بقلم: سعاد يلدريم
لنقف قليلاً عند هذه الحادثة.. مواطن عادي مسيحي يجترئ ليرفع شكواه على رئيس دولة المسلمين بكل ثقة واطمئنان. وأبو يوسف هو قاضي القضاة، أي في أعلى منصب قضائي في الدولة العباسية، والدولة في ذروة ازدهارها. وقاضي القضاة استمع إلى الدعوى دون أن يسوي بين الخصمين في المكان، لأن القاضي استحيا من أن يأمر الخليفة بالقيام والاقتراب من خصمه. وهذا خطأ بسيط جداً، إلا أن قاضي القضاة لم ينسه لدرجة أنه رآه الظلم الوحيد الذي ارتكبه في حياته القضائية واستغفر منه. ومن جهة أخرى فإن السرخسي بدل أن يصغر هذا الخطأ فإنه يشتد ويقول: “إن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه”. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذه الحادثة نقلت في كتاب “المبسوط” أي في كتابٍ من أمهات مصادر الفقه الإسلامي، ومؤلفه فقيه مشهور، أي رجل قانون، ولم تنقل في كتاب أدب أو مناقب. وهذا هو الذي يكسب الحادثة قوة كبيرة. ومن ثم نستطيع أن نقول: إن هذه الحادثة الدالة تكفي وحدها لأن تلخص موقف الإسلام تجاه غير المسلمين. نكتفي بهذا وننتقل إلى تأسيس الدولة العثمانية.
استوطنت عشيرة “قايِي” التركية غربي الأناضول في النصف الأخير من القرن السابع الهجري (الثالث عشر للميلاد)، بأمر السلطان السلجوقي “غياث الدين كيخسرو” في حدود الدولة السلجوقية البيزنطية. وإن الأمير “أرطغرل” والد الأمير “عثمان” ينتسب إلى هذه العشيرة.
أقطع السلطانُ لـ”أرطغرل” قرية “سُوغوت” في منطقة “بيلاجيك”حيث اتخذها مركزاً لعشيرته، وكان عامة أهل “بيلاجيك” من المسيحيين. وقد أسس الأمير “أرطغرل” علاقات طيبة قائمة على المحبة مع أمراء هؤلاء الأهالي وكسب قلوبهم. وابنه عثمان (ت 1324م) أمر القرى التي بجواره، أن ينقادوا لحكمه مع حسن الجوار بالمسيحيين الذين كانوا يعيشون في تلك الناحية. ونشاهد أن الخط الأساسي في سياسة الدولة العثمانية منذ البداية، هو أن أمراءها توجهوا إلى الدولة البيزنطية، بدل أن يتقاتلوا مع نظرائهم من أمراء الأتراك المسلمين الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم. فإنهم توجهوا إلى قلاع البيزنطيين وفتحوها وألحقوها بحكمهم شيئاً فشيئاً. لم يكتفوا باستعمال القوة العسكرية فقط، بل أسسوا علاقات ودية مع السكان غير المسلمين. فمثلاً عشيرة الأمير عثمان كانت تسكن قرية “سوغوت” في فصل الشتاء وتصعد إلى هضبة “دومانيج” في الصيف ويترك أهاليها بيوتهم وأمتعتهم عند أهالي “بيلاجيك”. وعند رجوعهم في بداية الشتاء كانوا يقدمون إليهم مقابل ذلك الأغنام والأجبانَ والبسطَ والهدايا المختلفةَ لمحافظتهم على أماناتهم.
وكانوا يرسلون إليهم هداياهم بواسطة نسائهم حتى يأمنوا من سطوتهم. وكان الأمير عثمان، يرى أن فتح أي مدينة عنوة يتسبب في خرابها، ولهذا كان يسعى لتأسيس العلاقات الحسنة لكي يفتحها صلحاً. وإذا سئل عن سبب هذه المعاملة كان يقول: “نحن جئنا إلى هذه البلاد غرباء، وهؤلاء هم أهلها لم يمنعونا منها، فعلينا أن نحترم حقوقهم ونكون أمناء في حقهم”.
وفي يوم من الأيام اشترى مسلمٌ تركي من سوق “بيلاجيك” عدة أكواب من تاجر مسيحي ولم يدفع له ثمنها. وعندما علِم الأمير عثمان بهذا، استدعاهما وأخذ حق التاجر المسيحي من المسلم التركي وأرسل منادين في المنطقة ليعلنوا أن الأهالي كلهم تحت حمايته ورعايته، وأنه سيقف ضد أي تعدٍّ نحوهم. ومن ثمرات هذه السياسة نرى أن الأمير أورخان بن عثمان (ت 1362م) لم يتعرض لأي مقاومة أثناء فتح مدينة “بورصة” (1326م)، حيث سلم أمير “بورصة” المدينةَ صلحاً. واتخذ الأمير “أورخان” مدينة “بورصة” عاصمة للدولة العثمانية.
ولم تكن النصارى وحدهم مَن لاقوا الأذى الكثير من الحكام البيزنطيين، بل اليهود الذين كانوا قد سكنوا القرى المختلفة في منطقة “تراقيا” أيضاً، فرحوا بفتح المسلمين الأتراك البلاد.
ولما سأل الأمير “أورخان” وزيرَ إمارة “بورصة” -الذي لعب دوراً كبيراً في تسليم البلد- عن سبب تسليمهم بلدهم إليه قال: “إن هناك عدة أسباب؛ أولاً: إن دولتكم أصبحت تتسع وتقوى بسرعة، بينما دولتنا بدأت تتهاوى يوماً بعد يوم. وثانياً: إنكم ألحقتم مزارعنا وقرانا حوالي “بورصة” إلى حكمكم، فرأينا العدل والأمان في ظلكم، ولاحظنا أنكم لا تأخذون أي شيء من أموال هؤلاء الناس، كما شاهدنا أن هؤلاء الناس رضوا عن حكمكم وصاروا وكأنهم لا يعرفوننا ولا يذكروننا. فلما رأينا طمأنتهم وراحتهم رغبنا في حكمكم”.
ثم واصل سلاطين آل عثمان فتوحاتهم في البلقان. وكان أهالي المنطقة هناك يعانون من الضرائب الباهظة التي فرضتها عليهم الدولة البيزنطية. الأمر الذي جعل معظمهم يحتمي بالحكم العثماني، حيث كانت الدولة العثمانية تكتفي بضريبة خفيفة، مما مكّنهم من الاحتفاظ بأموالهم وأنفسهم في الوقت نفسه. ومن جهة أخرى فإن عامة أهالي البلقان كانوا ينتسبون إلى المذهب الأرثوذكسي وكان الأوربيون يجبرونهم على الدخول إلى الكاثوليكية ويهددونهم بالقتل. واعتبر هؤلاء الناسُ العثمانيين منقذين لهم من أيدي هؤلاء الظالمين.
واستغلّ الأوروبيون ضعف البيزنطيين وحاجتهم إلى مؤازرتهم وتأييدهم فاشترطوا قبول مذهبهم الكاثوليكي. وفي يوم 12 ديسمبر 1452م، صلّوا في الكنيسة الكبرى (آياصوفيا) حسب المذهب الكاثوليكي فكرهَهم أهالي القسطنطينية حتى قال رئيس وزراء الدولة البيزنطية مقولته الشهيرة: “بدل أن أرى في القسطنطينية قبعة الكاثوليك أفضّل أن أرى فيها عمامة الأتراك”.
يقول المؤرخون إن توسّع أراضي الدولة العثمانية في الأناضول وفي البلقان يرجع إلى أسباب اجتماعية وأخلاقية بجنب قوتهم العسكرية، لأن القوة العسكرية لا تكفي وحدها لإخضاع بلاد تضم أقواماً من مختلف الأجناس واللغات والعروق والأديان..
فهذه ترجمة فرمان السلطان محمد الفاتح الموجه ألى أهل الذمة بعد الفتح في آخر جمادي الأولى سنة 857 هـ (1453م).
1- أعطيهم حرية العبادة وإجراء طقوسهم وشعائرهم على ما تعارفوا عليه في تاريخهم.
2- أموالهم وأرزاقهم ومخازنهم وبساتينهم وسفُنهم وجميع أمتعتهم في حمايتنا، وأيضاً نساؤهم وخدامهم وعبيدهم وجواريهم مصونة من تدخلنا.
3- لهم الحق في أن يزرعوا أراضيهم ويسافروا في البر والبحر دون أي تحديد أو تدخل.
4- عليهم أن يدفعوا الخراج الشرعي سنوياً، وعلينا أن نحفظ أنفسهم وأموالهم.
5- لهم حق العبادة وإجراء الطقوس ودراسة كتبهم، وليس لهم ضرب الناقوس. وعلينا أن لا نحوّل كنائسهم إلى مساجد وليس لهم إنشاء كنائس جديدة.
6- ولتجار أهل الذمة أن يتجروا في البر والبحر، وعليهم أن يدفعوا ضريبة الجمرك حسب العرف، وهم مصونون من أي تدخل.
7- لا نأخذ أولادهم للجيش ولا نجبر أي شخص منهم للدخول في الإسلام بدون رضاه.
8- ولهم أن يختاروا رئيس جماعتهم لتمشية مصالحهم.
9- وهم مصونون من أي عمل إجباري ومن أي عمل دون أجرة.
كما أعطى السلطان محمد الفاتح البطريقَ حقوقاً أكثر مما أعطته الدولة البيزنطية. فإنه دعا البطريق “كناديوس” وسماه “رئيس جماعة الروم”. وبذلك منحه منصباً دنيوياً وإدارياً بجانب منصبه الروحاني. وكان البطريق يتمتع بمنصب “الباشا”، حيث خصص له محافظون لحراسته، وإنه كان من أعضاء الديوان السلطاني ممثلاً عن المسيحيين.
ومن جهة أخرى دعا السلطان بطريق الأرمن في “بورصة” إلى إسطنبول وعينه رئيساً لجماعات الأقليات من السريان والقبط والغجر إضافة إلى رئاسته لجماعة الأرمن. وقد أدى هذا التصرف إلى هجرة الأرمن إلى إسطنبول إلى أن وصل عددهم في القرن التاسع عشر إلى مائة وخمسين ألف نسمة.
واتصل السلطان محمد الفاتح باليهود ضامناً لهم الحرية الدينية بشرط أن لا يعينوا البيزنطيين. وعندما طرد “لودويج” ملك باويرا سنة 1470م و”فارديناند” ملك أراغون سنة 1492م اليهودَ، التجأوا إلى الدولة العثمانية ووجدوا فيها المأمن والأمان. كما التجأ قسم من العرب الأندلسيين -في نفس الوقت- إلى إسطنبول حيث عاشوا كأشقاء مع المسلمين العثمانيين. وكان يهود إسبانيا يتكلمون بلهجة “لادينو”، حيث حافظوا على هذه اللغة قروناً بمسامحة من الدولة العثمانية. وكانت الدولة تريد أن تستفيد من تجربة اليهود التجارية ومن ثرواتهم.
لقد حافظ السلاطين على الكتائب العسكرية المسيحية وأعطتهم “التيمار” (حق تحصيل ضرائب الأراضي المعينة مقابل تجهيز عدد من العسكر)، وبذلك استفادت الدولة من قوتهم في حروبها. ومما يجدر ذكره أن السلطان محمد الفاتح طبّق الأحكام الإسلامية في أهل الذمة، كما كانت هذه الأحكام معروفة لدى الشعب المسلم. ومع ذلك فإن المجتمعات لا تخلو من الناس المتطرفين. فلما اطلع السلطان على تصرف بعض الناس وإجبار غير المسلمين على الإسلام قال: “ما أجْرأ هؤلاء على هذا الفعل! وهل يرون أنفسهم أحرص على الإسلام من الله؟”. وحدث أحياناً أن بعضهم قدم طلباً إلى القاضي معلناً عن رغبته في اعتناق الإسلام، فلما تحقق القاضي من أن هذا الشخص أُكره على الإسلام، رفض دعواه وأبقاه على دينه. وهذا مدون في السجلات الشرعية.. وحدث أن مسلماً سبّ الدين المسيحي أثناء مناقشته مع مسيحي، فرُفعت قضيته إلى القاضي فحكم القاضي بأن ينفى هذا المسلم من المدينة.
حقوق أهل الذمة
إن الدولة العثمانية طبقت على أهل الذمة أحكام الإسلام كما ذكرنا آنفاً، ويمكننا أن نلخص حقوقهم كالتالي:
1-الحقوق والحريات الأساسية: كانوا يتمتعون بكل الحقوق، كحق الحياة والعمل وحرمة المسكن وحق السياحة والاتصالات مثل المسلمين. وأما الاستثناء الوحيد هو منعهم من الدخول إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومنعوا أيضاً في سنة 1582م من الدخول إلى منطقة “السلطان أيوب” (المنطقة التي يوجد فيها ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، حيث اعتبرت هذه المنطقة من أهم المراكز الإسلامية في إسطنبول. وأسكنت الدولة أهل الذمة في ضواحي إسطنبول في الأحياء المخصصة للروم والأرمن واليهود… إلخ. وقد حدد بعض السلاطين ارتفاع بيوت هؤلاء الأهالي واشترطوا أن يكون ارتفاع بيوت غير المسلمين أقل بقليل من بيوت المسلمين.
2-لهم الحرية الدينية، أي حرية العبادة والمعبد وتعليم الدين وفتح المدارس الأهلية، إلا أنه كان هناك بعض التحديدات الخفيفة في الشعائر الدينية؛ مثل إظهار الصليب وضرب الناقوس يبقى في داخل المعبد ولا يظهر في الخارج في الأحياء التي كان معظم سكانها مسلمين. وحسب الفقه الإسلامي يستطيع أهل الذمة أن يحتفظوا بمعابدهم القديمة إذا فتحت البلدة صلحاً. وأما إذا فتحت عنوة فالسلطان مخير بين الإبقاء عليها أو هدمها. ورغم هذا الحكم أبقى السلطان محمد الفاتح كنائس إسطنبول كما كانت، وتبعه في هذا الأمر من جاء بعده من السلاطين. وأذن في بعض الأحوال المحددة لإنشاء كنائس وصلوات جديدة (أي معابد اليهود) واشتُرِط إذْن الدولة لترميم المعابد القديمة. وقد بلغ عدد الكنائس مائة واثنتى عشرة كنيسة، وعدد الصلوات ستاً وثلاثين في إسطنبول سنة 1885م.
3-الحرية السياسية والإدارية: لهم حق الدخول في قطاع الدولة كموظفين بإستثناء الوظائف التي تخص المسلمين. وليس لذمي أن يكون رئيساً للدولة أو قائداً للجيش أو رئيساً للوزراء أو والياً في الولاية أو قاضياً. كما كان عليهم أن يراعوا النظام العام والآداب العامة مثل المسلمين تماماً. وخلال حكم السلطان سليم الأول تبين للخليفة أن قسماً من الروم حاولوا أن ينظموا حركة انفصالية، وتعاونوا في ذلك مع نصارى جزيرة “مورا”، فأراد أن يأمر المسيحيين أو يخيرهم بين الإسلام وبين الخروج من إسطنبول، فاعترض عليه شيخ الإسلام “علي جمالي” (الملقب بزنبللي) قائلا: “إن جدك أعطاهم الأمن والأمان، فلا يجوز لك شرعاً أن تكرههم على ذلك”.
ولما تحققت الدولة أن بطريق الروم تعاون مع أهل جزيرة “مورا” في سنة 1821م، اعتقلته ثم أعدمته. ثم ضعفت ثقة الدولة في الروم وبدأت تبعدهم عن الوظائف الحكومية ووجهتها إلى الأرمن بدل الروم.
وكانت العلاقات الإسلامية والمسيحية واليهودية حسنة إلى حد كبير منذ بداية الدولة العثمانية، واستمرت هذه الحالة قرونا. ومنذ بداية القرن التاسع عشر استطاع أهل الذمة أن يتعاقدوا مع شركات وتجار أوروبا ووسعوا ثرواتهم ونفوذهم. وبينما كان المسلمون الأتراك منهمكين بالحروب والإدارة، اشتغل أهل الذمة بالتجارة والصناعة. ونتيجة لهذا أصبح الأتراك محكومين اقتصادياً بعد أن كانوا حكاماً.
واجبات أهل الذمة
وبمقابل هذه الحقوق كان هناك بعض الواجبات على أهل الذمة.
أولاً: الجزية وهي ضريبة يختلف مقدارها حسب الظروف، حيث كانت تؤخذ من الرجال البالغين فقط، ولا تؤخذ من النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين والمرضى. وكانت تؤخذ تعويضاً عن الخدمة العسكرية التي كُلّف بها كل المسلمين. ولذلك غُيّر اسمها إلى “بدل العسكرية” في سنة 1856م. وإذا ما التحق أهل الذمة بالجيش، فإن الدولة العثمانية كانت تعفيهم من الجزية. على سبيل المثال، سمحت الدولة العثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر بدخول المسيحيين في جنوب رومانيا إلى الجيش.
ثانياً: كان الزراع مكلفين بالخراج. وكانت الإدارة العثمانية تعتبر أراضي الأناضول و”الروم إيلي”، أي معظم أراضي الدولة العثمانية من الأراضي “الأميرية” (خراجية)، لذلك كان الزراع كلهم من المسلمين ومن غير المسلمين متساوين في هذه الضريبة.
وثالثاً: كل المستوردين كانوا مكلفين بضريبة الجمرك، إلا أن نسبة ضريبة أهل الذمة كانت أكثر بقليل من ضريبة المسلمين. كما كانت البضائع والأموال التي تستعمل في المعابد الدينية معفوّة من ضريبة الجمرك. وقد خففت جداً هذه الضريبة بالامتيازات التي نالها غير المسلمين منذ القرن السادس عشر.
وكان هناك بعض التحديدات على أهل الذمة:
فهم كانوا لا يظهرون الصليب ولا يضربون الناقوس إلا في داخل الكنيسة. ولا يكون ارتفاع بيوتهم أكثر من ارتفاع بيوت المسلمين. ولا يقلدون المسلمين في ملابسهم ولا يبيعون الخمر ولحم الخنـزير إلا في المناطق التي يسكنها غير المسلمين.
وبجانب أهل الذمة الذين كانوا مواطني الدولة، كان هناك المستأمنون من رعايا الدول الأجنبية. وكانوا يتجرون ويتجولون في داخل الدولة للتنـزه والاستطلاع تحت حماية الدولة.
وإذا نظرنا إلى أوروبا في تلك العصور فماذا نجد فيها من هذه الحقوق؟ أرغب في هذا الصدد أن أنقل كلام المستشرق “برنارد لويس”. فعندما زار تركيا قبل عشرين سنة تقريباً أُجريت معه مقابلة تلفزيونية، وسأله المراسل: “نحن نرى كثيراً من الأوروبيين قد تجولوا وكتبوا مذكرات سياحية داخل الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، في حين لا نجد من الأتراك من كتب عن الأوروبيين؟”.
فأجاب “لويس”: “لم يكن أي مانع في تلك الآونة من زيارة الأوروبيين الدولة العثمانية، لأن الدولة كانت دولة حقوق وقوانين؛ كانوا يدخلون مستأمنين يتجولون ويتجرون، وكان بإمكانهم أن يجدوا من كل المذاهب من يتكلم بلسانهم، أي ما كان هؤلاء يحسّون بالغربة. أما المسلم فما كان له أن يدخل إلى أيّ بلد أوروبي، إلا إذا رضي بالقتل، بسبب التعصب السائد في تلك العصور في أوروبا”.
الحقوق الإنسانية في الدولة العثمانية
والدولة العثمانية كانت رائدة في حقل الحقوق الإنسانية الأساسية، ولا سيما في الحرية الدينية كما قال “غيبون”: “لا يستطيع أحد أن يعترض على أن الدولة العثمانية هي الدولة الأولى التي اعتبرت مبدأ حرية الأديان كحجر الأساس في نظامهم”.
لندع أوروبا في تلك القرون جانباً وننظر إلى أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين؛ فرنسا التي تدّعي أنها مهد الحرية والتي استولت على الجزائر في 1830م وبقيت فيها 132 سنة، ماذا قدّمت للجزائريين من تلك الحقوق؟ فهل يمكن أن نجد وزيراً بل نائباً من الجزائر في برلمان فرنسا؟ لا أبداً.
أما إذا نظرنا إلى الدولة العثمانية فيمكن أن نجد أكثر من خمسين شخصاً من غير المسلمين ما بين وزير ونائب.
وهذه المقارنة توضح لنا كل شيء، إذ نوجزها بأن الدولة العثمانية قصرت صلاحيتها على المجتمع؛ في الحكم والأمور المالية والجيش، وأودعت كل ما وراء ذلك من التعليم والتربية والضمان الاجتماعي والأمور الدينية والأحوال الشخصية وإدارة النفوس والإعلام للمسلمين ولغير المسلمين، إلى الشعب الذين كانوا يديرونها على أساس التنظيمات الدينية والمذهبية، كما أودعت أوقافهم المختلفة. وكان غير المسلمين يُجْرون أمر النكاح والطلاق والنفقة والميراث والوصية داخلَ جماعاتهم في محاكمهم الخاصة. والدولة كانت تنفذ هذه القرارات كما وردت. وكان بإمكانهم أن يفتحوا مدارسهم ويضعوا برامجها ويختاروا مدرسيها بكل حرية.
وبسبب الإهمال في مراقبة تلك المدارس، بدأ يدب فيها الفساد اعتباراً من القرن التاسع عشر. والسبب الأساس يرجع إلى عدم وجود الأشخاص الذين يتقنون اللغات الأجنبية التي كانت لغة التدريس في تلك المدارس والكليات. ولهذا الخلل فإن معظم الأمور الخارجية والدبلوماسية بقيت في أيدي الأقليات غير الإسلامية.
يبدو أن الدولة العثمانية ركزت على وحدة أراضيها وعدم تجزئتها أكثر من الوحدة الثقافية. ولما لم تستهدف الدولة سياسة الوحدة في اللغة والثقافة لم تتحقق المواطنة المطلوبة بين المسلمين وغير المسلمين. ولذلك لم تستطع الدولة أن تحوّل العلاقة بينها وبين رعاياها إلى علاقة مستمرة باقية. والحقيقة أن الإدارة الذاتية في حقل الدين والأحوال الشخصية، لم تكن لتشكل مانعاً أمام الدولة من تحقيق وحدة المواطنة.
فلو كان باستطاعتها تحقيق حقوق المواطنة مثلما تحقق في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، لربما استمرت الدولة العثمانية، وهذه فرضية. ومن زاوية أخرى نستطيع أن نقول إن الدولة العثمانية استمرت ستمائة سنة، وماذا تكون عاقبة النظم الحالية بعد مائة سنة؟! والله أعلم.
ونستطيع أن نشير هنا كتتمة لهذا البحث، أن قسماً من أحفاد العثمانيين يواصلون تمثيل هذا الموقف السليم في الوقت الحاضر، فلمحبّـي فضيلة الأستاذ المربي محمد فتح الله كولن نشاطات كثيرة في هذا المجال. فهم يقومون من جهة بإجراء الحوار مع المثقفين الذين لم يتربوا تربية إسلامية فصاروا ضد الإسلام والإسلاميين، ومع غير المسلمين من جهة أخرى. وأسس الأستاذ محمد فتح الله كولن علاقات طيبة ببطريق الأرثوذكس ومع البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان، ومع رئيس كنيسة اليهود ومع العديد من رؤساء الأقليات الدينية الأخرى. فقد نظمت هذه التجربة عدة مؤتمرات دولية في إسطنبول في أعوام 1998-2000م، وفي مدينة “أورفا” عام 2000م. ونظم مركز الحوار في جامعة “جورج تاون” في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر مارس من سنة 2001م، مؤتمرا لتقييم نشاطات محمد فتح الله كولن. كما حصلت هذه التجربة على ثمرات مفيدة وملموسة من هذا الحوار الذي أسهم في تقليل التوتر بين الثقافات والأديان.
المهم أننا معاشر المسلمين فقدنا قوتنا السياسية والاقتصادية، وليس لنا كلام مسموع في هذه المجالات في الوقت الحاضر. ولكن عندنا ثروة هائلة وقوة عظيمة وهي قوة العقيدة وقوة دين الحق التي لا تنفد.
ولو اتصفنا بالأخلاق الحميدة والاستقامة التي رأيناها عند أبي يوسف وعند السلطان عثمان ومحمد الفاتح، ولو أظهرنا كمالات الإسلام الأخلاقية، لرأينا نتيجة مثمرة مباركة ولحققنا رسالتنا في الحياة والله الموفق.