بقلم: محمود خليل
الفن الإسلامي رؤية تكوينية
فالفن الإسلامي هو الذي استوعب الفنون البابلية والآشورية والساسانية والفرعونية والبيزنطية والرومانية والهندية والصينية والتركية… وأعاد صياغتها وتمثلها في صيغ إسبانية ومغاربية وعربية وسلجوقية وعثمانية ومغولية وفارسية حديثة، وأحسن إمدادنا برحيقها الخالص بعد أن سقاه بماء الإسلام، وأقام بناءه الجديد من منظور إسلامي أصيل، في التصوير، والزخرفة، والسجاد، والخزف، والخط، والعاج، والساج، والعمارة، والزجاج، والنسيج، والتطريز، والتشكيل، والتنوين، والتكوين، والأرابيسك.. وأغنى ذلك العطاء الحضاري كله عبر امتداد المدارس الفنية المتتابعة والمتواكبة من غانة إلى فرغانة ومن طنجة إلى جاكرتا.
ومن جملة الاستلهامات العقائدية الصحيحة المنبثقة من روح الدين وغاية الرسالة، يتم تمثل القيمة في المخيلة وتمثيلها في الواقع، ومن ثم يلعب الفن الإسلامي هذا الدور العريض والعميق في المنطلق الحضاري للأمة.
فالفن الإسلامي لم يتورط بهذا الشكل الديني الضيق، الذي ظن أن غاية الفن المقدس هي التجسيد الفني للتاريخ المقدس. والفن الإسلامي يقيم حوارية حية نابضة، دائمة التواصل والتفاصل بين ما سبق وما لحق من فنون، غايته منها تصوير الجمال وفق غايات الحق وأهداف الحقيقة.
وعلى هذا فالفن في عصرنا هذا، هو الموطد الأصيل والممهد اللائق والرافد الأول للتربية الوجدانية والسلوكية التائهة في حياة المسلم التائه المعاصر.
ولا مراء في أن موضوع “الفن” موضوع في غاية الخطر والأهمية، لأنه يتصل بوجدان الشعوب ومشاعرها، ويعمل على تكوين ميولها وأذواقها واتجاهاتها النفسية، بأدواته المتنوعة والمؤثرة مما يسمع أو يقرأ أو يرى أو يحس أو يتأمل.
ولا مراء في أن الفن كالعلم، “فهو وسيلة إلى مقصد حكمه حكم مقصده، فإذا استخدم في حلال فهو حلال وإذا استخدم في حرام فهو حرام”.
فحاجة الإنسان إلى الزينة والجمال والوجدان والحب كحاجته إلى اللباس والأكل والشرب. والمسلم المصلح هو من يمتلك فقه المواءمة والملاءمة عن جدارة واستحقاق، ويكون مؤهلاً لتوجيه الركب وتنوير الدرب.
الخطاب الفني السينمائي
وأما ما يتعلق بصناعة الشريط السينمائي من اقتصاديات وبُنى أساسية -فضلاً عن المحتوى الفني والأدبي والفكري- فيشار إلى أنها صناعة ثقيلة، تأتي في العمق من الصناعات التنموية المستديمة. ذلك لأن السينما هي فن الترسيخ التربوي الجميل الممتع غير المباشر، لكنه الأقوى والأبقى والأعمق أثراً، كما أنها (السينما) مهمة ضخمة وهائلة.
يتبقى بعد ذلك أن ندرك مدى أهمية الروافد المغذية لهذه الصناعة؛ من مؤلف، ومخرج، وكاتب سيناريو، وممثلين، وفناني ديكور، ومونتير، وسائر أصحاب التقنيات؛ من مونتاج، ومكياج، وإضاءة ومصور وطباعة وتحميض وتصوير وموسيقى وعرض وتوزيع ومهن أخرى مساعدة، تفوق الثلاثين مهنة، تتكامل وتتواصل لصياغة خليط بشري وتقني، منتج للشريط السينامائي الدّوار…
“إن كتابة النص علم، وكتابته في صورة حوار (سيناريو) علم، وإخراجه علم، وأداءه علم، وتنفيذه علم، وتسويقه علم… والإخراج الإذاعي غير الإخراج التلفزيوني، وغير الإخراج المسرحي، وغير الإخراج السينمائي…
وللإعلام اليوم فنون تعد بالعشرات تقوم عليها -أو على بعضها- معاهد وكليات، فيها دراسات عالية وعليا. وإذا أردنا أسلمة هذه الفنون فلن يتحقق ذلك إلا بالمتخصصين القادرين على إيجاد البدائل الإسلامية لما هو واقع الآن”.
علينا إذن أن نتقن كل هذه المفردات المكونة للخطاب الفني السينمائي، لكي نكسر الطوق ونتجاوز الحلقة المفرغة، ونوصل صوتنا إلى غيرنا، ممن وقعوا أسرى سماسرة التزوير والتزييف وقطاع الطرق الثقافية.
من أجل تحقيق هذه المقاربة وذلك التوازن، غدونا بحاجة ماسة إلى الفيلم والسهرة التلفزيونية والمسرحية والمسلسل والنشيد والرواية. لأننا بهذا -كما يرى الدكتور عماد الدين خليل- “سنغطي مساحة فارغة من الخطاب الفني والأدبي، وسنطرد الأعمال الرديئة ليس بمستواها الفني الصرف، وإنما بمضامينها الهابطة. وبمرور الزمن سينحسر الأسود لكي يأخذ الأبيض مكانه فيضيق الخناق عليه، وسيجيء اليوم الذي يجد فيه المسلم نفسه قادراً على تزجية الساعات الطيبة، قبالة أعمال أدبية وفينة ترضي ذوقه وأشواقه بصفته مسلماً، وتلبي حاجاته الجمالية والوجدانية بصفته مؤمناً”. فإذا تدين رجل الفن، وتفنن رجل الدين، التقيا في منتصف الطريق لخدمة العقيدة القويمة والفن السليم.
روح الفن الإسلامي
فالفنان المبدع الموهوب هو الفارس المحبوب، الذي يحسن حرث الأنفس وريها وسقياها، وغرس القيم والجماليات والفضائل في ثناياها في وداعة وقناعة، تهدف إلى مشروع واسع وعريض ومعمق للتنمية الوجدانية لهذه الأمة، وفق هندسة دعوية رشيدة تبحث عن المساحات الفارغة من الحياة لتملأها بما ينفع الناس ويمكث في الأرض. “فالفن الإسلامي لم ينبثق من شعب معين أو بيئة جغرافية طبيعية معينة، وإنما انبثق عن رؤية دينية معينة، وهذا هو ما شكّل الملمح المميز الفارق الذي يحيل الفن الإسلامي فريداً في نوعه أو نسيج وحده”.
وهنا ارتباط شرطي لازم بين هذا الطموح، وبين ضرورة تحقيق عدد من المقومات الأساسية، للتجسير بين أهل الفن وأهل الدعوة مثل:
• إحياء الذائقة الفنية المفقودة.
• إغناء المجال الفني بالأفكار والقصص والموضوعات الملهمة.
• تخليق جيل كامل من المبدعين وكتاب السيناريو والحوار، ذوي التصور الإسلامي والخيال الفني والأدبي الصحيح، المرتكز على مواهب عالية وغنية ومكتملة.
• تجميع الطاقات والمواهب الموجودة حالياً على الساحة، ومشاركتها في أعمال جماعية تحسن أسلمة الواقع وواقعية الإسلام.
وهناك العشرات من الأسئلة، التي ما زالت عالقة على محك البحث والتجريب في هذا الميدان الخطير، ميدان السينما خاصة والفنون بصفة عامة.
ولكننا نعوّل كثيراً على عزائم المجتهدين والواعين بأبعاد القضية، الذين لن يتركونا كي نهرب، لكي نستجير من الرمضاء بالنار، ثم نجد أنفسنا في هذا الهروب الكبير، مطالبين بأن ندفع أجرة وقود النار وتكاليف أعباء الرمضاء في آن معاً.
هناك عوامل أصلية وفرعية، لا يمكن تجاهلها أو الهروب منها، أو مواجهتها بحلول ساذجة، أو أفكار سطحية، تبرز كلافتات وملصقات تسعدنا وتطامننا ونحن نقرأها لأول وهلة بضمائر مفتعلة ووجدانات منتحلة، ونحن في ذلك كالمختبئ خلف إصبعه، وكأننا عندما رفعنا شعار “الفن الإسلامي”، قد ملأنا الفراغ وقدمنا البديل الطيب. ونحن أول العارفين أن هذا الشعار ليس إلا “سدّ خانة” يدوّي من حولها الفراغ الرهيب، بل ويجلجل الخراب في كل الخانات من حولها.
القضية أكبر وأخطر وأبعد وأعقد من هذه الحلول وتلك التصورات المريحة التي نهدهد بها أمانينا، ولكنها سرعان ما تسلمنا إلى الحسرة والضياع، عندما نصحو من أحلامنا الجميلة لنتخبط على الدروب والسكك، بعدما تكون الأمور قد ازدادت قتامة وتعقيداً، ويكون عنصر الزمن قد أفلت منا، وأسلمنا إلى دوامات التردي والهوان على الله والناس.
ونحن على يقين من أن السينمائي المسلم، إذا وجد فإنه سيوجد لنفسه ألف وسيلة ووسيلة للتعبير عن مكنونه ومخزونه بصورة مشبعة وممتعة وصائبة وصحيحة دينياً ومهنياً، فأهل مكة أدرى بشعابها.
ونحن على يقين من إدراك الأجيال الصاعدة لخطورة الموقف وضرورة الاستباق الفني، ودخول معركة القفز على الحواجز واجتياز العراقيل وتخطي العقبات، ووضع السينما الإسلامية في موضعها الصحيح من سلم أولويات الحركة الإسلامية المعاصرة.