د. منى سليمان
(زمان التركية)-أجرى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لقاء متلفز موسع يوم 1 يونيو 2021، تناول فيه كافة القضايا الداخلية والخارجية محل النقاش في الأوساط التركية حاليا. وجدد فيه الدعوات التركية للتقارب وإنهاء الخلافات مع الشعب المصري تحديدًا، كما أكد على استمرار مساعيه لحل كافة الخلافات مع حلفاء بلاده الإقليميين والدوليين. والمتابع للسياسة الخارجية التركية خلال العام الماضي، يجد أنها مرت بأكثر مراحل العزلة الإقليمية منذ عقدين والتي فرضت عليها إثر التعنت السياسي للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في إدارة ملفات السياسة الخارجية لبلاده. حيث تعمد التدخل عسكريًا وسياسيًا في كافة الملفات الإقليمية (العراق، سوريا، ليبيا، أذربيجان، شرق المتوسط) وسعى لتطبيق “نظرية صفرية” عليها أي الفوز فيها جميعًا متجاهلا مصالح وتوازنات سائر القوى الإقليمية الأخرى مثل (مصر، اليونان، السعودية). تلك القوى كان لها رد فعل على التحركات التركية أسفر عن عزلة إقليمية لأنقرة أثرت سلبًا علي الاقتصاد التركي الذي يشهد تراجعًا مستمرًا. ولذا يسعى حاليا أردوغان” لتفكيك تلك العزلة وإحداث إختراقات متتالية في العلاقات التركية العربية تحديدًا لاسيما مع مصر والسعودية، كما سعى للتقارب مع الإتحاد الأوروبي واليونان، بيد أن تلك المساعي لم تأت بثمارها حتى الآن، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي ..
أولا: مؤشرات عزلة تركيا الإقليمية:
– تجاهل منتدى “فاليا” لتركيا: عقد يوم 11 فبراير 2021 في أثينا منتدى “فاليا” للصداقة، وشارك فيه وزراء خارجية خمس دول بجانب اليونان وهي (مصر، السعودية، الإمارات، الأردن، وفرنسا) وهي دول عربية وشرق متوسطية يجمعها توتر علاقاتها مع تركيا, وهو الأمر الذي اعترضت عليه أنقرة، وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا تعليقا على المنتدى يؤكد على إنه “لا يمكن لأي منتدى لا توجد فيه تركيا المحورية في المنطقة والقبارصة الأتراك، أن يشكل آلية صداقة وتعاون ناجح وفعال من ناحية الاختبارات التي تواجهها المنطقة”. واعتبر البيان أن المنتدى “يقوض جهود الاتحاد الأوروبي من أجل الاتحاد في البحر المتوسط”. وهو ما رد عليه وزير الخارجية المصري “سامح شكري” في 13 فبراير 2021 وأكد إن الهجوم التركي على “منتدى فيليا” غير مبرر ولا وزن له، وأن القاهرة لا تلتفت لذلك. بيد أن المنتدى يؤكد عزلة تركيا الإقليمية وأن تلك الدول تعترض علنا وضمنا على السلوك التركي الخارجي المضر بمصالحها.
-استمرار تأزم العلاقات التركية العربية: خلال عام 2020 تدخلت تركيا عسكريا في ثلاث دول عربية هي سوريا وليبيا والعراق. وهو ما اعترضت عليه الدول العربية الوازنة مثل مصر والسعودية والإمارات وكان أحد مصادر الخلاف بينها وبين أنقرة بل أن منتصف عام 2020 شهد مخاوف من حدوث صدام مسلح مباشر بين مصر وتركيا في ليبيا حال استمرت المواجهات العسكرية بين قوات الجيش الوطني الليبي وميليشيات الوفاق المدعومة من أنقرة. وقد بدأ العام الحالي بعقد “قمة العلا” في المملكة العربية السعودية في 5 يناير 2021 والتي أسفرت عن مصالحة مع قطر بعد ثلاث أعوام ونصف من مقاطعة (مصر، السعودية، البحرين، الإمارات) للدوحة وقطع العلاقات معها. وهو الأمر الذي رحبت به أنقرة للغاية وسعت للتقارب مع الدول الأربع التي شهدت علاقاتها معها توترا مستمرا بيد أن ذلك لم ينجح، حيث إن المصالحة الخليجية في قمة “العلا” ستعزز التقارب المصري القطري الخليجي مما سيعمل على تأكيد عزلة تركيا إقليميًا.
ثم تأكد في 5 مارس 2021 تأزم العلاقات التركية العربية في مجملها، بعد صدور البيان الختامي للدورة الـ155 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري الذي عقد بالقاهرة، وانتقد السلوك التركي في الدول العربية لاسيما بعد احتلال أنقرة عدد من مدن الشمال بسوريا والعراق وطالب البيان أنقرة بسحب قواتها من سوريا وليبيا والعراق. واتهم البيان أنقرة بالتدخل في شؤون الدول الأعضاء فيها، وهو ما رفضته تركيا لة ولا تستند إلى أي دليل”. اأمر الذي تطلب أصدار بيان من الخارجية التركية للرد علي بيان الجامعة العربية وأكدت أنقرة أن الاتهامات الواردة بالبيان مرفوضة جملة وتفصيلا.
-التعاون الخليجي اليوناني: كما شهد مارس 2021 حدثا فريدا يؤسس لمرحلة جديدة من التعاون بين الدول الخليجية والمتوسطية، حيث شاركت في 13 مارس 2021 المملكة العربية السعودية مع اليونان في تدريب جوي مشترك باسم (عين الصقر 1) باليونان. ثم تكرر التعاون العسكري المصري اليوناني والخليجي اليوناني، مما أثار حالة من الاستياء في تركيا، التي تشهد علاقاتها مع اليونان حالة من التوتر المتصاعد في الشهور الأخيرة، على خلفية أنشطة أنقرة للتنقيب عن الطاقة في البحر المتوسط. وقال “أردوغان” إنه بلاده ستبحث مع السلطات السعودية قرارها بشأن إجراء مناورات عسكرية مع اليونان، حيث تمثل منطقة شرق المتوسط منطقة حيوية لتركيا والتي تنشر فيها عدد كبير من القطع البحرية العسكرية وسفن التنقيب عن الغاز الطيبعي في سواحل وجزر متنازع عليها بين أنقرة وأثينا.
وفي 16 أبريل 2021 استضافت قبرص إجتماعا دبلوماسيا بين 4 دول تجمع بينها توتر علاقاتها أيضا مع أنقرة هي (إسرائيل، الإمارات، واليونان، قبرص) وأجريت محادثات وصفت بأنها تهدف لتأسيس “شراكة إستراتيجية جديدة تمتد من سواحل الخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا في مجال الطاقة بين شرق المتوسط والخليج”، وهذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها تجاهل تركيا حيث تم تجاهلها في إنشاء (منتدى غاز شرق المتوسط، منتدى فاليا)، الأمر الذي آثار انتقادات كبيرة من المسؤولين الأتراك الذين اعتبروا التجمع الجديد موجها ضد بلادهم ومصالحها في شرق المتوسط لكن القائمين على المنتدى رفضوا حينها التهم الموجهة اليهم مؤكدين أنهم لا يستهدفون اية دولة.
-الخلافات مع إيران: منذ عام 2011 تتقاسم تركيا وإيران النفوذ في المنطقة العربية وسعت كل منهما لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن تراجع الدور الإقليمي العربي ورفض الانخراط الأمريكي عسكريا في المنطقة، وقد عززت كلا منهم دورها الاقليمي بما يحقق مصالحها وتوسعت وتمددت إقليميا بالاعتماد على القوة الناعمة تارة والصلبة تارة آخرى. وكان هناك العديد من الملفات المشتركة الهامة بينهم مثلا تقاسم النفوذ في سوريا والعراق ومع حدوث أي صدام مسلح بين قوات الدولتين المتواجدة هناك، والالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة علي إيران وهذا حقق مكاسب جمة للأقتصاد التركي. والتنسيق الأمني بين الدولتين لمواجهة عناصر حزب العمال الكردستاني التي تنشط على المثلث الحدودي التركي العراقي الإيراني. والدعم التركي لطهران في الملف النووي.
بيد أنه بنهاية عام 2020 بدأت الخلافات تتفاقم بينهما، لاسيما بعد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، والتهديدات التركية بشن حملة عسكرية على مدينة سنجار العراقية التي يسيطر عليها ميليشيات شيعية مدعومة من إيران مما يثير المخاوف من مواجهة مسلحة بين الميليشيات والجيش التركي، فضلا عن الخلافات حول تقاسم النفوذ بسوريا قبل التسوية النهائية الملفات الخلافية. كما أن التمدد التركي بالقوقاز ووسط آسيا، والانخراط التركي في الملف الافغاني يثير حفيظة إيران التي تتعامل مع ذلك باعتباره المجال الحيوي لها. الأمر الذي ينذر بالمزيد من الخلافات بين طهران وأنقرة خلال الشهور القليلة المقبلة.
-اتساع فجوة الخلافات مع روسيا: تعرضت العلاقات بين موسكو وأنقرة لعدة أزمات عام 2020، حيث اتسعت فجوة الخلاف بينهم ووقفت كلا منهم كخصم للآخر في أكثر من ملف إقليمي، بدءا بالملف السوري ثم الليبي ثم في الصراع بأذربيجان التي دعمتها أنقرة ضد حليف روسيا أرمينيا. ومؤخرا دعم الرئيس “أردوغان” أوكرانيا في نزاعها مع روسيا واستقبل الرئيس الأوكراني وعقد معه 6 اتفاقيات تعاون. وهو الأمر الذي أزعج موسكو كثيرا وكان الرد عليه تعليق رحلات الطيران لتركيا بذريعة تفشي فيروس (كورونا) رغم أن تلك الرحلات لم تعلق لدول أخرى، مما يؤكد أن القرار سياسي وهدفه حرمان أنقرة من 3 مليون سائح روسي مما أثر سلبًا على الاقتصاد التركي. كما تدعم موسكو موقف اليونان دائما في مواجهة أنقرة نظرا للعلاقات التاريخية الوثيقة بين موسكو وأثينا. ولا تنته الخلافات التركية الروسية عند هذا الحد بل أن التنافس بين الدولتين بدأ يتخذ صورا أكثر جدية في إقليم القوقاز والبحر الأسود وآسيا الوسطي وشرق أوروبا لاسيما بعد صفقة بيع الطائرات التركية المسيرة لبولندا. وحتى الآن مازالت العلاقات الشخصية المتميزة بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره التركي “أردوغان” مفتاحا لحل كافة الخلافات بين دولتيهما.
بيد أن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” انتقد خلال تواجده في القاهرة بأبريل 2021، التقارب التركي مع أوكرانيا مما أثر سلبًا علي العلاقات بين أنقرة وموسكو لاسيما وأنه جاء من القاهرة التي تشهد علاقاتها توترا مع أنقرة، كما قام “لافروف” بزيارة للرياض وأبوظبي لتعزيز علاقات موسكو معهم. وهذه رسالة ضمنية لأنقرة بأن تقاربها مع أوكرانيا يؤثر علي المصالح الحيوية لموسكو، والأخيرة تستطيع تغير قواعد التعامل مع أنقرة ومضاعفة عزلتها الإقليمية أكثر نظرا لكثرة الملفات العالقة بين الدولتين وتؤثر علي الأمن القومي التركي مباشرة ومنها (سوريا، ليبيا، أذربيجان، شرق المتوسط)، وحتى الآن تلجأ موسكو وأنقرة للتفاوض والتوصل لحل وسط لمعالجة الخلافات في هذه الملفات ويمكن لموسكو تعقيد تلك الملفات وإضافة المزيد من الأزمات في السياسة الخارجية التركية.
-استمرار التوتر مع الاتحاد الأوروبي: خلال العامين الماضيين بلغت العلاقات التركية الأوروبية لأدنى مستوى لها، وذلك بفعل السلوك التركي المعادي لليونان وقبرص والانتهاكات بشرق المتوسط، والخلاف مع فرنسا بشأن الملف الليبي والسوري، والدعم التركي لتيارات الإسلام السياسي في الدول الأوروبية. فضلا عن الانتقادات الأوروبية لحملات القمع والاعتقالات والفصل التعسفي التي تشنها أنقرة ضد معارضيها منذ محاولة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016. وبنهاية عام 2020 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أنقرة انتقادا لسلوكها في شرق المتوسط. ثم في مارس 2021 قام وفد أوروبي بزيارة أنقرة بيد أن الزيارة لم تسفر عن أي تقدم في العلاقات بل أن “حادثة الأريكة” الشهيرة قد أضافت أزمة جديدة للعلاقات بينهم.
-الخلاف الأمريكي التركي: خلال عامي 2019 و2020 كانت تسعى تركيا لصوغ سياسة خارجية مستقلة عن حلفائها مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وقد سادها في ذلك العلاقات الشخصية المتميزة بين “أردوغان” والرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” الذي تغاضى عن كل التهديدات التركية المباشرة لليونان وهي حليف بالناتو وكذلك كان داعم للعمليات العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق والانخراط التركي بالملف الليبي، وكان “ترامب” يرى أن التواجد التركي في تلك المناطق الحيوية سيكون معادلا لنظيره الروسي ويحقق المصالح الأمريكية دون تكلفة على واشنطن، بيد أن النهج الأمريكي الداخلي والخارجي أختلف مع قدوم الرئيس الأمريكي الجديد “جون بايدن” الذي انتقد مباشرة السلوك التركي الخارجي وانتهاكات أنقرة لحقوق الإنسان وقمع المعارضة، وفي 24 أبريل 2021 فعلها “بايدن” واعترف بالإبادة الجماعية للأرمن على يد القوات العثمانية ورغم أن الاعتراف لا يحمل تركيا المسؤولية السياسية والقانونية عن تلك المذابح إلا أنه مثل جرس الإنذار “لأردوغان” بأن تجاهله مصالح حلفاءه سيكون له مقابل يؤثر سلبًا على أنقرة. ويمكن واشنطن اتخاذ العديد من القرارات المماثلة والمؤلمة لتركيا لاسيما في ظل القضايا الخلافية المتعددة بين أنقرة وواشنطن والتي تبدأ بإصرار الأولى على امتلاك (صواريخ اس 400) الروسي حتى إذا لم تقم بتشغيلها، والتهديدات التركية لليونان وشرق المتوسط، والتواجد العسكري التركي في العراق وسوريا وليبيا، فضلا عن الانتقادات الأمريكية للأوضاع الداخلية بتركيا.
ثانيا: تعثر الجهود التركية لإنهاء العزلة الإقليمية:
أدركت القيادة السياسية التركية مع مطلع عام 2021 ، أن الاستمرار في سياستها الخارجية على وضعها الراهن والاستمرار في معاداة كافة دول الجوار والقوى الإقليمية، سيؤدي لاستمرار العداء لتركيا وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على أنقرة مما سيؤثر سلبًا على الاقتصاد التركي المتأزم بالفعل. ولذا بدأ الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” مع بداية العام الحالي تغير لهجة خطابه السياسي ليصبح أقل حدة وأكثر هدوءًا ومرونة كما أرسل دعوات للتهدئة لإنهاء الخلافات التركية الاقليمية مع مصر والسعودية واليونان، ورحب كثيرا بإنهاء المقاطعة الخليجية المصرية لقطر، وعقدت وفود من وزارة الخارجية التركية العديد من اللقاءات مع دول المنطقة لبحث سبل إنهاء الخلافات بينهم، ومن بين تلك الجهود التركية ما يلي..
-فشل زيارة “أوغلو” للرياض: لم تشهد العلاقات بين تركيا والسعودية والإمارات أي تقدم منذ “قمة العلا” حيث سادت التفاؤل آنذاك بحدوث مصالحة عربي تركية بعد المصالحة الخليجية، وهو ما لم يحدث. بل أن الرياض قامت بإغلاق عدد من المدارس التركية في المملكة مما فسرته أنقرة بأنه خطوة معادية لها. لكي تواجه أنقرة لخلافات مع الرياض وأبوظبي عززت تعاونها مع الكويت حيث قام وزير الخارجية الكويتي “أحمد ناصر المحمد الصباح” بزيارة لأنقرة في 8 أبريل 2021، وأعلن أن هناك توافقا في الآراء بشأن القضايا الإقليمية بين بلاده وتركيا. ورغم أهمية العلاقات بين أنقرة والكويت وأنقرة والدوحة إلا أن الدولتين الخليجيتين لن تعوضا حجم الاستثمارات السعودية والإماراتية في تركيا وهو ما يحتاجه الاقتصاد التركي حاليا.
وقد شهدت العلاقات بين تركيا والسعودية توترًا متصاعدًا منذ أكتوبر 2018 بعد حادثة مقتل الصحفي السعودي المعارض في قنصلية بلاده باسطنبول “جمال خاشقجي”، حيث سعت أنقرة بعد ذلك لتدويل القضية ووجهت العديد من الانتقادات للرياض وسعت لتحميل ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” المسؤولية عن مقتله. ورغم أن الرياض اتخذت كافة الاجراءات القانونية والقضائية لمحاكمة مرتكبي هذه الحادثة إلا أن الهجوم التركي استمر قرابة عامين على المملكة. وقد فاقم من التوتر حدة الخلاف في مختلف ملفات السياسة الخارجية للدولتين. ونتيجة لذلك نظمت بعض الجهات الغير رسمية في المملكة حملات لمقاطعة المنتجات التركية والسياحة في تركيا مما كبل الاقتصاد التركي خسائر فادحة، ودفع “أردوغان” لإجراء أول اتصال منذ عامين مع العاهل السعودي الملك “سلمان بن عبدالعزيز” في نوفمبر 2020 للإتفاق على أجندة عمل “قمة مجموعة العشرين” التي ترأسها الرياض وتحظى بعضويتها أنقرة. كما اتفق الطرفين على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين البلدين لتطوير العلاقات وحل الخلافات. ثم كرر “أردوغان” الإتصال الهاتفي بالملك السعودي في أكثر من مناسبة. الأمر الذي مهد لزيارة وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” للرياض في منتصف مايو 2021 لبحث سبل معالجة القضايا الخلافية بين الدولتين، بيد أن الزيارة انتهت دون حدوث أي إختراق في التعاون الثنائي بين الدولتين.
-تعثر جهود التطبيع المصري التركي: عول كثيريين على نتائج الجولة الأولى من المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا التي امتدت على مدار يومي (4 و5 ) مايو 2021، حيث حضر وفد تركي للقاهرة لأول مرة منذ عام 2013 برئاسة نائب وزير الخارجية التركي “سادات أونال” ورأس الوفد المصري نظيره “حمدي سند لوزا” لبحث تطبيع العلاقات المتوترة بين البلدين. وفي ختام المباحثات صدر بيان مشترك أكد أن المشاورات الاستكشافية ستركز على الخطوات الضرورية التي قد تؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين على الصعيد الثنائي وفي السياق الإقليمي. وهذا البيان الدبلوماسي لا يحمل أي مؤشرات علي قرب تطبيع العلاقات بين الدولتين لاسيما في ظل تمسك كل دولة بمواقفها من الأخرى. حيث لم يحدد البيان موعد الجولة الثانية من التفاوض. وهذا نظرا لتنوع وتعدد الملفات الخلافية بين أنقرة والقاهرة التي تشمل الملف الليبي والتواجد العسكري التركي في سوريا والعراق والتنقيب التركي بشرق المتوسط، والتواجد التركي بالقرن الأفريقي من خلال قاعدتها في الصومال، فضلا عن استضافة تركيا لقيادات تصنفها القاهرة بقيادات إرهابية وتطالب بتسليمها. هذا فضلا عن التحالف المصري اليوناني القبرصي الذي يمثل تهديدا غير مباشر للمصالح التركية الحيوية، ورغم ذلك فأن قدوم الوفد التركي للقاهرة هو إعتراف ضمني من أنقرة بأنها الطرف المخطىء في العلاقات الثنائية حيث كان يمكن أن تتم الجولة في دولة ثالية محايدة مثل الكويت أو الأردن.
-الإنخراط بالمف الافغاني: في ظل مساع أنقرة لتحسين صورتها الدولية والتقارب مع واشنطن وكسب المزيد من أوراق الضغط عليها، أعلن وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، أنّ بلاده تعمل على استضافة مدينة إسطنبول اجتماعًا حول عملية السلام في أفغانستان، بناء على مقترح أمريكي، كما أعلن عن تعيين ممثل تركي خاص لأفغانستان من أجل دفع عملية السلام وأكد أن الاجتماع سيكون بالتنسيق مع دولة قطر. وذلك تمهيدا للانسحاب الأمريكي من أفغانستان المقرر في سبتمبر 2021 بعد عشرين عام من الاحتلال الغربي للبلاد، وهذا الانخراط التركي في الملف الأفغاني سيقدم لأنقرة العديد من الفرص لتعزيز تواجدها في وسط آسيا وتعزيز علاقاتها مع قوى الإسلام السياسي.
-طرح برنامج إصلاحات جديدة: أعلن “أردوغان” في 2 مارس 2021، عن خطة عمل لحقوق الإنسان، والتي تتضمن مجموعة من 11 مبدأ رئيسيًا و9 أهداف و50 هدفًا و393 نشاطًا يتم تنفيذها على مدار عامين، ووعد بعدد من الإصلاحات القانونية التي تم التعهد بها لتعزيز مكانته. وكذلك دعا لتعديل الدستور التركي الحالي ودعا كافة الأحزاب للمعارضة للمشاركة فيه، كما طرح برنامج إصلاحات اقتصادية جديدة تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي المستدام، وخلق فرص العمل، وزيادة الصادرات، وتقليل اعتماد البلاد على الواردات. وهذا البرنامج الهدف منه تحسين صورة “أردوغان” في الخارج وجذب المزيد من الإستثمارات والوفود السياحية لمعالجة الضرر الذي لحق بالاقتصاد التركي خلال العامين الماضيين.
-فتح آفاق جديدة: سعى “أردوغان” لفتح آفاق جديدة لسياسة بلاده الخارجية لتعويض الأزمات المتتالية فيها، ولجذب المزيد من الاستثمارات والوفود السياحية، ، ولذلك فقد دعا “أردوغان” خلال ترأسه يوم 8 أبريل مجموعة الثمان الإسلامية التي تضم (تركيا، مصر، باكستان، أندونيسيا ، ماليزيا، السعودية، نيجيريا، إيران) لتفعيل هذه المجموعة وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بينهم. كما استقبل مؤخرا رئيس وزراء جورجيا والرئيس الأوكراني ورئيس وزراء بولندا لتعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري بين أنقرة وبين دولهم، وهذه الدول لم تكن ضمن التحالفات التركية السابقة.
ورغم هذه الجهود التركية الدؤوبة لإنهاء العزلة الإقليمية التي فرضت عليها فإنها لم تأت ثمارها حتى الآن، وذلك بفعل عدم تغير حقيقي لتوجهات السياسة الخارجية التركية، وعدم صدق نوايا أنقرة للتقارب مع تلك الدول حيث أنها سعت للتقارب لمواجهة الأزمة الاقتصادية وتخفيف حدة العزلة الاقليمية والخلافات في السياسة الخارجية التركية، ولذا فإن هذا التغير والتوجه للتصالح ليس نابعًا من إقتناع القيادة السياسية بأهمية هذه الدول وأهمية التقارب معها، والدليل على ذلك أن ..
-الخارجية التركية مازالت تتجاهل علي سبيل المثال المصالح المصرية الاستراتيجية في ليبيا وتصر على نقل المرتزقة السوريين لليبيا، كما تسعى لتعزيز التعاون الإقتصادي مع الحكومة الليبية الجديدة برئاسة “عبد الحميد الدبيبة”، كما تتجاهل المصالح السعودية في دول الخليج وتصر على إجراء مناورات عسكرية مع قطر حتى بعد المصالحة الخليجية القطرية.
-ورغم اعتراض بيان جامعة الدول العربية في مارس 2021 على الاحتلال التركي لشمال العراق وسوريا، إلا أن تركيا شنت عملية عسكرية جديدة يوم 23 أبريل في دهوك العراقية بأسم “المخلب البرق الصاعقة” وكأنها تضرب بعرض الحائط الموقف العربي. ومع هذا فإنه يجب مراعاة مقتضيات الأمن القومي التركي والتهديدات المستمرة من تواجد عناصر حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل وسنجار بالعراق ولكن هذا التصدي لتلك العناصر الإرهابية يجب أن يكون من خلال التنسيق الأمني المستمر المباشر مع الحكومة المركزية في بغداد وأربيل هذا في المدى القصير. وعلى المدى الطويل يجب إيجاد حل نهائي للقضية الكردية من خلال مبادرة عربية لوقف الذريعة التركية للتدخل عسكريا في سوريا والعراق.
-مازالت وسائل الإعلام التركية تشن حربًا إعلامية ضد القيادة السياسية المصرية والإماراتية مما يعيق أي تقارب فعلي بين أنقرة والقاهرة وأبوظبي. وهناك العديد من الأمثلة على ذلك، لأن أنقرة تسعى لإنهاء عزلتها الإقليمية بأقل الخسائر الممكنة وهو أمر مستبعد نظرا لاستمرار العداء التركي لعدد من دول المنطقة لسنوات عدة مضت، فضلا عن تنوع وتعدد القضايا الخلافية بين أنقرة ودول المنطقة وهو ما يتطلب جهود تركية مضاعفة وصادقة وجدية بإنهاء هذه الخلافات وتقديم تنازلات ملموسة للعواصم المؤثرة إقليميًا مثل القاهرة والرياض وأبوظبي وأثينا لتطبيع العلاقات معهم.
وخلاصة القول، أن ما يقوم به “أردوغان” حاليًا هو جزء من مفهوم “التغير الذاتي التصحيحي” حيث إنه أدرك تماما خطأ سياساته الخارجية السابقة ويسعى لتصحيحها وإعادة تطبيع علاقاته مع الدول العربية والأوروبية، وإن صدقت نواياه فيمكنه تحقيق ذلك فتركيا دولة من دول مجموعة العشرين، لديها ثاني أكبر جيش في الناتو ولديها شبكة واسعة من البعثات الدبلوماسية هي السادسة في العالم، بيد أنه ينبغي علي “أردوغان” الاعتراف بمصالح وتوازنات القوى الإقليمية لدول المنطقة العربية والشرق أوسطية ويقدم تنازلات تحقق التوازن في علاقات تركيا الخارجية.
*باحثة في العلاقات الدولية بالشأن التركي