بقلم: الشاهد البوشيخي
لقد أُخرجت الأمة إلى الناس بالقرآن الكريم، وبه صارت خير أمّة أخرجت للناس، وبه كانت وحضرت في التاريخ، وفعلت ما فعلت من خيرات.. فهل هو الآن في المكان اللائق به؟
فساد التصور سبب فساد الواقع
ما سبب عدم بقاء الأمة في موقعها من الشهادة على الناس، وما سبب تدحرجها من موقع الشاهد إلى موقع المشهود عليه؟ إن خللاً ما وقع في الصلة بينها وبين القرآن، وهي أن لألفاظ كتاب الله عز وجل مفاهيم، ولمجموع تلك المفاهيم نسَقاً عاما يمثِّل صورة الإسلام بكاملها، ولا يمكن أن يتم التمكّن من ذلك إلا بدراسة هذه المكوِّنات لذلك النسَق العام، ولتلك الصورة الكاملة.
لا يمكن الفهمُ إلا بهذا الفهم، فهمِ الأجزاء ثم فهمِ الكلّ تبعاً لفهم الأجزاء. ولا سبيل إلى صنع واقعٍ قبل صنع تصوّر صحيح لما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع. إن فساداً في التصور السليم لمفاهيم ألفاظ كتاب الله عز وجل قد ساد، والحاجة ماسةٌ الآن إلى تجديد فهم هذه الألفاظ، ماذا يريد بها الله عز وجل منّا أفراداً ومؤسسات وأمةً؟
لفظ الحياة في كتاب الله عز وجل
ولهذا اللفظ تصوران مختلفان في القرآن..
أ-التصور الكفري للحياة: وهو تصور يقصر الحياة على الدنيا فقط. لا ينظر إلى ما قبل ذلك ولا ينظر إلى ما بعد ذلك ولا ينظر إلى ما مع ذلك. إذ مع الحياة التي تُرى وتُشاهد كائناتٌ وحياةٌ أخرى لا تُرى ولا تُشاهد. هناك التصور الذي تشير إليه الآية الكريمة محدِّدةً له: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾(الجاثية:24).فهنا حصرٌ لمفهوم الحياة في هذه الدنيا فقط دون أن يُلحَظ وأن يُعتبَر ما سبق، وما سيلحق وما هو كائن الآن. أقصى درجات العلم لديهم لا تجاوِز هذا السطح من الحياة الدنيا، ولا تجاوِز هذا المحسوس المشاهد. فكل ما ليس بمحسوس هو غير قابل لأن يُعلَم.
فجميع ما يترتّب على هذه النظرة هو فهْمُ الكفار لهذه الحياة التي تُثمر وتُنتج أنشطةً وأعمالاً تنسجم مع التصور الكفري للحياة، وهذا ليس هو العلم. لذلك نفى الله عز وجل العلم عنهم فقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:187)، وأثبت لهم العلم الظاهري بالحياة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾(الروم:7).
وأنتج هذا التصور الكفري أموراً وتصرفات كثيرة بناء على العلاقة التلازمية بين التصور والسلوك، كحب الحياة الدنيا والافتتان بزينتها، والاطمئنان والرضا بها والحرص عليها مهما كان الثمن.
كثير من المظاهر وصور السلوك نسبها الله عز وجل إلى الكفّار ونفاها عن المسلمين. وهذه الأمور وقعت بسبب هذا التصور للحياة، أي حين ينطلق الإنسان من أنه لا يملك إلا هذه الحياة الدنيا، وحين يتصور الإنسان أنه لا يملك إلا فترة عمره فقط، فلا شك أنه سيكون حريصاً جداً على الاستفادة من هذه الحياة. أيُّ حياة؟ كيفما كانت. حين ينطلق الإنسان من هذا التصوّر فعلاً يؤثره على سواه، لأنه يؤثر شيئاً بين يديه على شيء لا يؤمن به، فلذلك يقدم العاجلة لكونها عاجلة على الآجلة التي قد تكون وقد لا تكون حسب تصوره الكفري.
بـ-التصور الإيماني للحياة: وهو تصور آخر للحياة، حياة ممدودة ممتدة، لا نهاية لها في الزمان البَعْدي ولا نهاية لها في الامتداد الآنيّ. الحياة الآن ليست فقط لهذا الذي يُرى، ولكن هناك كائنات حيةٌ مؤثرة في هذه الحياة، هي الموكول إليها ضبط أمرِ هذه الحياة نفسها. تأمّل قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾(ق:16)، بعدها مباشرة: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(ق:17-18). وتأمّل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَطَّتِ السّماءُ وحُقَّ لها أن تَئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى” (رواه الترمذي). إن كائنات كثيرة تحيط بنا وهي التي وُكِل إليها حفظُنا وحِفظ ما يتعلق بهذا الكون مما لا نطيق نحن حفظَه، قال الله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾(البقرة:255). لقد خلق الله عز وجل جنودا له في السماوات والأرض لحفظ السماوات والأرض وما بينهما.
هذا الإيمان بوجود كائنات حيّة بجانبنا لا تُرى هو من صميم ما يدخُل في مفهوم الحياة في هذه الدنيا، لأن الإنسان عندما يتصور أنه وحده في الكون، يكون له سلوك؛ وعندما يتصور أن معه أحياء لهم دور يكون له سلوك آخر. إذن ماذا بعد الموت؟ هل حقاً ينتهي الإنسان حتى قبل البعث؟ وهل يوجد موتٌ بمعنى الفناء التام؟
حقيقة الموت في التصور الإيماني
الموت في الحقيقة هو مجرد انفصال بين عنصرين اثنين مؤسِّسين للإنسان وهما كما قال الله تعالى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص:71-72).
فآدم عليه السلام في الأصل مسَوًّى من عنصر أرضي خالص هو الطين، وفيه عنصر غير أرضي هو من أمر الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾(الإسراء:85).
الإنسان هو ذريّة آدم بعد آدم، يحكمه نفس المنطق، يمكث في بطن أمه أربعين يوما نطفةً، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك، ثم يرسَلَ إليه الملَك فينفخُ فيه الروح.. هذه الازدواجية في الخلْق تجعلنا نفهم أن حال الموت لا يؤدي إلى إنهاء الطرفين، وإنما يؤدي إلى الفصل بينهما، فيرجِع ما أصله الترابُ إلى التراب، وتصعد الروح إلى بارئها، وهو ما يسمى بالحياة البرزخيّة. وقد نُصَّ على الحياة في هذه المرحلة بالنسبة إلى نوعية معينة نهانا القرآن عن أن نسميهم أمواتا: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾(البقرة:154). هذا النص يدل على أن المجاهدين أحياء، والحقيقة أن الجميع من حيث أرواحهم أحياء، ولكن حياة السعداء في المنهج القرآني هي الحياة. أما البعث بعد الحياة البرزخية فيُعتبر الخلْقَ الثاني قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾(الروم:27). هذه الإعادة هي على نفس الأصل الأول، يعود العنصر الترابي للالتقاء بالعنصر الروحي فتكون حياة جديدة. فإذن، حتى المرحلة الوسطى المسماة بالحياة البرزخية لا تختفي الحياة فيها بالمعنى الكامل، وإنما تختفي الحياة فقط بالمعنى الدنيوي.
وتبقى حياةٌ لها طبيعةٌ خاصة تتلقى آثارَ الحياة الأولى المشار إليها في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾(يس:12). وكأن الإنسان بعد مغادرته -بالموت- لهذه الدنيا، كأنه يُفتح له حساب في الدار الآخرة، في الحياة البرزخية، فالأعمال التي لا تنقطع بالموت تستمر وتدخل حسناتها في حسابه. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له” (رواه مسلم). وقال تعالى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾(يس:12).
الدعوة للهدى أكبر موْرد للحسنات
وعلى رأس تلك الآثار أجر الدعوة للهدى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً” (رواه مسلم). بهذا المنطق نفسه الذي يشير إليه هذا الحديث يمكن فهمُ المدد المستمر للحسنات والذي لا ينقطع بالموت. ومصدر ذلك الأعمال الصالحة المخلّدة وعلى رأسها الدّعوة للهدى. كما يمكن أن ندرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المسلمين أجراً لأنّنا جميعاً نُدخِل إلى كتابه حسناتنا، يَدخل إلى حسابه مثلُ ما نفعله من حسنات، لأنه الداعي الأول إلى هذا الخير وإلى هذا الهدى، فمن تبعه ومن تبع مَن تبعه -والأمر ماض إلى يوم القيامة- يستفيد هو صلى الله عليه وسلم مِن كل ذلك. وكل مَن تبعه ودعا بدعوته يستفيد من أجور من استجابوا له، وهكذا دواليك لا ينقطع مدد الحسنات عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين له.
الحياة الأخرى هي الحياة
هذه الحياة الدنيوية لها خصوصية، وهناك الحياة الأخرى التي هي الحياة، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(العنكبوت:64). وللأسف لا يعلمون، ﴿وإنَّ﴾ التوكيد بـ”إن”، والجملة الاسمية ﴿الدَّار الآخِرةَ﴾، والتوكيد باللام ﴿لَهِيَ﴾، والتوكيد بالضمير “هي” أيضاً، ثم بزيادة الألف والنون في الحياة للمبالغة ﴿الْحَيَوَانُ﴾.. كلها إشارة إلى أنها هي الحياة التي تستحق أن تسمى الحياة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾. وفعلاً سننسى يوم القيامة هذه الحياة الدنيوية نهائياً ولن تبقى حاضرةً في أذهاننا ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾(الفجر:21-23)، ترجع له الذاكرة ليستعيد كل ما مضى، ويتذكر ما قبل ذلك. يتذكر العهد ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾(الأعراف:172) قبل هذه الحياة الدنيا وقبل أن يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، يتذكر العهد الذي أُخذ علينا في مرحلة سابقة للتخلق الدنيوي، وأُخذ على أرواحنا في مرحلة لا ندريها، ولكنه كان.
مراحل الحياة والموت
ومجموع هذه المراحل أربعة وهو ما تشير إليه الآية: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾(غافر:11)؛ موت قبل هذه الحياة، وموت بعد هذه الحياة الدنيا، ثم حياةٌ بين الموتين، وحياة لا موت فيها ولا موت بعدها وهي الأخيرة التي تستحق أن تسمى “الحياة”. إذن ما عادت مناقشةٌ في مسألة الحياة، وما عاد لبْس في أمر الحياة الآخرة أنها هي الحياة! فيقول الإنسان النادم بصراحة ناسباً ذلك لنفسه: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، وكأن الحياة الدنيوية لم تكن له حياة. لذلك سوف ندرك أن هذه الحياة الأخروية هي الحياة الحقيقية ولكن الناس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا وعرفوا الحياة الحقيقية.
هذه النظرة وهذا التصور للحياة الحقيقية الممتدة التي لا نهاية لها، والتي لا يُذاق فيها الموت إلا الموتة الأولى، أي لا موت بعد البعث… هذا التصور لتلك الحياة الممتدة، لها هذا البُعد السابق للدنيا، والبُعد اللاحق للدنيا في صورتين: صورة الحياة البرزخية وصورة الحياة الأخروية وهي الحياة الحقيقية. وكذلك في هذه الدنيا لها الامتداد الأفقي أيضاً الذي يجاوز المحسوس إلى غير المحسوس. هذا التصور إن استقر في القلب وحصل به الإيمان -وأركان الإيمان قائمة على هذا- فإنه يُنتِج حياة فردية وحياة مجتمعية وحياة للأمة في صورة معاكسة تماماً للصورة الأخرى، ومغايرة لها كل المغايرة.
التصور المعيَّن يستلزم سلوكاً معيَّناً
وعلى نفس القاعدة المقررة: “أن تصوراً معيناً لابد أن يلزم منه سلوك معيَّن”، فتطبيقا لهذه القاعدة تكون تصرفات ابن آدم الخارجية حسب ما هو مستقِر في قلبه من التصورات. ويمكن أن نعكس من أجل الدراسة فنقول: إننا من التصرفات الخارجية -إن حلّلناها وعلّلناها بدقة- قد نستطيع استخلاص مدى رسوخ الإيمان ومدى عمق الإيمان ومدى انتفاء الإيمان أيضاً.. فحين نجد في الخارج لدى المسلمين أخلاق الكفار
-على سبيل المثال- يصعب علينا أن نقطع بإيمانهم، لأنه لا يمكن مع وجود الإيمان ألا يكون هناك عمل صالح. إذ “ليس الإيمان بالتمني ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العمل” (رواه البخاري)، حين لا يوجد في الخارج العمل الطيب الصالح الذي يصدق دعوى الإيمان، تتجه التهمة إلى ما في الباطن، أي إلى أن الإيمان غير موجود بالمرة أو ضعيف. لا نستطيع التنقيب عن القلوب، ولكن الظواهر آيات وأمارات وعلامات كما قال صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث” (رواه البخاري)؛ آيات وأدلة على ما لا يُرى.
فإذن هناك قطيعة كاملة بين تصورين للحياة: تصور كفري قاصر قصير محدود، تنتج عنه كذلك أعمال وأخلاق وتصرفات ذات بُعد محدود، وتصور واسع عميق بعيد ممتد لا نهاية له تنتج عنه كذلك أخلاق لا نهاية لسعتها. إن الإسلام رحمة وإن الذي أنزل عليه الإسلام أيضاً صار رحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107).
أصل جميع المعاني الحسنة من الله سبحانه وتعالى
لابد أن نقرر هاهنا حقيقة قبل المضي في معاني الرحمة، وهي أن جميع المعاني الحسنة أو الأسماء الحسنى إنما هي في الله ومن الله عز وجل، فلا رحمة في الكون ليس مصدرها الله عز وجل من جهة أنه الرحمن الرحيم، ولا علم في الكون ليس مصدره الله عز وجل من جهة أنه العليم، ولا قوة في الكون ليس مصدرها اسم الله من جهة أنه القوي العزيز.. وهكذا.
واستمداد الحياة نفسها من اسم الله الحي كذلك. فكل ذلك يعني أن جميع المعاني الحسنة أصلها من الله؛ فالأخلاق التي هي رحمة مصدرها اسم الله الرحمن الرحيم، إذ رحمته وسعت كل شيء، وإن كانت لن تكتب بعدُ في الحياة الحقيقية إلا للمؤمنين فقط، لأن التقوى فاصل حاسم بين فريق الجنة وفريق النار ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(المائدة:27).
الإسلام رحمة شاملة
إذن الإسلام جملةً هو عبارة عن رحمة في قسمه النظري وقسمه العملي. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الجانب التطبيقي لهذا القرآن -لأنه أوتي القرآن ومثلَه معه- هو المثلُ صلى الله عليه وسلم حين قال وحين فعل وحين أقرّ مما صحّ طبعاً. إذن هو بالقرآن وبالإسلام صار رحمة. لكن لمن؟ هل هو رحمة لنفسه فقط أم هو رحمة لمن آمن به فقط؟ هل هو رحمة للإنسان فقط أم هو رحمة للإنسان والحيوان فقط؟ إنه رحمة للعالمين، والمسلمون رحمة للعالمين أيضاً. والمسلم بقدر قربه من محمد صلى الله عليه وسلم يتسع معنى الرحمة فيه، لأن الإسلام الذي جاء من عند الله ، جاء عامًّا، يعمّ نفعه الناس جميعا “مثَلُ ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثَلِ غيث” (رواه البخاري)، حاله كحال ضياء الشمس، حيث تشرق الشمس على البار والفاجر، وكحال هذا الهواء المُشاع للجميع، وكحال الغيث ينـزل على الجميع. والمسلمون الذين يمثلون ذلك الهدى -وهم في الحديث الطائفةُ الطيبةُ- عليهم أن يتسعوا في معانيهم حتى يصيروا كالغيث أو كالغيوث، أي كهذا المعنى العام للرحمة بكل مستلزمات الرحمة. إذ يدخل كل ما في كتاب الله في معنى الرحمة سواء ما اتجه منه إلى جهة الإنعام أو ما اتجه منه إلى جهة المؤاخذة والتأديب، فذلك أيضا من رحمة الله، وذلك مظهر من مظاهر الرحمة الشاملة في الدنيا.
المعنى الحقيقي للحياة دافع إلى إيثار الآخرة
هذا المعنى للحياة هو التصوّر الإيماني الحقيقي للحياة، وعليه تُبنى حياةٌ ويُنتَج ويُصاغ إنسانٌ، لا يُؤثِر العاجلة على الآجلة، بل يؤثر الآجلة على العاجلة، على هذا التصور يصاغ إنسان يريد بالدنيا الآخرة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القصص:77). إلا أن الدنيا في موقعها من الحياة جملةً -في التصور الإيماني الروحي هذا- مجرد متاع صغير بسيط واستمتاع بلحظات فقط، وهو نفسه ما تشير إليه الآية: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾(البقرة:36). ولمن ذلك المتاع؟ لمن اعتبره هو الحياة. وهذا المتاع هو الذي يسمى بالنسبة للمغترّ به متاع الغرور ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(الحديد:20)، لكون الإنسان خُلق خلقا معينا فيه استعداد كبير للتجاوب والاستجابة للشهوات ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:7-10). وهذا الاستعداد في الإنسان للاستجابة للشهوات هو الذي رتّب الله عليه سنة الابتلاء ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(الملك:2). وبسبب هذا الاستعداد كانت آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تزهِّد المسلم في الدنيا، بما في تركيب الإنسان من مَيْل شديد إلى هذا الاتجاه؛ بل وتُمثِّل له الدنيا بكاملها على أنها مجرد متاع أو متاع الغرور ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾(الكهف:45).
ففي الآيتين معا تصويرٌ للحياة على أنها سريعة عابرة لا ينبغي أن تغرَّ الإنسان بحلولها وحضورها وحضوره هو فيها.. كل ذلك ينتهي سريعاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “كنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل” (رواه البخاري). فلو وضعنا زمانَ عمرِ كلِّ واحد منا -ولو كان ذا القرنين- إلى حساب ما سبق وحساب ما يلحَق في الحياة البرزخية، وحساب ما سيلحق في الحياة الأخروية التي لا نهاية لها، لبدَا الإنسانُ مجردَ عابر سبيل فقط، ليست الدار داره ولا مكان إقامته، ولا ينبغي أن يتعلق بها، بل يركب ما فيها ويتجه إلى الحياة الحقيقية، يستعملها ويريد الآخرة بها.
فساد التصور لمفهوم الحياة هو سبب الوَهَن
من هنا نأتي إلى أمر “الوَهَن” الذي بدأنا به الكلام وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم بحبّ الدنيا وكراهية الموت. ونتساءل كيف يحب المسلم الدنيا؟ لا يحبها إلا إذا شاب تصوّرَه لمعنى الحياة شوائب، إنْ لم يكن قد فسد تماما، إذ ذاك فقط يمكنه أن يقْصر حياته على الدنيا ويتجه إلى الدنيا، ويتعلّق بالدنيا ويهتم ويحرص على الدنيا، ويطمئن بالدنيا ويرضى بالدنيا…
لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في التصور فسادٌ. فيجب إذن أن يُرجَع إلى الآيات الكريمة التي تتحدث عن الحياة مطلقاً. فحيثما وجد لفظ الحياة وحيثما كان لفظ الحياة، ينبغي تتبُّعُه في سياقاته القرآنية لاستخلاص تصور شامل في النهاية لمفهوم الحياة في القرآن الكريم. لابد أن يُحي معنى الحياة في القرآن الكريم في النفوس ليستطيع الإنسان أن يعرف معنى الحياة حقيقة. وهذا منهج كامل في استخلاص المفاهيم جملة لتصحيح التصور الجزئي والكلّي لهذا الدين، انطلاقا من كتاب الله عز وجل.
التصور الإيماني لحقيقة الحياة الدنيا
هناك تصوران أيضاً في هذا القسم الصغير المسمى بالحياة الدنيا: تصور يعتبر الحياة هي هذه الحياة المادية ويعتبر الأحياء هم هؤلاء الذين يمتلكون خواص الحركة والنمو.. إلى غير ذلك من المظاهر المادية للحياة. هذا تصور ولا يُنْفى؛ ولكن إلى جانبه يأتي تصور ثان للحياة على نفس القاعدة المعروفة: “الحج عرفة” بمعنى أن الحياة الحقيقية هي هذه التي سنتكلم عنها لا تلك التي تعبِّر عنها المظاهر المادية.
فما هي هذه الحياة؟ وما هذا التصور لها؟ ذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾(الأنعام:122). ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾؟! مَنْ هؤلاء؟ هؤلاء أمثال أبي بكر وعمر وعثمان والمؤمنين جميعا قبلهم وبعدهم حين ينتقلون من حال الكفر إلى حال الإيمان، ينتقلون من الموت إلى الحياة ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾(الأنعام:122)، أي في ظلمات الموت الدنيوي. بينما المؤمنون يتولاهم الله تعالى فيحييهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾(البقرة:257)، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، هل يستويان؟ أبداً ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ﴾(فاطر:22).المعنى الأول بسيط، والمعنى الثاني عميق، والنِّذارة عموما لا تنفع إلا في الأحياء بالمعنى الثاني ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾(يس:70). أما الذي ليس بحيٍّ ولو وصلَتْه النّذارة كأبي جهل وأبي لهب، فإنه لا يستفيد، لن تنفع فيه النّذارة إلا من جهة إقامة الحجة عليه ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(الإسراء:15).
وهذا التفريق بين الحي حقيقة والحي حكما هو الذي جعل القاعدة الكبيرة تطرد في التطبيقات الواضحة في دعوة الله عز وجل للحياة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال:24). فالمستجيبون هم الأحياء والرسول يدعوهم إلى ما يحييهم. فإذن هناك الحياة العادية الحسِّية، والإنسانُ بها في المنطق القرآني الإيماني لا يعتبر حيّاً، وإنما هو مؤهّل لأن يكون حَيّاً. ذاك تمهيد ومقدمة صحيحة تؤهل صاحبها لأن يتلقى ما يحييه، إذ الميت ولو دعوناه فلن يستجيب ولن يسمع.
فللإنسان إذن في هذه الدنيا حياتان، حياةٌ عادية مادية خبيثة في تصنيف القرآن، وحياة روحية طيّبة في تصنيف القرآن أيضاً ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(النحل: 97). حياة طيبة، وعكسُها الحياة الخبيثة التي يكون أصحابها كما قال الله عز وجل فيهم: ﴿أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾(الأعراف:179). والسبب أن الأنعام لها غرائز تهديها بناء على الأصل الكبير ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50)، هَدى جميع الكائنات هدايةَ عقول، وهداية غرائز، وهداية تسخير وغير ذلك من الهدايات، إذ كل مخلوق ميسَّر لما خلق له، كما قال صلى الله عليه وسلم: “اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلِق له” (رواه البخاري). هذه قاعدة في الكائن الإنساني بالنسبة للاختيار في مسألة العمل، أما بالنسبة لباقي الكائنات فالتسخير فيها جِبِلِيٌّ، يعني في أصل الخلقة. فكل الكائنات مهدية بهذا المعنى، سائرةٌ إلى ما خُلقت له. ولكن بالنسبة للإنسان ابتُلي بالتكليف، والهدى حينما جاءه، جاءه وقد وضِع فيه استعدادٌ ليميز بين الخير والشر والصالح والطالح. فإن استجاب واهتدى فقد رشد فعلا وقد اتجه إلى العمل الصالح والحياة الطيبة، وإن لم يستجب صار أحط من الأنعام. لماذا؟ لأن الأنعام مهديَّةٌ بالغريزة، وهو لم يهتد إلى هدًى، فصار عاصياً جاحداً للنعمة أصلاً، وصار كافراً بالمرَّة، بحسب الدرجة التي استقرت عليها وجهتُه باختياره، ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾(الحجرات:7). إذن هناك الولادة الأولى والولادة الثانية، وما به تتم الولادة الثانية هو الذِّكر. وذلك ما أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: “مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكرُ ربَّه مثل الحيِّ والميِّت” (رواه البخاري).
والذكر هو كلّ الدين، ولا وظيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيرُ هذا ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾(الغاشية:21). والذي أنزِل عليه هو ذكرٌ ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾(التكوير:27).
القرآن ماء الحياة الحقيقية
فبهذا القرآن إذن وحده تتم الحياة، ولا سبيل إلى الحياة الثانية بالمعنى الصحيح إلا بماء الحياة. والماء الذي يتم به الإحياء هو هذا القرآن الكريم النازل من عند الله عز وجل، ولا سبيل إلى إحياء الإنسان الفرد ولا الإنسان الأمة بغير هذا الماء.
إن الله تعالى جعل الماء سبباً للحياتَين: الحياة العادية المادية ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(الأنبياء:30)، والحياة الروحية هي أيضاً من الماء الذي عبَّر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالغيث بصريح العبارة: “مَثَل ما بعثني به اللهُ من الهدى والعلم كمَثَل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ…” (رواه البخاري). فهذا الماء هو غيث الأرواح فعلاً، كما يفعل الماء في الأرض فتنتشر الرحمة ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾(الروم:50). وإذا نزل غيثُ القرآن في القلوب وامتزج بها وُلدت ولادة جديدة، وولد الإنسانُ الولادة الجديدة ليحيا الحياة الطيبة التي تسمى في منطق القرآن “الحياة الحقيقية”.
وجميع أجزاء القرآن هي مُحْيِيات قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾(البقرة:179). هذا حُكْم من الأحكام فيه عنصر من عناصر الحياة. أما قوله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال:24). فدعوة للحياة بصفة عامة. فكل ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنةٍ هو مما يحيي هذا الإنسان، ومما تجب الاستجابةُ إليه لنحصُل على الحياة.
إذا كان الماء يُحدِث الحياة في النباتات التي نراها في الأرض، فهو سبب الحياة أيضاً في الحيوانات والإنسان من جانبه المادّي، لكنّ سبب الحياة الإيمانية هو القرآن، ولهذا سماه الله عز وجل روحا ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52). إذا كانت الروح بعد الشهر الرابع تُنفخ في الجنين الطيني فيصير الإنسان بهذه الروح خلْقا آخر كما قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾(المؤمنون:14)، وخلقا آخر يتأهَّل بعدُ للتكليف، ويتأهَّل لعمارة الأرض، ويتأهل للخيرات في هذه الدنيا.. إذا كان بالروح يحدث له ذلك، وينشأ خلقا آخر، فإنه بروح القرآن يُنشأ الإنسان أيضا خلْقاً آخر بالمعنى الثاني للحياة. فتلك روحٌ وهذه روحٌ، روح إذا نُفخت في الفرد صار خلقاً آخر، وصار طاقة جبّارة متحرِّرة مما سوى الله عز وجل، فلم يعد عليه لغير الله سبحانه سلطان. ومثل ذلك يحدث للأمة، إذ لا يمكن أن تتخلَّق الأمة -أي أمّة الإسلام- لتصير أمة قوية متحررة من كل سلطان إلا سلطان الله إلا بالقرآن، أي بروح القرآن، بل وتصير أمة متماسكة متساندة كما تحدث عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد…” (رواه البخاري). فللجسد خصائص الوحدة مع التنوع الداخلي، لكن مع التنوع يوجد التداخل التام والانسجام التام بين الأجهزة المكونة له. فالجسد مع التنوع له خاصية الوحدة، وكذلك الأمة مع تنوع العناصر المكونة لها خصائص الوحدة والتلاحم. وليصير المسلمون جسدا، لابد لهم من هذه الروح ولابد أن يحيوا بهذه الروح أفراداً، ويحيوا بهذه الروح أمّة.