بقلم: خالد عمارة
ويستعمل الكثيرون مصطلح “الخيال العلمي” لوصف قصص أو توقعات لأحداث تقع في الحاضر أو المستقبل. وهذا يكون مبنياً على معلومات من الماضي والحاضر. ووفقاً لرأي مؤلف قصص الخيال العلمي “روبرت هينلين” فإن التعريف المختصر للخيال العلمي هو تصور واقعي لأحداث مستقبلية محتملة الحدوث، على نحو يرتكز بقوة على المعرفة الكافية بالواقع الحالي والماضي والحاضر، والإلمام التام بالطبيعة مع أهمية الأسلوب العلمي. ويعتمد هذا اللون من الأدب على ما يتوفر لدى الإنسان من معارف علمية، ويضيف إليها ما توفر من دروس تاريخية وخبرات فلسفية ليصوغ هذا كله في صورة قصة خيالية يرى فيها أحداثاً مستقبلية.
وفي الوقت الذي يقدم فيه أدب الخيال العلمي نقداً للتقنيات المتطورة والمستقبلية، فإنه يقدم أيضاً ابتكارات وتقنيات جديدة. وقد تمت مناقشة هذا الموضوع في المحافل الأدبية والاجتماعية بصورة تفوق مناقشته في المحافل العلمية.
وهناك الكثير من الفروع المشتقة من هذا الأدب منها: السفر عبر الزمن، والتاريخ البديل، والخيال العلمي العسكري، وأصحاب القدرات الخارقة، والقصص التي تعبر عن نهاية العالم، وأوبرا الفضاء (قصص رومانسية في الفضاء)، وقصص غزو الغرب للفضاء، وقصص الرعب أو الغموض.. إلى آخره من الأنواع التي تمزج بعض الواقع ببعض الخيال.
ومن الملاحظ في هذا النوع من الأدب أن تسميته بـ”الخيال العلمي” هو أحد نتائج الخلط الذي حدث مع بداية القرن التاسع عشر، باعتبار أن المستقبل للعلم وأن الماضي كان للروح، وبالتالي فالأدب المعني بتخيل المستقبل هو أدب أو خيال علمي. وهذا مما لا نتفق معه في الفكر الإسلامي، حيث أن الماضي والحاضر والمستقبل يجب أن يكون مبنياً على توازن بين العقل والروح والجسد، فلا يطغى أحدهم على الآخر.
النظرة إلى التاريخ
ونجد أغلب هذا الأدب النابع من الغرب أو المقلد له في باقي أنحاء العالم، ينظر إلى تطور التاريخ على افتراض أنه في اتجاه واحد بدأ مع بداية الخليقة و ينتهي بفنائها. وهذه النظرة الغربية في التاريخ تعود إلى العصور الوسطى الأوروبية، في حين أن النظرة الإسلامية للتاريخ -وتتفق معها بعض الفلسفات اليونانية والشرقية- تنظر إلى التاريخ على أنه عملية تبادل لمركز الصدارة بين حضارات وشعوب ودول مختلفة، من الشرق والغرب ومن الشمال والجنوب. ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾(آل عمران:140). ونتيجة لهذا، نجد في الكثير من قصص “الخيال العلمي” أن المستقبل لا يزال في الغرب، ولا يفترض أن مركز الحضارة يمكنه أن يعود إلى الشرق مرة أخرى. وحتى في قصص نهاية العالم التي يملؤها التشاؤم، نجد أن العالم كله ينتهي والحضارة تنهار بانهيار الحضارة الغربية. ولا نجد افتراضاً أنه من الممكن في المستقبل أن يتراجع الغرب ويصبح متأخراً، بينما يتقدم عليه في الحضارة والعلوم الروحية والعقلية مكان آخر أو شعب آخر من شعوب الإنسانية وأجناسها.
وبما أننا تطرقنا إلى القصص التي تعبر عن نهاية العالم، فنجد أغلب قصص الخيال العلمي تتحدث بصورة يملؤها التشاؤم. وقد يكون مصدر هذا، ما هو موجود في أدب العصور الوسطى الأوروبي من حديث عن معركة “هرمجدون”، ومعارك نهاية العالم التي يموت فيها سكان الأرض قبل عودة السيد المسيح، في حين أن ما يتوفر لنا من معلومات من القرآن عن النهاية، أنها تكون لصالح المؤمنين، ودون أن يكون هناك تلك الاستفاضة في الحديث عن بحور للدماء أو القتل تسبق هذا، ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(الأعراف:128)، بل إننا نجد القرآن يقدم هذه الآية كقاعدة وسنة من سنن الله في الأرض تكررت وستتكرر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
القرآن وأدب استقراء المستقبل
وبما أننا كمسلمين نؤمن بأن كل ما نزل به القرآن هو حق وصدق حتى وإن لم تتسع مداركنا ولم يحط علمنا الحالي لفهمه وإدراك كامل معانيه، إذن فإن أدب استقراء المستقبل لدينا يمكن أن يعتمد ليس فقط على العلوم المادية المتوفرة لدينا، بل وأيضاً على الهدى القرآني، ولنستعمل كليهما لتنمية طاقات الإبداع لدى روائيينا وسينيمائينا. ويكون الهدف هو نشر الفضيلة والحث على العمل الصالح وتبليغ دعوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليس فقط إلى مجتمعاتنا، بل وإلى مجتمعات وأناس لم يعرفوا بعدُ حقيقة ديننا الحنيف.
إذن فماذا لو نظر أحدنا بخياله عبر المستقبل مستعيناً بما توفر لنا من هدى القرآن، وما وصلنا من معلومات ودروس من التاريخ، وما وصل إليه العقل البشري من علم؟ لابد وأننا سنرى ونتخيل المستقبل بنظرة مختلفة لم تتوفر لسابقينا ممن كان لديهم نصوص القرآن، ولكن لم يتوفر لهم العلم الكافي لفهم هذه النصوص، وأيضاً ستكون نظرة مختلفة عمن توفر لهم العلم ولم يتوفر لهم الهدى القرآني. فهناك الكثير من آيات القرآن لم يسهل علينا فهمها إلا بعد أن فسرها العلم الحديث لنا مثل: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾(الرحمن:19-20)، ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾(النبأ:7)، والكثير من الأمثله على معجزات علمية حدثنا عنها القرآن منذ (1400) سنة وكل يوم نفهم المزيد منها، فكلما زاد علمنا الدنيوي كلما زاد فهمنا لقرآننا.
القرآن حافز للخيال والإبداع
كما نجد القرآن يحوي الكثير من الصور من الماضي والمستقبل، والتي تكفي كل صوره منها لإثارة الخيال وبناء صور وقصص على مستوى عالٍ من الرقي. فمثلا إذا تأمل الإنسان في بعض علامات الساعة المذكورة في القرآن، نجد ما يحفز خيال المبدع بصور مركبة. فننظر مثلا إلى بعض الآيات: البحار فجرت، القبور بعثرت، الجبال سيرت، وانشق القمر.. والكثير من الصور الملحمية والتتابع والترابط فيما بينها، يكفي كقاعدة بيانات لكثير من قصص تصور المستقبل البعيد. وهناك ما يصف بعضا من أوصاف الجنة أو الجحيم، رغم أن بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكن الأوصاف التي نجدها في القرآن، بها من الحفز للخيال ما يكفي للكثير من الإبداع.
وفيما يتعلق بصور الماضي وعظاته فهي أيضاً مليئة بما يلهب خيال القصاصين والرسامين والمبدعين.. فنجد في القصص القرآني من قصص السابقين؛ كقوم عاد وثمود ولوط ومدين.. الكثير من المعجزات والمشاعر الإنسانية الجميلة والمعبرة، كما نجد في قصص بني إسرائيل وقصص الرسل عليهم السلام الكثير من الملاحم الإنسانية والمعجزات. هذا فضلاً عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام.
كما نجد في هذا القصص القرآني الكثير من التشابه مع وقائع حدثت وتحدث وستحدث في حياة كل منّا. من هذه الأمثلة الآيات (26) إلى (33) من سورة غافر، حيث نجد مناظرة بين مرشحين في حملة انتخابية، يحاول كل منهما إقناع الملأ والعامة بوجهة نظره، وللأسف ينجح من يناصر الرأي الظالم (فرعون) في أن يستخف عقول قومه فيطيعوه ويتبعوه إلى التهلكة.
صور المستقبل والخيال الإنساني
وهناك من الصور القرآنية نوع آخر يتحدث عن المستقبل، ولكن لا نعرف بعد هل بقي الكثير أم القليل على قدوم هذا المستقبل، من أمثله هذا: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾(النساء:119). فهل هذا له علاقة بالهندسة الوراثية أم بجمع الإنسان الآلة أم هناك ما هو أكبر وأعقد؟! لا أعتقد أننا قد فهمنا هذه النبوءة جيداً بعد. وهناك أيضاً بداية سورة الإسراء ونبوءة المواجهة بين بني إسرائيل و بين عباد الله المؤمنين. والكثير من النبوءات التي لم نفهمها جيداً بعد، وبالتالي فهي مفتوحة لما يتوفر في الواقع من معطيات وأدلة وما يكمله من الخيال الإنساني.
وهناك النوع الآخر من القصص أو النبوءات وهو القصص الذي لا نعلم وقته وزمنه، وهل هو حدث فعلاً في الماضي أم أنه سيحدث في المستقبل أم أنه سيتكرر حدوثه.. ومن أمثلة هذا، قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، وسبب هذا أن القصص القرآني واضح فيه وفي حدوثه، ولكن لم يطلعنا بالتحديد على زمانه أو مكانه. وبالتالي فقد ترك لنا أن نتخيل ما نشاء بشرط أن نتخذ العظة والعبرة المطلوبة لصلاح دنيانا وآخرتنا.
إن القرآن هو كتاب للهداية وتهذيب النفس البشرية، ولذلك فكل ما نتعلمه منه يجب أن يصب في نفس الاتجاه، ولا يجب أن يكون هناك تعارض بين الرسالة التي يحملها القرآن للبشرية وبين ألوان الإبداع التي يمكننا أخذها وتنميتها من هدى القرآن ونوره.
إذن فما يسمى بـ”الخيال العلمي” إذا كتبه أديب مسلم أو سينيمائي مسلم مطلع على دينه و قرآنه فسيعطينا شكلاً مختلفاً تمام الاختلاف، كما سيكون المضمون والمحتوى أقرب لما نؤمن به وأكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية و الفضيلة، ليس فقط في مجتمعاتنا، بل في البشرية جمعاء.