بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – أصيب الرأي العام في تركيا والعالم على حد سواء بالدهشة حينما أعلنت القنوات التلفزيونة في ليلة 15 يوليو 2016 أن مقر البرلمان ومديرية أمن أنقرة تعرضا للقصف من قِبل مقاتلات الانقلابيين، مما أفاض الكأس وجعل جميع أفراد الشعب يتضامنون ويقفون صفًّا واحدًا في وجه هذا الانقلاب المزعوم.
ومع أن الانقلابات العسكرية تقودها عامةً القواتُ البرية وليست القوات الجوية، إلا أن المشهد الصادم وسخونة الأحداث منعت الناس من التفكير السليم وطرح السؤال الضروري: ما خطب هذه المقاتلات التي تحلّق في أجواء تركيا وتقصف البرلمان الذي يمثل الإرادة الشعبية، رغم أن الانقلابيين يسعون عادة إلى كسب الناس لإضفاء نوع من الشرعية على مبادرتهم؟!
كل يوم يظهر دليل جديد يثبت أن قصف البرلمان وبعض المقرات الرسمية كان مطلوبًا من أجل إثارة مشاعر الناس “القومية” و”الإسلامية”، التي يلعب عليها التحالف الحاكم بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، والدفع بهم إلى الشوارع والتضامن مع السلطة السياسية ضد المتهمين بالانقلاب؛ وذلك من أجل غلق باب الاعتراضات المحتملة على حملات التصفية والاعتقال الموسعة التي خططت السلطة لتنفيذها بحجة التصدي للانقلاب وسط الاستعداد لتغيير النظام في البلاد من البرلماني إلى الرئاسي.
قاعدة أكينجي وقصف البرلمان
قاعدة أكينجي الجوية كانت المركز الأهم في انقلاب 15 يوليو 2016 المزعوم، حيث إن تلك الطائرات أقلعت من هناك، كما أن رئيس الأركان خلوصي أكار، وقادة آخرين، بينهم الجنرال أكين أوزتورك، كانوا في هذه القاعدة حتى الصباح. رغم أهمية القاعدة وخطورة الأحداث التي شهدتها، لكن الباحثين عن الآثار والبصمات لمعرفة ما حدث بالقاعدة في تلك الليلة أصيبوا بالصدمة، حيث إن أهم الأدلة في القاعدة تم حذفها بعد يوم من الانقلاب وبأمر من المدعي العام! أما المحكمة فلم تر أي ضرورة للاستماع حتى إلى أكثر الأسماء خطورة في تلك الليلة.
في هذا الصدد يقول الصحفي والمحلل السياسي جوهري جوفين: “في تلك الليلة ظهر طيارو F16 المتقاعدون في قاعدة “أكينجي” الجوية.. وهناك طلبات مقدمة للمحكمة من قبل المتهمين تطالب بتحديد هوية هؤلاء. لا يشكّ أحد أن بعض الطائرات قصفت عددًا من المباني والمقرات الرسمية ليلة الانقلاب، لكن أيُّ الطائرات قامت بذلك؟ سؤال هذا الجواب سوف يقودنا إلى الكشف عمن قادوا الطائرات ومن أصدر لهم التعليمات. يجب محاكمة الطيار الذي أسقط القنابل على تلك المباني والشخص الذي أمره بذلك. أنا أعتقد أن هؤلاء الطيارين المتقاعدين من يقفون وراء عمليات القصف في تلك الليلة، نظرا لأنه يتم إخفاء هويتهم بشكل مستمر”.
وقد نشر جوهري جوفين في 2019 أدلة جديدة، استنادًا إلى وثائق المحكمة الرسمية، كشف من خلالها زيف الرواية الرسمية لأحداث الانقلاب.
تقرير رسمي يكشف التزوير
فبحسب التقرير الأولي الذي أعده الخبير من القوات الجوية الرائد أوغراش توبجو، فإن الطائرة رقم 110 هي التي ألقت قنبلة من نوع (جي بي يو-10) على شعبة الطيران التابعة لمديرية أمن أنقرة في الساعة 23:18 من ليلة الانقلاب. هذا التقرير الأولي وضعته النيابة العامة في كراسة رقم 532 ضمن لائحة اتهام قاعدة أكينجي، المزعوم بأنها كانت معقل الانقلابيين ليلة الانقلاب، رغم أنه لم يتضمّن المعلومات الخاصة بالصندوق الأسود للطائرة والمعطيات المادية الأخرى.
ومن المثير أنه ظهر في وقت لاحق أن الرائد أوغراش توبجو، الذي أعد هذا التقرير الأولي، كان في مطار “دالامان” بمدينة موغلا، حيث قضى أردوغان عطلته أثناء أحداث الانقلاب، رغم أنه كان يبدو رسميًّا في إجازة صيفية!
وبحسب ملف قضية قاعدة أكينجي، كلّفت نيابة أنقرة بعد هذا التقرير الأولي لجنتين فنيتين منفصلتين، إحداهما من القوات الجوية، والثانية من الشركة التركية لصناعات الفضاء توساش (TUSAŞ/TAİ)، بإجراء فحص موسع للصناديق السوداء التابعة للطائرات التي انطلقت من قاعدة أكينجي في تلك الليلة، والطائرات التي أطلقت القنابل، والمعلومات الخاصة بمواعيد الإقلاع، ومدة البقاء في الجو، والارتفاع، والسرعة، والوقود المتبقي، وتسجيلات الكاميرا المسمى دي وي آر (DVR)، وما إلى ذلك. كانت في قاعدة أكينجي 77 طائرة ليلة الانقلاب، وفقًا لملف القضية، وقامت شركة توساش لصناعات الفضاء بفحص الصندوق الأسود لـ66 طائرة، بينما لم تسمح النيابة بفحص بقية الطائرات البالغ عددها 11 طائرة، وذلك على الرغم من أن العقيد أحمد أوزجتين، المتهم بقصف المقرات الرسمية المذكورة، أكد في المحكمة “وجود طائرات أخرى في ليلة الانقلاب”، وأنها قصفت تلك المقرات، وطالب بفحص جميع طائرات أف-16 المقلعة في تلك الليلة.
لكن المثير أن التقرير الموسع الذي أعدته شركة توساش لصناعات الفضاء، والذي يحمل رقم الملف 165613، كشف أن الطائرة رقم 110، المزعوم بأنها قصفت مقر مديرية أمن أنقرة في مذكرة الاتهام، لا تقع ضمن قائمة الطائرات المنطلقة في ليلة الانقلاب، وأكد أن آخر طيران لها كان في 14 تموز / يوليو 2016، أي قبل يوم واحد من محاولة الانقلاب!
كما لفت التقرير، القائم على فحص الصندوق الأسود للطائرة بشكل أساسي، إلى أن خزان وقود طائرة رقم 110 كان ممتلئًا، ولم يوجد أي تسجيل للكاميرا DVR وDTC، مع أنه يبدأ التسجيل تلقائيًا عند إقلاع الطائرة. كذلك لم يوجد أي أثر لإطلاق القنبلة بعد فحص قاذفة القنابل للطائرة، لينتهي التقرير إلى عدم إلقاء أي قنبلة من هذه الطائرة ليلة الانقلاب!
وأظهر التقرير ذاته أنه من المستحيل أن تكون الطائرة رقم 105 هي التي قصفت مقر البرلمان، حيث كانت الطائرة على الأرض عندما حدثت عملية قصف البرلمان، وفقًا للمعطيات التي حصلوا عليها خبراء شركة توساش بعد فحص الصندوق الأسود للطائرة.
وبعدما اعتمد قائد قاعدة أكينجي العقيد أحمد أوزجتين في دفاعه عن نفسه في جلسة المحاكمة على هذا التقرير، الذي أعدته شركة صناعات الفضاء الرسمية، ووضع النيابة العامة في موقف حرج، حدث تطور مثير للغاية، إذ توجهت النيابة إلى حذف المعلومة التي تقول “أطلقت القنبلةُ من الطائرة رقم 110” من مذكرة الاتهام لتكتب بدلاً منها “الطائرة التي قصفت مديرية أمن أنقرة” من دون ذكر الرقم!
هذه الحقائق ورفض النيابة العامة لطلب العسكريين المتهمين بقصف مديرية أمن أنقرة والبرلمان بفحص جميع الطائرات المنطلقة في تلك الليلة، بما فيها 11 طائرة لم تخضع لفحص خبراء شركة صناعات الفضاء، يثير سؤال: هل هذه الطائرات الـ11 هي التي قامت بالقصف؟ ومن هم الطيارون الذين قادوا تلك الطائرات؟
جواب هذا السؤال في تصريحات “شهود القضية”، إذ أكد كل من الضابط برتبة الملازم الأول جانير فيدانجي، والضابط برتبة الرقيب يونس أوزن، بصفتهما “شاهديْن”، أنهما عاينا “طيارين متقاعدين” في قاعدة “إنجرليك” ليلة الانقلاب. وكذلك أكد العقيد نهاد آلتون توب، الذي زوّد جهاز المخابرات بالمعلومات عن سير الأحداث حتى صباح ليلة الانقلاب، أنه كانت هناك طائرات انطلقت من الأرض من دون تشغيل أجهزة الإضاءة وإجراء اتصال لاسلكي مع البرج.
من هو قائد الانقلاب؟
من جانب آخر، كان الجنرال أكين أوزتورك الاسمَ الأكثر لفتًا للانتباه بقاعدة أكينجي في تلك الليلة، ورغم أنه توجه إلى القاعدة بناءً على تعليمات قائد القوات الجوية ليتفقّد ما يحدث فيها إلا أن الرواية الرسمية أعلنته الرقم الأول في محاولة الانقلاب الفاشلة. لكن محضرًا عسكريًّا تم تحريره بمدينة “ألازيغ” ليلة الانقلاب تضمن مكالمة هاتفية تقلب الرواية الرسمية للانقلاب رأسًا على عقب. هذا المحضر العسكري تضمّن نوع ومكان الاتصالات وتفاصيل المحادثات التي جرت في قيادة الفيلق الثامن بمدينة ألازيغ في 15 يوليو 2016 في التوقيت 9.30 – 11.45. وبحسب هذا المحضر العسكري الذي يتضمن اسم المتصل والمتصل به والمعلومات التي تبادلها الطرفان، فإن الاستخباراتي صادق أوستون، المنحدر من السلك العسكري أيضًا، اتصل في الساعة 22:50 و23:17 بزميله قائد الفيلق. وكذلك يتصل ببعض الوحدات العسكرية الأخرى في تلك الليلة ويقول لقادتها بأنه وقع انقلاب عسكري بتدبير من فتح الله كولن، وأن قائد القوات الجوية الجنرال أكين أوزتورك هو رقم واحد في هذا التحرك. لكن المشكلة أن الاستخباراتي صادق أوستون عندما أجرى مكالمات هاتفية مع القادة وساق هذه المزاعم كان أكين أوزتورك يجلس في منزله بملابس النوم!
ولذلك نرى أن الجنرال أكين أوزتورك اتهم صادق أوستون بتدبير مؤامرة لإيقاع الجيش من خلال أحداث 15 يوليو 2016، وفسر سبب هذه المؤامرة لزملائه قبيل الانقلاب قائلاً: “لن أسمح بدخول جنودي في مغامرة سوريا، ولن أسمح بتقسيم تركيا.. وإذا ما أعلنوني يومًا خائنًا للوطن فاعلموا أنهم سيقحمون جيشنا في سوريا”.
ومن المثير أن وكالة الأناضول الرسمية نقلت في البداية عن الجنرال أوزتورك اعترافه بأنه تحرك برغبة الانقلاب على الحكومة عند استجوابه، ثم سحبت خبرها المفبرك وصححت نفسها، حيث أعلن الجنرال أنه ليس من منظمة فتح الله كولن، وليس مدبر الانقلاب، بل إنه حاول منع حدوث الانقلاب. والأكثر إثارة من ذلك أنه بعد اعتقال الجنرال أوزتورك مع 26 أدميرالا آخر في 18 يوليو 2016، بناء على أقوال الشهود، أعلنت القوات المسلحة في 21 يوليو 2016، أي بعد يومين من اعتقاله، أن الجنرال كان مكلفًا من قبلها بإقناع العسكريين الذين تحركوا للانقلاب على الحكومة. كما أن الجنرال نفسه قال في جلسة محاكمته عام 2017 أن رئيس الأركان العامة خلوصي أكار هو الذي أرسله إلى القاعدة للحديث مع الجنود الانقلابيين وإقناعهم بالتراجع عن فكرة الانقلاب!
خلاصة القول: التقرير الموسع لشركة صناعات الفضاء ورفض النيابة العامة فحص 11 طائرة من أصل 77 طائرة انطلقت ليلة الانقلاب، وإعلان الاستخباراتي صادق أوستون الجنرال أوزتورك مدبرا لمحاولة الانقلاب في وقت كان جالسا في منزله بملابس النوم يكشف زيف الرواية الرسمية لهذا الانقلاب.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أردوغان استخدم بعض الضباط المتقاعدين التابعين لحليفه الجديد تنظيم أرجنكون في قصف مقر البرلمان ومديرية الأمن من جانب، ومن جانب آخر، دعا أنصاره من المليشيات شبه المسلحة للنزول إلى الشوارع بدلا من القوات الأمنية واستخدمها ضد الطلبة العسكريين، وذلك لتتشكل الصورة التي يريدها من أجل إضفاء صبغة حقيقية على روايته الرسمية للأحداث، ويتمكن بعدها من إطلاق انقلاب مضاد حقيقي يعيد من خلاله هيكلة المؤسسة العسكرية والسلك البيروقراطي والحياة المدنية في آن واحد، تمامًا كما فعل سلفه هتلر الذي أحرق البرلمان الألماني ومن ثم أطلق حركة تصفية شاملة ضد معارضيه بتهمة إقدامهم على إحراق البرلمان.
من قصف البرلمان؟
نشر الكاتب اليساري الشهير أحمد نسين مقالا في عام 2017 كشف أن طائرات أف 16 لم تقصف مبنى البرلمان ليلة الانقلاب، وأدرج في مقاله عددًا من الصور أوضح من خلالها أن أردوغان وشركاءه السياسيين من زرعوا قنابل داخل البرلمان كجزء من الانقلاب الخيالي وفجروا المبنى من الداخل لا من الخارج! وفيما يلي مختصر الأسئلة التي طرحها الكاتب:
يبدو أن الانقلابين اخترعوا قنبلة رائعة بحيث لا تلحق أية أضرار بالآثار التاريخية في البرلمان!
- أي قنبلة هذه التي لم تحرق القماشات؟
- أي قنبلة هذه التي لم تحرق الأثاثات الخشبية؟
- أي قنبلة هذه التي لم تحدث ثقوبا في الأشياء؟
- أي قنبلة هذه التي تركت المقاعد سليمة؟
- أي قنبلة هذه التي لم تحرك صورة أتاتورك ولا صورة رئيس الوزراء بن علي يلدرم من مكانهما؟
- أي قنبلة هذه التي لم تهز راية الجمهورية من مكانها؟
- أي قنبلة سقطت على البرلمان بحيث لم تفجر أجهزة الحاسب الآلي!
- أي قنبلة هذه التي تركت الكتب على الأرفف؟
- فضلاً عن كل ذلك أي قنبلة سقطت على البرلمان بحيث بعثرت الزجاج من الداخل إلى الخارج!
بما أن القنابل التي فجرت مبنى البرلمان لم تكن للانقلابيين، فهل يمكن أن يكون أردوغان من فجّره يا ترى؟ خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنه من حقق أكبر استفادة من هذا الانقلاب ووصفه بـ”هدية من الله”!
35- İşte TBMM'nin bombalanmasıyla ilgili hazırladığımız raporun önemli noktalarına ilişkin video. @ahmetnesin1 pic.twitter.com/XPyXP4DsoN
— 15 Temmuz Gerçeği (@15temmuzgercegi) July 5, 2017