشيعية في أفغانستان، حيث نسبتهم لا تقل عن 15% من تعداد الشعب الأفغاني، ويتمركزون في هيرات وكابول، وقد سبق تعرضهم للاضطهاد لأسباب طائفية أثناء حكم طالبان في الفترة من 1996 إلى 2001؛ ولا شك أن إيران في هذه الحالة ستتدخل لحماية هذه الطائفة الشيعية.
القارئ الكريم: وعلى أمل اللقاء في المقال القادم لك مني كل الود.