بقلم: ياوز أجار
في نهاية سلسلة هذه المقالات سوف يخلص الجميع بكل سهولة إلى أن ما سمي بالانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016 هو الحلقة الأخيرة من مسلسل الانقلابات التي نفذها أردوغان على مدار العقد الثاني من حكمه على أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
بعد نموذج الحكم الفاشل الذي قدمه كل من العلمانيين والإسلاميين والقوميين “المتطرفين” حتى تسعينات القرن الماضي، والذي أحدث استقطابًا حادًا بين جميع طوائف الشعب، ظهر تيار جديد يدعو لنبذ تطرُّف هذه الطوائف الثلاث والالتقاء تحت مظلة الاعتدال والتوازن.
هذا التيار الذي يعود الفضل الكبير في نشوئه وصعوده إلى الرئيس الأسبق طورغوت أوزال سياسيًّا، وملهم حركة الخدمة فتح الله كولن مدنيًّا، كان يدعو إلى تجنب الاستغلال/التوظيف السياسي لكل من العلمانية والإسلامية والقومية، والتركيز على القيم الإنسانية المشتركة بحيث يعيش كل شخص بكل حرية ما لم يلجأ إلى العنف. بمعنى أنه كان يدعو إلى طريق وسط بعيدًا عن التطرف والمغالاة.
أصبح هذا التيار أو النموذجُ الصاعدَ في تركيا منذ التسعينات بعدما عانى شعبها بشتى طوائفه الدينية والإثنية والفكرية من التوجهات الثلاثة المتطرفة. وقد توجه أردوغان إلى ركوب أمواج هذا التيار الذي اعتقد أنه أفضل وسيلة يمكن أن تحمله إلى السلطة، معلنًا رفضه لميراث أستاذه نجم الدين أربكان؛ الذي يعتبره الكثيرون الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا.
بمعنى أنه تعهد بالسير في الطريق الذي شقه أوزال وكولن وأمثالهما من القادة السياسيين والمدنيين، لكن العقد الثاني من حكمه أثبت أن اختياره لهذا التيار لم يكن نابعًا من قناعة داخلية راسخة بل كان خطوة تكتيكية عابرة ليستغل عقده الأول في التوسع والتمدد ويعود إلى أجندته الذاتية عند أول فرصة سانحة.
تضليل استخباراتي لإيقاع الجيش
“نية أردوغان المبيتة” لتصفية أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني التي اعتقد أنها قد تعرقل عملية ارتقائه إلى قمة السلطة بطرق غير ديمقراطية، ومن ثم صيرورته إلى “الرجل الأوحد” في البلاد “ظهرت إلى السطح” في 28 ديسمبر 2011؛ حيث حيث استدرج الجيش إلى فخّ ومؤامرة مدروسة جيدًا تسبّبت في وقوع ما سمى بـ”حادثة أولو دره” أو “روبسكي”، التي قصفت فيها مقاتلات، بناء على تضليل جهاز المخابرات، 34 كرديًّا مدنيًّا يمارسون تهريب بضائع على الحدود العراقية – التركية على أنهم إرهابيون يستعدون للهجوم على تركيا، مما أوقع الجيش في موقف صعب للغاية.
هذه الحادثة وقعت في وقت كانت الحكومة نفذت إصلاحات للاعتراف بحقوق الأكراد والإقلاع عن الممارسات السابقة من جهة، وتعرض فيه جنرالاتٌ على صلة بتنظيم أرجنكون / الدولة العميقة دأبوا على استغلال “المشكلة الكردية” لتمرير مشاريعهم، للتصفية أو التهميش من جهةٍ ثانية؛ وبدأت القوات الأمنية والعسكرية تكافح بمفهوم جديد يحتضن المواطنين الأكراد ويكافح ضد عناصر حزب العمال الكردستاني الإرهابي بـ”احترافية” لا يتضرر معها المدنيون من جهة ثالثة؛ وفتحت السلطات القضائية تحقيقات ضد “العقل المدبر” أو الجناح المدني لهذا التنظيم الذي يسمى بـ”اتحاد المجتمعات الكردستانية” (كي سي كي) من جهة رابعة.
مع أن هذا كان تطورًا إيجابيًّا في سبيل تسوية القضية الكردية المزمنة بعد أن وضعت الشعب الكردي بين سندان العمال الكردستاني ومطرقة المفهوم الأمني والعسكري الصرف لمكافحة الإرهاب لأربعة عقود، إلا أن أردوغان كان يريد حلّ هذه القضية بطريقة تقدم له “أصوات الأكراد” على طبق من ذهب، وتوفر له ذريعة لوقف تلك العمليات الأمنية والعسكرية الناجحة ضد عناصر العمال الكردستاني.
بعد عام واحد من مؤامرة القصف الخاطئ التي تعرض لها الجيش، وتحديدًا في 29 ديسمبر 2012، أمر أردوغان بوقف العمليات الأمنية والعسكرية ضد مليشيات العمال الكردستاني المسلحة، وفي الوقت ذاته أمر رئيس مخابراته هاكان فيدان بالبدء في إجراء مفاوضات مع زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في محبسه بدعوى إقامة السلام الكردي.
لقد حمّلت كل من وزارة الداخلية ورئاسة هيئة الأركان العامة جهاز المخابرات برئاسة هاكان فيدان، الذي يصفه أردوغان بـ”كاتم أسراري”، مسؤولية الغارة الجوية “الخاطئة”، وذلك بسبب تقديمه معلومات مضللة إليه حول تخطيط فهمان حسين؛ أحد زعماء العمال الكردستاني، لهجوم إرهابي في المنطقة المذكورة، مما أوقع الجيش في خطأ قاتل ترك انطباعًا بأنه غير محترف في عملية التنصت والاستخبار بشأن الإرهاب.
وقد وصف وزير داخلية تلك الفترة (2010-2011) إدريس نعيم شاهين حادثة أولودره بأنها “مؤامرة مدبرة من قبل جهاز المخابرات ضد الجيش”، وذلك بعدما أقاله أردوغان عقب بدء مفاوضات السلام الكردي بـ”رجاء خاص” من زعيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي عبد الله أوجلان، على حد تعبير الوزير نفسه.
لكن أردوغان تذرع بوقوع الجيش في هذا الخطأ بسبب مؤامرة دبرها جهاز مخابراته للبدء في تصفية أعضاء الجهاز البيروقراطي الأمني الناجحين في مكافحة الإرهاب بصورة تدريجية، وعلى رأسهم وزير الداخلية كما ذكرنا والأسماء المقربة منه؛ وفي الوقت ذاته أقدم على خطوة خطيرة للغاية شكلت سقوط أول حجر من أحجار الدومينو في الجيش لتكتمل هذه المرحلة بسقوط حجره الأخير في انقلاب 15 يوليو 2016؛ ألا وهي: نقل قيادة الأنظمة الإلكترونية لهيئة الأركان العامة (GES)، التي كانت تعتبر أكثر المؤسسات تجهيزًا في مجال التجسس والاستخبارات، إلى جهاز المخابرات بقيادة هاكان فيدان بكامل فريقها ومعداتها. وهكذا “فقد الجيش أذنه” في مواجهة المؤامرات التي كان سيحيكها أردوغان ضده على فترات زمينة في الأعماق مع حلفائه الجدد من قادة الدولة العميقة.
كان الجهاز البيروقراطي الأمني والعسكري هو أفضل من يعرف معنى وخطورة هذه الخطوة.. فقد كان طرغوت أوزال الذي أصبح رئيسا للوزراء في (13 يناير 1983 – 9 نوفمبر 1989)، ثم رئيسا للجمهورية في (9 نوفمبر 1989 – 17 أبريل 1993)، أجرى تعديلات على القانون الذي يحدد وظائف وصلاحيات الشرطة، فأسس بموجب ذلك “شعبة الاستخبارات الأمنية” التابعة لرئاسة الأمن العام الخاضعة للحكومة، بعد أن كانت الدولة تعتمد على المخابرات الوطنية التي كان يتم اختيار رؤسائها وشخصياتها البارزة من العسكر أو العناصر المدنية التي سبق أن عملت في وحدة العمليات الخاصة / التعبئة التكتيكية التي نشأ وترعرع فيها تنظيم “الدولة العميقة”. وعلى الرغم من أنّ إجراء انقلاب على مدار كل عشْر سنوات كان عادة عسكرية في تركيا، إلا أن وجود الاستخبارات الأمنية حال دون حدوث انقلاب في عهد أوزال، إذ كان يتلقى معلومات عن أدنى تحرك في الجيش عبر تلك الشعبة بفضل أجهزة التنصت التي كانت تمتلكها، على النقيض مما كان في السابق، حيث لم تبلغ المخابرات الوطنية الحكومات المنتخبة بأي تحركات عسكرية قبل وقوع ونجاح الانقلابات الثلاثة السابقة (1960 و1971 و1980). بمعنى أن جنرالات الدولة العميقة في الجيش كانوا يتواطئون مع رجالهم في المخابرات الوطنية وينجحون في تنفيذ الانقلابات على الحكومات وسط غياب شعبة الاستخبارات الأمنية قبل الثمانينات، وكان أوزال من أغلق صفحة الانقلابات العسكرية بفضل تلك الشعبة.
أما في عهد أردوغان (2011 – 2012) فكان الوضع مختلفًا من عدة نواحٍ؛ حيث كان الجيش والأمن قد تخلصا بنسبة كبيرة من عناصر الدولة العميقة، وشرعا يكتسبان صفة ديمقراطية بعيدًا عن التوجهات الانقلابية السابقة، لدرجة أن تركيا شهدت لأول مرة في تاريخها معارضة رئيس هيئة الأركان العامة (حلمي أوزكوك) للمخططات الانقلابية العسكرية الأربعة التي أطلق عليها “ساريكيز” (Sarıkız) أي البنت الصفراء، و”آي إيشيغي” (Ayışığı) أي ضوء القمر، و”ياكاموز” (Yakamoz) أي ومضة، و”ألديفين” (Eldiven) أي القفاز، مما حال دون سقوط حكومات أردوغان وتعرض العملية الديمقراطية في البلاد للانقطاع مرة أخرى. لكن عمليات أرجنكون هذه لم تستطع أن تتوسع حتى تشمل مَنْ تحصنوا وراء “قلعة جهاز المخابرات”. بل تفكيك منظومة الدولة العميقة في كل من الأمن والجيش دفع كبار رجالها إلى التحصن داخل المخابرات، مما يعني أن عقلها المدبر ما زال فعالاً وبالتالي كان بإمكانه تحريك عناصره في الجيش للانقلاب.
هذا الواقع كان يتطلب من أردوغان أن ينقل أنظمة التجسس والاستخبارات من أيدي “البؤرة العميقة” المتحصنة داخل جهاز المخبارت إلى يد المؤسسة العسكرية “الديمقراطية” ليحصن نفسه من خطر انقلاب جهاز المخابرات عليه. حتى لو لم يكن هنا أي داعٍ لذلك فإن المنطق البسيط كان يقتضي الإبقاء على تلك الأنظمة في يد الجيش لتكون عنصر توازن بين مؤسستي الجيش والمخابرات التي سبق أن تواطئتا في تنفيذ انقلاب على مدار كل عقد. لكنه لم يتخذ هذه الخطوة البسيطة والضرورية في آن واحد وترك الجيش بلا أنظمة الاستخبار والتنصت لكي يتواطأ فيما بعد مع جهاز المخابرات برئيسه الذي يصفه بكاتم أسراري وينقلب على هذا الجيش الضعيف، نظرا لأنه كان يراه أكبر عائق أمام تحقق أحلامه. وهذا هو السبب الذي حال دون نجاح الجيش في منع هجمات إرهابية بدأت تستهدف أبرز المقرات العسكرية منذ ذلك التاريخ، وكذلك مسرحية الانقلاب التي لعبها أردوغان مع عناصر الدولة العميقة في عام 2016.
تحالف مع الإرهابيين
بعد اقتلاع أذن الجيش، إن صح التعبير، تغاضى أردوغان عن دعوات المعارضة السياسية والمدنية لإجراء مفاوضات السلام الكردي بشفافية حتى لا تفتح الأبواب لأية مساومات سياسية سرية أو علنية بين الطرفين، وأسكت كلّ المعترضين على الطريقةِ المتبعة التي حولت التنظيم الإرهابي إلى الممثل الشرعي الوحيد للشعب الكردي، في حين همّشت حزب الشعوب الديمقراطي الشرعي العامل تحت المظلة البرلمانية.
هذه السياسة الجديدة اقتضت من أردوغان السعي لإقصاء حزب الشعوب الديمقراطي “الشرعي” لكي يكون حزب العمال الكردستاني “الإرهابي” البديل الأوحد للمواطنين الأكراد؛ ذلك لأن التنظيم الإرهابي والحزب الكردي الشرعي أشبه بالأواني المستطرقة، فإذا اشتدت شوكة أحدهما ضعف الآخر تلقائيا. ومع أن المنطق السليم كان يحتم العمل على اشتداد شوكة الحزب الكردي الشرعي كي ينتهي تنظيم العمال الكردستاني الإرهابي، وينتهي معه العنف والسلاح والإرهاب، الذي يمارسه منذ نصف قرن من الزمن، إلا أن مصلحة أردوغان، لا المصلحة الوطنية، كانت تفرض عليه العكس؛ حيث كان يعتزم نقل تركيا إلى النظام الرئاسي بدعم أوجلان المكلّف بتوجيه الشارع الكردي.
فقد نشرت جريدة “ملّيَتْ” في 28 فبراير 2013 تسريبات وردت إليها من “جهات مجهولة” تتضمن محاضر المحادثات التي دارت بين وفد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وعبد الله أوجلان في محبسه، بحضور مسئولين من المخابرات، في إطار “مفاوضات السلام الكردي”، لينكشف معها الغطاء عن “الوعود” التي قدمها أردوغان للتنظيم الإرهابي في إطار صفقة سياسية بين الطرفين.
بحسب تلك المحاضر، قال أوجلان للوفد الكردي الذي زاره في محبسه: “من الممكن أن نفكر في النظام الرئاسي ونتبناه، فنحن ندعم رئاسة السيد رجب طيب أردوغان. لذلك يمكننا الاتفاق معه على أساس هذا النظام الرئاسي. عندها لن أظل مسجونًا ولن يفرض علي إقامة جبرية، ولن نحتاج إلى عفو عام لمليشياتنا. لن يبقى هناك أي داعٍ لمثل هذه الأمور؛ لأننا سنصبح أحرارًا جميعًا”.
وهذا ما أكد صحته زعيم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي صلاح الدين دميرتاش في تصريحات أدلى بها للمحكمة بعد اعتقاله في 4 نوفمبر 2016 بتهمة “الإرهاب” عقب الانقلاب الفاشل. فقد قال دميرتاش أثناء دفاعه في المحكمة أن أردوغان تحالف مع زعيم حزب العمال الكردستاني في مسألة إقرار النظام الرئاسي. وكشف أن أردوغان أرسل إليه أحد وزرائه بورقة تحمل توقيع عبد الله أوجلان وتطالبه بدعم أردوغان في مسألة النظام الرئاسي والتراجع عن الترشح لرئاسة الجمهورية.
حسن بوكون، الكاتب في صحيفة “أيدينليك” المحسوبة على مجموعة دوغو برينجك زعيم حزب الوطن اليساري، الذي يعتبر حاليا حليف أردوغان من خارج الحكومة، زعم في مقال نشره في يونيو 2014، أن أردوغان التقى شخصيًا بعبد الله أوجلان، وذلك استنادًا إلى مصدرين مختلفين، أحدهما من داخل العمال الكردستاني ذاته، والثاني من حزب العدالة والتنمية الحاكم. وقد نقل عن مصدره الثاني قوله: “السيد طيب التقى بعبد الله أوجلان وجهًا لوجه، وأصبحت بذلك أصوات الأكراد مضمونة”. ثم أشار الكاتب إلى خروج عبد الله أوجلان من سجنه أكثر من مرة بمروحيات تابعة للمخابرات.
كل هذا يظهر كيف أقدم أردوغان على أولى خطواته الرامية إلى تصفية الأمن والجيش في سبيل الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني الذي آمن أنه سيفتح له أبواب النظام الرئاسي، وذلك على الرغم من أنه يوجه لجميع خصومه تهمة الصلة بهذا التنظيم الإرهابي.
–