بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – فوجئ الأتراك في ليلة 15 يوليو 2016 عندما فتحوا شاشة التلفزيون الرسمي؛ حيث كان يتم قراءة بيان يزعم أنه صدر من القوات المسلحة يعلن السيطرة الكاملة على إدارة البلاد، لكنهم، خاصة من عايشوا الانقلاب العسكري في 1980، لم يستطيعوا أن يستوعبوا توجه عدد محدود من الجنود إلى جسر البوسفور وإغلاقه على حركة المرور.
كان المشهد بعيدًا عن الإقناع، حيث دأب العسكر على الإعلان عن السيطرة على إدارة البلاد في ساعات الصباح بدلا من الليل، ولم يكن جسر البوسفور هدفًا لأي من الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدتها تركيا منذ الانقلاب الأول في 1960، مما أثار شبهات حول حقيقة ما يحدث.
لفهم ما حدث في ليلة 15 يوليو 2016 من الضروري العودة إلى محطة أنقرة قبل 9 أشهر من أحداث الانقلاب المزعوم.. ففي الساعة 10:04 من 10 أكتوبر 2015 شهدت العاصمة أنقرة أعنف تفجير دموي في تاريخها وسط حشود كانت تتظاهر “من أجل السلام والاعتراض على إقحام تركيا في الحرب السورية”، مما أسفر عن مقتل 107 أشخاص وإصابة 500 آخر، وفق الأرقام الرسمية، وكان معظم الضحايا من المواطنين الأكراد.
تفجير المحطة لم يكن الأول من نوعه في ذلك العام.. ولم يكن الأخير.. لقد فقد مئات الأشخاص حياتهم في 12 هجومًا إرهابيًّا وقع بين يونيو 2015 ويوليو 2016، وكان الضعف الاستخباراتي السمة البارزة في معظم هذه الأحداث الإرهابية..
كانت تركيا دخلت في دوامة هذا العنف بعد انتخابات 7 يونيو 2015، حيث خسر حزب أردوغان لأول مرة قدرته البرلمانية على تشكيل حكومة منفردة، بسبب حصول حزب الشعوب الديمقراطي “الكردي” على 80 مقعدًا في البرلمان، وذلك في وقت كان يتجه لنقل تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وكان يقول في لقاءاته الجماهيرية: “أعطونا 400 برلماني حتى يتم حل هذه المسألة بشكل سلمي”؛ في حين كان زعيم الحزب الكردي صلاح الدين دميرتاش يقول: “السيد رجب طيب أردوغان.. لن نسمح لك بأن تكون رئيسًا تحت النظام الرئاسي..”.
وفي هذا الصدد يقول الصحفي والكاتب لافنت كنز: “كان أردوغان طالب الشعب بإرسال 400 مرشح من حزبه إلى البرلمان.. لماذا؟ من أجل تغيير الدستور دون الحاجة إلى إجراء استفتاء عام. أردوغان نفسه قال إنه إذا فشل حزبه في تحقيق هذا العدد فلن يتمكن من تغيير الدستور بطرق سلمية. لماذا تخلى أردوغان عن مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني.. لأنها جاءت في صالح الحزب الكردي؛ إذ قدم أداءً رائعًا ومنع حزب أردوغان من تشكيل حكومة منفردة عقب انتخابات 7 يونيو 2015”.
وفي نفس الموضوع يقول الكاتب الصحفي الآخر من التيار اليساري أحمد نَسين: “نتائج انتخابات 7 يونيو 2015 كانت بمثابة صفعة قوية لكل من أردوغان والجيش والدولة العميقة كنتيجة طبيعية لمفاوضات السلام الكردي.. بعد الهزيمة عقدوا اجتماعًا ناقشوا فيه احتمالية حصول الحزب الكردي على مقاعد برلمانية في الانتخابات القادمة أكثر مما حصل عليه في الانتخابات السابقة.. وبالتالي أن يصبح حليفًا للحكومة ويشارك في اجتماعات مجلس الأمن القومي.. لكنهم لا يرون الأكراد من جملة البشر ويقولون: كيف نسمح لهم بالمشاركة في هذه الاجتماعات! ذلك الاجتماع كان بداية الانقلاب القادم!”، على حد تعبيره.
بعد انتخابات 7 يونيو 2015 لم يرضَ أردوغان بتشكيل حكومة ائتلافية مع أي حزب معارض، وقرر إعادة الانتخابات بعد التحالف مع حزب الحركة القومية، لتصبح تركيا مع هذا القرار على صفيح ساخن وتقع هجمات إرهابية في كل مكان واحدة تلو أخرى، بحيث وصلت المخاوف الأمنية في البلاد إلى أوجها.
تركيا كانت تعاني من ضعف شديد من الناحية الأمنية والاستخباراتية في تلك الأيام، حتى إن الهجمات الإرهابية كانت قد وصلت إلى مقر القيادة العليا للقوات المسلحة، إذ تم تفجير عبوة ناسفة أثناء خروج مركبات الخدمة العسكرية في شارع “مراسم” بالعاصمة أنقرة، مما أفضى إلى مصرع 29 شخصًا. والطامة الكبرى أن ذلك الهجوم العنيف وقع على مسافة تبعد من البرلمان 5 دقائق ومن رئاسة الأركان عدة دقائق فقط سيرًا على الأقدام..
ولا بد أن نذكّر أن أردوغان كان نقل في 2012 قيادة الأنظمة الإلكترونية لهيئة الأركان العامة (GES)، التي كانت تعتبر أكثر المؤسسات تجهيزًا في مجال التجسس والاستخبارات، إلى جهاز المخابرات بقيادة هاكان فيدان بكامل فريقها ومعداتها، ليفقد الجيش “أذنه” في مواجهة المؤامرات التي حاكها أردوغان ضده على فترات زمينة حتى مؤامرة انقلاب 2016.
ومن المثير أن الصراع المسلح “المصطنع” بين اليساريين واليمينيين قبل الثمانينات كان قدم لرئيس الأركان العامة في تلك الفترة الجنرال كنعان أفرين الذريعة اللازمة لتنفيذ انقلابه العسكري في 1980، لينتهي معه هذا الصراع بين ليلة وضحاها، أما في عهد أردوغان فالصراع المسلح “المصطنع” أيضًا بين عناصر حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش ما بين 2015 و2016 هو الذي استدعى انقلاب 2016، لينتهي هذا الصراع أيضًا بالطريقة ذاتها، بعدما حقق أهدافه!
قدمت الانتخابات المعادة في 1 نوفمبر 2015 الحكومة المنفردة لحزب العدالة والتنمية مرة أخرى، تحت قيادة أحمد داود أوغلو، بفضل الرياح “الإسلامية” و”القومية” التي أثارها لعبة “الإرهاب” بين العمال الكردستاني وداعش، إلا أن هذا النصر لم يجلب له الحظ ولم يقطف من خلاله الثمار المرجوّة.
يعلق الكاتب الصحفي لافنت كنز على ما وقع في تلك الأيام قائلا: “عندما قاوم داود أوغلو النظام الرئاسي قرر أردوغان التخلص منه.. إذ قال داود أوغلو بعد انتخابات 1 نوفمبر 2015 بأن الشعب لم يوافق على النظام الرئاسي بل ساند استمرار النظام البرلماني الحالي. وما مضى وقت حتى تم الإطاحة به من منصب رئيس الحكومة بعد 6 أشهر عبر انقلاب من داخل الحزب الحاكم دبرته مجموعة البجع”، وهي مجموعة إعلامية وبيروقراطية تحت قيادة برات ألبيراق، صهر أردوغان.
ولذلك خرج داود أوغلو في عام 2019 وأدلى بتصريحات صادمة كشف من خلالها “إرهاب” و”انقلاب” أردوغان قائلاً: “كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء وحزب العدالة والتنمية من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 تموز 2016، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مغلوط”، ومن ثم هدده بكشف “دفاتر الإرهاب” قائلاً: “لو تم إعادة فتح دفاتر الإرهاب لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس”، في إشارة إلى توظيفه الإرهاب لاستعادة الحكومة المنفردة في انتخابات 2015 المعادة.
أما بن علي يلدريم الذي تسلم منصب رئيس الحكومة من داود أوغلو فقد تعهد لأردوغان بسنّ النظام الرئاسي، وكان قال للجماهير في أولى خطاباته: “هل أنتم مستعدون للدستور الجديد والنظام الرئاسي؟!”.
بعد هذا العنف المتصاعد بسبب الهجمات المتبادلة بين العمال الكردستاني وداعش بعدها دخلت إلى أجندة تركيا “ادعاءات تخطيط الجيش لانقلاب عسكري”، وقد عمل رئيس أركان تلك الفترة الجنرال خلوصي أكار نفسه على نشر تلك الادعاءات بين العسكر في إطار “صفقته” مع أردوغان ليحصل بفضلها بعد نجاح المؤامرة على منصب وزير الدفاع ويصبح الاسم الوحيد الذي يمسك بزمام الأمور في الجيش والوزارة معًا.
وفي هذا الموضوع يعبر الكاتب الصحفي آدم ياوز أرسلان عن دهشته من تحركاته قائلا: “هل يمكن أن تتصور أن رئيس أركان تلك الفترة خلوصي أكار يدلي بتصريحات سياسية وينتقد فيها أردوغان في كل الأوساط.. بهذه الطريقة يحضّر الجيشَ من داخل المؤسسة العسكرية ويخلق انطباعًا بأن القيادة العليا قلقة ومستاءة من أردوغان.. الأمر الذي يقود كثيرًا من القادة إلى الاعتقاد بأن خلوصي أكار سيفعل شيئًا ما”.
وهذا ما يؤكده العقيد المتقاعد جورسيف بِيرْكَه إذ يقول: “تم تهيئة الأجواء بصورة تدريجية، وكنا جميعا متوترين.. في الأسبوع السابق للانقلاب كنا نتلقى باستمرار معلومات وتقارير من جهازي الأمن والمخابرات تقول بأن القوات الجوية سوف تتعرض لهجوم إرهابي.. كان من الواضح أن شيئًا ما سيحدث.. لكننا لم نتوقع حدوث شيء كهذا، بل كنا نظن عندما استدعونا إلى الأكاديمية العسكرية أن الأمر بسيط وهو مجرد متابعة الحضور والغياب ثم العودة إلى منازلنا”.
في حين يقول الضابط في قيادة القوات البحرية في ذلك الوقت فوزي قطران: “نحن عسكر ليس بيدنا سوى الطاعة للأوامر الصادرة إلينا.. ولما أمرونا بالانتقال إلى هناك استجبنا للأمر بطبيعة الحال.. لنفترض أن الجنود كانوا سينفذون انقلابًا دون علم رئيس الأركان خلوصي أكار، لكنه علم في وقت لاحق بمخطط الانقلاب؛ نظراً لأنه كان مستمر مع رئيس جهاز الاستخبارات الذي كان لديه كل التقارير الخاصة بالمخطط الانقلابي، وفق ما أعلنوا. إذن كان عليه أن يقوم بشيء بسيط للغاية لمنع الانقلاب قبل حدوثه وهو: إصدار أمر لكل الكتائب: لا يخرج أحد من كتيبته! فهل أصدر رئيس الأركان هذا الأمر ولم يلتزم به الجنود؟ لكنهم لم يصدروا هذا الأمر أبدًا، رئيس الأركان لم يصدر أيَّ أمر في هذا الاتجاه”.
ولذلك نرى أن أحد الجنود يحاول أن يفسر ما حدث في ليلة الانقلاب في تصريحات لإحدى القنوات التلفزيونية في وقت كانت الأحداث مستمرة قائلا: “قالوا لنا إننا سنذهب لمساعدة الشرطة، وفجأة وجَدْنا أنفسنا أمام مكتب المحافظ وكأننا حاصرناه.. لم نكن على علم بأمر الانقلاب، بل علمنا وشاهدنا كل الأحداث عن طريق التلفزيون”.