بقلم/ أحمد مروات
تاريخ بناء القدس يعود إلى اسم بانيها وهو إيلياء بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام -إيلياء أحد أسماء القدس- وقيل إن “مليك صادق” أحد ملوك اليبوسيين -وهم أشهر قبائل الكنعانيين- أول من اختط وبنى مدينة القدس وذلك سنة (3000 ق.م) والتي سميت بـ”يبوس”. وقد عرف “مليك صادق” بالتقوى وحب السلام حتى أُطلق عليه “ملك السلام”، ومن هنا جاء اسم مدينة “سالم” أو “شالم” أو “أور شالم” بمعنى دع شالم يؤسس، أو مدينة سالم. وبالتالي فإن أورشليم كان اسماً معروفا وموجودا قبل أن يغتصب الإسرائيليون هذه المدينة من أيدي أصحابها اليبوسيين. وسماها الإسرائيليون أيضا “صهيون” نسبة لجبل في فلسطين، وقد غلب على المدينة اسم “القدس”.
أبدى العثمانيون عناية فائقة بتطوير مدينة القدس، ابتداء بالتعميرات الضخمة التي أنجزها السلطان سليمان القانوني وانتهاء بالمباني التي شُيدت في عصر السلطان عبد الحميد الثاني.
الدور التمهيدي في العمارة العثمانية
وقسَّم العلماء تاريخ العمارة الإسلامية العثمانية إلى أدوار واضحة المعالم أعقبت الدور التمهيدي. أما الدور التمهيدي فيعُم الفترة الزمنية السابقة على أيام السلطان “أورخان” الذي تسلطن (1325م). ويشمل الدور التمهيدي المنشآت التي أنشأها الأمير “أَرطغرل بن سليمان شاه” (1198-1281)، حيث امتدت في زمنه رقعة الإمارة العثمانية بالفتوحات من مدينة “أَسْكِيشَهِر” إلى “كُوتَاهْيا”. وبعد وفاته حكم الإمارة ابنه عثمان الأول (1258-1326)، حيث اتخذ من المدينة الجديدة “يَنِي شَهِرْ” عاصمة للدولة العثمانية. وتطورت العمارة الإسلامية العثمانية في “يني شهر”، ثم مرّت بأدوار عدة فشكل عهد أرطغرل وخليفته عثمان الأول مرحلة الدور المعماري العثماني التمهيدي الذي استمر حتى نهاية عهد عثمان الأول.
وبعد وفاة السلطان عثمان الأول خلفه ولده السلطان “أورخان”. فبدأ دور معماري جديد، فتطورت العمارة الإسلامية العثمانية حين فُتحت مدينة “بورصة”، فاتخذها السلطان أورخان عاصمة للدولة العثمانية بعد العاصمة الأولى في مدينة “يني شهر”. ثم فتح السلطان أورخان مدينة “إِزْنيك” المسماة “نيقيا المقدسة” عند الروم. واستطاع السيطرة على سواحل البحر الأسود وبحر مرمرة.
ومع امتداد السلطنة العثمانية إلى المدن المفتوحة اتسع نطاق العمارة الإسلامية، وازدهرت فنونها، وأصبحت مدينة بورصة نموذجا رائعا للمدينة الإسلامية بكل مكوناتها المتطورة. وبعدما حقق السلطان أورخان انتصاراته في آسيا، قرر التوجه غربا نحو أوروبا لمتابعة الفتوحات، ونشر الحضارة الإسلامية بكل ما فيها من حسنات تحقق المصالح الإنسانية وتدفع المفاسد، حيث حقق آماله بفتح مدن الضفة الغربية لمضيق الدردنيل الذي يصل بين بحر مرمرة شمالا وبحر إيجة جنوبا.
القدس في ظل الدولة العثمانية
أبدى العثمانيون عناية فائقة بتطوير مدينة القدس، ابتداء بالتعميرات الضخمة التي أنجزها السلطان سليمان القانوني وانتهاء بالمباني التي شُيدت في عصر السلطان عبد الحميد الثاني. ورغم محاولات بعض المؤرخين طمس هذه الحقيقة فإنّ تلك المنشآت ما زالت قائمة حتى اليوم.
إن أقدم معلم تاريخي في القدس الشريف هو أسوار المدينة التاريخية التي تم بناؤها من قبل السلطان سليمان القانوني عام (1526م)، ويليها الأوقاف والمؤسسات الخيرية.
إن أقدم معلم تاريخي في القدس الشريف هو أسوار المدينة التاريخية التي تم بناؤها من قبل السلطان سليمان القانوني عام (1526م)، ويليها الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي بنيت في أماكن مختلفة من القدس وأبرزها الوقف الخيري “خاصكي سلطان” أو “التكية”. وهي من أعظم المؤسسات الخيرية في القدس والتي قامت بإنشائها زوجة السلطان سليمان القانوني. والتكية تقدم الطعام لفقراء القدس والمحتاجين إلى يومنا هذا، حيث تقع على طريق الواد وفي الزقاق الممتد بين خان الزيت وعقبة التكية حيث تكية خاصكي سلطان كما عرفها أهالي فلسطين والقدس من مئات السنين.
في أول شهر كانون الأول من عام (1517م) وصل السلطان العثماني سليم الأول أسوار القدس ولم تكن هناك مقاومة. وخرج العلماء للقاء السلطان وأهدوه مفاتيح الأقصى وقبة الصخرة، فقفز السلطان سليم من على فرسه وسجد سجدتين ثم قال: “الحمد لله الذي جعلني خادما لحرم أولى القبلتين”.
وتعتبر فترة السلطان سليمان القانوني نجل السلطان سليم الأول، الفترة الذهبية بالنسبة لأسوار القدس، حيث أمر هذا السلطان بإعادة بناء أسوار المدينة من جديد.
وكانت تلك خطة طموحة استلزمت مهارة عالية ونفقات باهظة. ولم يقم العثمانيون ببناء استحكامات معقدة كتلك سوى في أماكن قليلة أخرى. وبلغ طول السور الذي ما زال موجودا إلى الآن ميلين بارتفاع قرابة أربعين قدما. وأحاط المدينة إحاطة تامة وكان به أربعة وثلاثون برجا وسبع بوابات. وحينما انتهى بناء السور عام (1541م) أصبحت القدس محصنة لأول مرة منذ أكثر من ثلاثمائة عام.
وأنفق سليمان القانوني أيضا مبالغ كبيرة في نظام المياه بالمدينة فبنيت ست نافورات جميلة وشقت القنوات والبحيرات، وتم تجديد بحيرة السلطان جنوب غربي المدينة وأصلحت قنواتها. وشهدت المدينة أزدهارا جديدا حيث تم تطوير الأسواق وتوسيعها.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر تم تحويل القدس إداريا إلى متصرفية وضمت إليها “نابلس” و”غزة”، لزيادة عدد سكانها ولأهميتها الدينية. وكانت سلطة قاضي القدس ذات مدى متسع يشمل المناطق من غزة إلى حيفا.
قد تم إعادة ترميم قبة الصخرة في عهد السلطان محمد الثالث والسلطان أحمد الأول والسلطان مصطفى الأول.
لم يهمل السلطان سليمان الحرم فرممه بالفسيفساء خاصة الجزء الأعلى من الحائط الخارجي لقبة الصخرة وغلف الجزء الأسفل بالرخام. وتمت تغطية قبة السلسلة بزخارف جميلة. كما بنى سليمان القانوني نافورة بديعة للوضوء في الفناء الأمامي للمسجد الأقصى وكما أيد بناء أوقاف الحرم وبعض المدارس. وتنازل السلطان عن حقه في رسوم دخول الحجاج لصالح تمويل قراءة القرآن في قبة الصخرة لمدة عام واحد. وأصبحت الأوقاف التي تم إصلاحها مصدر عمل ودخل للأعمال الخيرية. وأنشأت زوجة السلطان القانوني تكية في القدس عام (1551م)، ومجمعا كبيرا يشمل مسجدا ورباطا ومدرسة وخانا ومطبخا يخدم طلبة العلم والمتصوفين والفقراء ويقدم لهم وجبات طعام مجانية. وقد شملت أوقاف التكية عدة قرى حتى وصلت منطقة رام الله.
فقد تم إعادة ترميم قبة الصخرة في عهد السلطان محمد الثالث والسلطان أحمد الأول والسلطان مصطفى الأول. وأصدر السلاطين فرمانات عديدة خاصة بالأماكن المقدسة.
وكان الباشاوات ملزمين بحفظ النظام في منطقة الحرم والتأكد من سلامة الأماكن الدينية ونظافتها. وكانت الوقف تستغل في عائدات أعمال الصيانة وكانت الحكومة أيضا على استعداد لاقتسام النفقات إذا استدعى الأمر. وظلت المدينة في القرن السابع عشر تستحوذ على الإعجاب. وساد الأمن والسلام في كل أرجاء بلاد القدس الشريف. وقد زار الرحالة التركي “أوليا جلبي” القدس عام (1648م) ووجد -كما قال- أن هناك ثمانمائة إمام وواعظ يعملون في الحرم والمدارس المجاورة ويتقاضون مرتبات، وكان هناك أيضا خمسون مؤذنا وعدد كبير من مرتلي القرآن الكريم، كما وجد أن الزائرين المسلمين ما زالوا يسيرون مواكبهم حول الحرم ويؤدون الصلاة في المواقع المختلفة. وقال إن أروقة الحرم امتلأت بالدراويش من الهند وفارس وآسيا الصغرى، حيث كانوا يرتلون القرآن طوال الليل ويعقدون حلقات الذكر ويتغنون بأسماء الله الحسنى على ضوء مصابيح الزيت الوامضة المتواجدة على طول الممرات ذات الأعمدة. وبعد صلاة الفجر كانت تعقد حلقات الذكر مرة أخرى في مسجد المغاربة في الركن الجنوبي الغربي من الحرم. وكان هناك خمسمائة جندي تحت إمرة باشا القدس وكانت أهم مهامهم الرئيسية مرافقة قافلة الحج الذاهبة من دمشق إلى مكة المكرمة كل عام.
وقد نصّبت الدولة العثمانية على القدس حكاما من أهلها مما زاد في الاهتمام بتعميرها وترميم ما تلف من مساجدها وخاصة المسجد الأقصى وقد تم تعيين أربعة مفتين.
خافظت القدس في العهد العثماني على مكانتها المرموقة وظلت مركز جذب للمدرسين والعلماء.
وخافظت القدس في العهد العثماني على مكانتها المرموقة وظلت مركز جذب للمتصوفين والعلماء. والجدير بالذكر أنه كان عدد العلماء في المدينة في القرن الثامن عشر أكبر من عددهم في القرن السابع عشر كما اقتنى بعض العلماء مكتبات خاصة مهمة.
القدس وفن العمارة الإسلامية
العمارة الإسلامية في القدس هي امتدادٌ للعمارة الإسلامية العثمانية، والعمارة العثمانية حلقة مهمة من حلقات العمارة الإسلامية عموما. نشأت العمارة الإسلامية -زمنيا- مع الهجرة النبوية وبناء المسجد النبوي في المدينة المنورة، وتمتد حتى العصر الراهن، كما أن للعمارة الإسلامية امتدادا جغرافيا واسعا يمتد من بلاد الملايو والبنغال وتايلاند والفيليبين شرقا إلى الأندلس غربا وهذا الامتداد قديم.
وفي العصر الراهن تنتشر المنشآت الإسلامية في كافة أنحاء المعمورة. ولكن وجود بعض المنشآت لا ينمّ عن هوية إسلامية ما لم ترافقها العادات والأذواق والثقافات الإسلامية. بدأ نشوء المدن الإسلامية ببناء المسجد وما يحيط به من مساكن ومنشآت؛ كالقلعة وسبيل الماء والحمام والقناطر والجسور والمدارس والبيمارستانات والخانات والأسواق.
أصبحت المدينة الإسلامية مميزة المعالم، واضحة الهوية بعد الهجرة النبوية، ثم تكاملت في عهود الخلفاء الراشدين، وازدهرت العمارة الإسلامية في عهد الأمويين حيث استفاد البناؤون المسلمون من التطور العمراني الرومي البيزنطي، وتجلى ذلك المزج بين الفنّ المعماري الإسلامي والفن المعماري البيزنطي في الجامع الأموي بمدينة دمشق، والجامع الأموي بمدينة حلب، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس.
أصبحت المدينة الإسلامية مميزة المعالم، واضحة الهوية بعد الهجرة النبوية، ثم تكاملت في عهود الخلفاء الراشدين، وازدهرت العمارة الإسلامية في عهد الأمويين.
ثم تطورت الفنون المعمارية الإسلامية في عهد العباسيين حيث انتشرت المدارس النظامية التي شيدها الوزير نظام الملك السلجوقي، ثم شُيدت المدرسة المستنصرية في بغداد في بداية القرن السابع الهجري، فبلغت بغداد آنذاك درجة رفيعة معبرة عن محتويات العاصمة الإسلامية التي استفادت من المؤثرات المعمارية البيزنطية والساسانية والسلجوقية والهندية.
وبعد ذلك انتقلت عاصمة الخلافة العباسية إلى القاهرة التي أصبحت رمز العاصمة الإسلامية، واستمرت على تلك الحال حتى فتحها السلطان سليم الأول ونقل عاصمة الخلافة الإسلامية إلى مدينة إسطنبول سنة (1517م). فتطور فن العمارة الإسلامية العثمانية حيث جمع بين فنون العمارة الإفريقية والآسيوية والأوروبية، وتطورت العمارة الإسلامية العثمانية في شكل متلازم مع تطور الدولة العثمانية واتسع نطاقها مع اتساع رقعة الدولة العثمانية.