بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – استخدم كثير من الجنود، سواء كانوا من الرتب العليا أو الدنيا، نفس الكلمات والعبارات فيما يخص ما حدث حقيقة ليلة 15 يوليو 2016 حيث شهدت تركيا ما سمي بالانقلاب الفاشل، إذ أكدوا قائلين: “تم استدعاؤنا للخدمة وإجراء مناورات ومن ثم وجدنا أنفسنا في الشوارع”.
كل المعطيات التي نحوزها تشير إلى أن قلة قليلة من الجنود تحركوا في تلك الليلة وهم على علم بأمر الانقلاب، بل الأغلبية الساحقة منهم توجهوا إلى جسر البوسفور للتصدي لهجوم إرهابي كبير وشيك، استجابة لأوامر قادتهم، ومن جانب آخر نرى أن القناصة والمسلحين المدنيين المحسوبين على الحكومة أخذوا مواقعهم أيضًا بالشوارع، ولم يبق لأردوغان إلا أن يوجه دعوة للمواطنين المدنيين ليخرجوا إلى الشوارع ويشكلوا بأجسادهم ودمائهم “الصورة” التي كان يريدها.
يشدّ الكاتب طارق طوروس الانتباه إلى نقطة بالغة الأهمية وهي كذلك أساسية في إحاطة حقائق الانقلاب المزعوم، حيث يقول: “لا يمكن تنفيذ أي انقلاب عسكري إلا بالتنسيق بين القادة والجنود، ولا بد أن يتم على مرحلتين؛ مرحلة التخطيط ومرحلة التنفيذ.. أما في الحالة التركية فلا نرى القيادة العليا ولا نرى خطة الانقلاب ولكن نرى بضعة جنود سيطروا على جسر البوسفور ونفذوا أمر الانقلاب! من الواضح أن الذين نفذوا هذا الأمر وقعوا في الفخ.. ومن جانب آخر نلاحظ أنهم كلفوا المدنيين بمهمات وأصدروا لهم توجيهات أيضًا.. فالمدنيون كذلك أخذوا مواقعهم في الشوارع لتوجيه الأحداث وتشكيل المناخ اللازم لصنع صراع بين هذين الطرفين”.
هكذا تشكلت الفوضى اللازمة جراء التقاء طلاب عسكريين “مخدوعين”، ومليشيات “موظفين”، ومدنيين “موجهين” على جسر البوسفور وأسفرت عن استشهاد أكثر من 250 شخصًا، وقصف مقر العمليات الخاصة والبرلمان بالمتفجرات. ورغم أن كل شخص كان لديه قصة مختلفة في تلك الليلة لكن الحكومة حذفت جميع تلك القصص والروايات وأبقت على قصتها هي فقط، ومن ثم أعلنتِ الجميعَ انقلابيين، بمن فيهم أولئك الذين عارضوا الانقلاب وقاموا بحماية أردوغان، بل أولئك الذين كانوا راقدين في فراش المرض.
أ.د جورسيف بِيرْكَه كان عقيدًا في القوات الجوية أثناء أحداث 15 يوليو 2016، وذهب في تلك الليلة، بناءً على أوامر قائده، إلى أكاديمية القوات الجوية، حيث يعمل كعضو هيئة تدريس، ودعا زملاءه إلى الأكاديمية حسب القائمة التي تسلمها، ثم طالبه قائده بالذهاب مع طلاب الأكاديمية إلى الخطوط الجوية، بمن فيهم غيرُ الحاضرين، ولكن بعد ذلك وجد نفسه في خضمّ أحداث لم يتوقعها أبدًا.
يعقب جورسيف بِيرْكَه على تلك الليلة المشئومة قائلا: “من الواضح أنه كان فخًّا.. فقد رتب مجموعة معيّنة هذا الأمر ثم اختفوا من الساحة كانت هناك قائمة تضم 20 طالبًا من السرب الثاني و20 آخر من السرب الثالث.. كانت هناك قائمة بها أسماء معينة فقط.. عندما علمت ذلك أُصبت بالدهشة وضحكتُ قائلاً: لا بد أن هذه مزحة؟ رد فعلي هذا أثار غضبَ قائدي بالطبع. قلتُ لقائدي: وماذا سنقول للشرطة في الطريق؟ عندها أظهر لي الأمر الصادر من القوات المسلحة. فوجئتُ بذلك أيضًا. ثم قال لي قائدي: أعتقد أنك لن تفهم، عليك الذهاب وتنفيذ الأمر فقط”.
يواصل العقيد قائلا: “انطلقت وفق الأمر وقابلت هناك عقيدًا -توفي لاحقًا في سجن سيليفري- وآخرين من الزملاء. لم يكن يعلم أحد أي شيء عن أمر الانقلاب.. لم يقل ولو واحد منهم بأنه كان يعلم الأمر من قبل.. بل جميعهم فوجئوا بما حدث. عقولنا لم تستوعب ما شاهدته عيوننا! وقلنا: يا له من شيء سخيف! قلنا: لماذا يمنع هؤلاء الجنود حركة المرور على الجسر يوم الجمعة يا ترى؟ كان هناك زميل غريب الأطوار قال لي: إن هذا انقلاب مختلف، ثم ندب حظَّه قائلًا: لِمَ لم أتقاعد في يناير الماضي!؟ أما أنا فقلت له: لا تكن سخيفًا! الانقلاب لا يكون هكذا؟ فرغم أننا لم نكن نتولى مهام عسكرية في الساحة لكن كان من الواضح جدا أن الانقلاب لا يكون هكذا، بل على العكس فكرنا أن هذه الخطوة تهدف إلى تحريك وتوجيه الناس لأمر وهدف معين”.
بينما يلفت الصحفي والمنتج الوثائقي جوركان لورنتزن إلى أنهم كانوا في تركيا ليلة الانقلاب ويكشف أول انطباعاته عن أحداث تلك الليلة قائلا: “أول شيء تبادر إلى عقولنا هو أنه تجري أمور غير طبيعية.. فمثلاً دأب الانقلابيون على إسكات صوت وسائل الإعلام قبل كل شيء، ومنع الناس من إرسال الرسائل.. فمثلاً كان من المفروض أن يمنعوا أردوغان من إجراء مكالمته الهاتفية عبر برنامج فيس تايم.. كانت هناك أخطاء كثيرة في تلك الليلة لا تتناسب مع طبيعة الانقلابات العسكرية.. فهذا ما تقوله لنا التجارب التي خلفها لنا تاريخ الانقلابات في العالم.. شكوك الناس منذ اللحظات الأولى فيما يحدث أثار عندي كصحفي تساؤلات بطبيعة الحال”.
من جهة أخرى، رصد الصحفي والكاتب بولنت كوروجو الأيام الخمسة السابقة للانقلاب ليكشف الآثار والبصمات التي أنبأته قبل وقوعه بالفعل، ويشير إلى أنه تبرز ثلاثة تطورات مهمة في هذه الفترة الزمنية تظهر كيف استعد أردوغان وشركاؤه لهذه الليلة الحاسمة، أولها: توقيع الحكومة على معاهدة بروكسل للدفاع المشترك بعد تأجيلٍ دام 60 عامًا ووضْعه موضع التنفيذ.. فهذه المعاهدة كانت تنظّم قواعد استعادة المتورطين في عمليات اغتيال الرئيس من دول أجنبية.
يقول بولنت كوروجو: “إنهم أعدوا مسرحية في بلدة “مارماريس” (التي كان يقضي فيها أردوغان عطلته ليلة الانقلاب)، لتشكيل انطباع وكأن أردوغان (الرئيس) تعرض لمحاولة اغتيال.. حسنًا فلماذا احتاجوا إلى سيناريو محاولة الاغتيال يا ترى؟ جواب هذا السؤال يكمن في توقيعهم على معاهدة بروكسل في 11 يوليو 2016.. بمعنى أنهم خططوا لخلق ذريعة قبل 5 أيام من الانقلاب (لاستعادة من سيتهمونهم بتدبير الانقلاب إلى تركيا)”.
كما أن كوروجو ينوه بأن الحكومة أقدمت أيضًا على استصدار قانون مشابه لما سمي “بروتوكول أماسيا” من البرلمان على عجل في 13 يوليو، أي قبل 3 أيام من الانقلاب، وهو القانون الذي ينص على تضامن الشرطة والأمن العام في الأحداث المجتمعية، ثم يردف بقوله: “إنهم سنّوا هذا القانون وخولوا السلطة إلى العسكر وقدموا لهم الضمان القانوني، وفي الوقت ذاته عملوا على إثارة جاهزيتهم النفسية لهجمات إرهابية كبيرة.. ولذلك دفع الإنذار المفبرك عن وقوع هجوم إرهابي كثيرًا من الجنود للخروج إلى الشوارع ليلة الانقلاب”.
أما التحرك الثالث المريب الذي يعتبر من إرهاصات الانقلاب المدبر، وفق بولنت كوروجو، فهو أن قادة مواطئين مع السلطة السياسية في تلك الليلة يدعون قبل أسبوع من الانقلاب مجموعة من الأسماء العسكرية للمشاركة فيما يسمى بـ”عمليات غير تقليدية”.. لنستمع إلى تصريحاته كوروجو: “هذا يعني أن مقر هيئة الأركان العامة يواجه هجمات إرهابية. ومن ثم يتم تشكيل فريق من القوات الخاصة، في إطار التعليمات الشفهية والخطية التي يصدرها الجنرال زكائي أكساكالي المزعوم بأنه أنقذ تركيا من خطر الانقلاب! ولذلك نرى أن فريقًا من القوات الخاصة توجهوا إلى هيئة الأركان العامة ليلة الانقلاب”.
التفسير الذي قدمه أحد الجنود المتجهين إلى مقر الأركان العامة ليلة الانقلاب يؤكد صحة ما كشفه الكاتب كوروجو، حيث قال ذلك الجندي في وجه الكاميرات في نفس الليلة: “نظرا لأننا نعمل ضمن قوات دعم سلطات إنفاذ القانون، فقد كنا نذهب من وقت لآخر لدعم قوات الأمن والدرك في التصدي لأحداث مجتمعية.. هذا الفريق مخصص لدعم سلطات إنفاذ القانون في أحداث مجتمعية.. قائد الفوج هو الذي يكلف أعضاء الفريق بهذه المهمة عن طريق أمر خطي.. أسماء معينة من الفريق تتولى هذه المهمة”، مما يعني أن قائدهم من وجه القوات العسكرية إلى مقر الأركان بعدما مهدت السلطة السياسية الطريق لهم من خلال هذا القانون الذي سنته قبل 3 أيام من الانقلاب.
ومن اللافت أن قائد القوات الخاصة زكائي أكساكالي كان يؤكد قائلاً: “أنا على رأس فريقي وأوجههم”، وذلك في مكالمة هاتفية أجراها ليلة الانقلاب على الهواء مباشرة مع إحدى القنوات التلفزيونية الواقعة تحت سيطرة المستشار الإعلامي نوح يلماز.. وفي نفس اللحظة التي ردد فيها هذه الكلمات على شاشة التلفزيون، كان الجنرال أكساكالي ينتظر العميد سميح ترزي من القوات الخاصة، حيث استدعاه من مندينة شرناق شرق تركيا إلى أنقرة ليستدرجه إلى فخ ويدفنه مع الأسرار التي كان يعرفها. وعلى الرغم من أنه لم يكن له أي علاقة بأحداث الانقلاب إلا أنه أُعلن انقلابيا في وقت لاحق وتم قتله على يد الضابط عمر خالص دمير بأمر الجنرال أكساكالي، مما أثار تساؤلات حول الأسباب التي أوجبت التخلص منه بدعوى الانقلاب.
الكاتب الصحفي آدم ياوز أرسلان يتعرض لهذه الحادثة قائلا: “بعد مقتل العقيد سميح ترزي على يد عمر خالص دمير يأتي هذه المرة جندي آخر مدعو مهرالي أتماجا ويقتل هذا الأخير أيضًا.. بعد إطلاق النار عليه يسقط عمر خالص دمير جريحًا على الأرض ويأتي مهرالي أتماجا يطلق النار مرة أخرى على صدره ليتأكد من مقتله بينما كان على وشك الدخول إلى المقر.. وبعد كل ذلك يتوجه الجنرال أكساكالي لتهنئة مهرالي أتماجه بعد نجاحه في مهمته.. علاقات متداخلة ومعقدة جدا! وذلك رغم أن سميح ترزي لم يلعب أي دور في الانقلاب، بل تم استدعاؤه إلى أنقرة لمهمة معينة مع بسط سجادة حمراء تحت قدميه إن صح التعبير.. إنها المرة الأولى في تاريخ القوات المسلحة يقوم جندي بتصفية قائده”.
ومن ثم يميط الكاتب الصحفي اللثام عن السبب الحقيقي الذي استدعى مقتل العقيد ومقتل من قتله أيضًا قائلا: “تعمدوا اختيار سميح ترزي بشكل خاص، حيث كان على دراية بالجرائم التي ارتكبتها الحكومة في العمليات الخارجية”.
موقع “نورديك مونيتور” السويدي حصل في 2020 على وثائق جلسة محاكمة العقيد، فرات ألاكوش، الذي عمل بقسم الاستخبارات في قيادة القوات الخاصة قبل اعتقاله بتهمة الانقلاب، وقد أعلن في شهادته أن الهيئة العامة للأركان كانت كلفت سميح ترزي بالعمل على الملف السوري، ولذلك كان يعلم جميع تفاصيل العمليات غير القانونية التي تجريها الحكومة التركية عبر الحدود. وقال أمام المحكمة الجنائية العليا بأنقرة في 20 مارس 2019 إن الفريق زكاي أكسكالي قد أمر باغتيال العميد سميح ترزي، لاكتشافه أنه كان يعمل سراً مع جهاز الاستخبارات في إدارة العمليات السرية غير المشروعة في كل من سوريا وليبيا والعراق بهدف تحقيق مكاسب شخصية وجر تركيا بشكل أعمق في الحرب الأهلية السورية.
ومما قال العقيد ألاكوش في جلسة محاكمته أن سميح ترزي كان يعرف “مقدار التمويل مما تم تسليمه [إلى تركيا] من قبل قطر بغرض شراء أسلحة وذخيرة للمعارضة السورية، ومقدار التمويل الذي استخدمه المسؤولون الحكوميون بالفعل، ومقدار ما تم اختلاسه.. وهوية الشخصيات الحكومية المتورطة في عمليات تهريب النفط من سوريا، وكيف تم تقاسم الأرباح.. وجلب كبار قادة الجماعات المتطرفة المسلحة لتلقي العلاج في تركيا تحت ستار قوات الجيش السوري الحر ومقدار الأموال التي تلقوها كرشاوى مقابل الخدمات المقدمة”.
العقيد ألاكوش الذي شغل منصبًا يتيح له معرفة المعاملات السرية كرئيس لوحدة الاستخبارات في قيادة القوات الخاصة بين عامي 2014 و2016 شدد على أن ما ذكره كان السبب الفعلي وراء اغتيال سميح ترزي بعد استدعائه إلى أنقرة بحجة توفير الأمن في مقر قيادة القوات الخاصة ضد تهديد إرهابي في العاصمة. وتابع: “وكذلك كان على علم وثيق بمفاوضات الرهائن مع داعش التي أجراها جهاز الاستخبارات من أجل الإفراج عن الأتراك الذين جرى احتجازهم عندما اقتحم تنظيم داعش القنصلية التركية في الموصل. بعض الأموال التي منحتها تركيا لداعش قد أخذها في الواقع مسؤول تركي استخدم الأموال المختلسة لشراء ما يقرب من عشرين شقة في أنقرة”.
كما كشف ألاكوش أن سميح ترزي كان يعرف جيدًا كيف تم تحويل مسار النفط المأخوذ من داعش في سوريا إلى تركيا من خلال حكومة إقليم كردستان العراقية بمساعدة سياسي محلي بارز في كردستان وبالتعاون مع مسؤولين حكوميين أتراك وباستخدام قدرات وكالة حكومية تركية ومقدار العمولة التي أخِذَت”.
وهذا القدر من المعروفة العميقة بالعمليات المحظورة بموجب القانون التركي والدولي كان سببًا كافيًا للتخلص من هذا العقيد النبيل، مما يكشف أن التستر على الجرائم كان من بين أهداف هذا الانقلاب المفبرك.