اللواء دكتور شوقي صلاح؛ أستاذ القانون المشارك بأكاديمية الشرطة المصرية
القاهرة (زمان التركية) – لقد كانت البداية استفزازات إسرائيلية من خلال أعمال ممنهجة لتهجير بعض سكان حي الشيخ جراح بالقدس، بجانب مضايقات متعمدة من الشرطة الإسرائيلية لمنع الصلاة بالمسجد الأقصى خلال شهر رمضان.. ترتب على هذا إرهاصات انتفاضة لسكان الضفة الغربية، وتبعها استخدام حماس لصواريخ نالت من العمق الإسرائيلي بقوة غير مسبوقة، إلا أن موقف عرب إسرائيل هو الذي حقاً قد أربك حسابات نتنياهو، وظهر هذا جليا في انفعالاته ولغة جسده حال تعليقه على أحداث الضفة الغربية.. فموقف الضفة الغربية وعرب إسرائيل – الذين يمثلون ٢٠% من سكان إسرائيل – كان مفاجئاً لنتنياهو، فالمواجهات بين الإسرائيليين وسكان الضفة وعرب إسرائيل خاصة هددت بنوع من الحرب الداخلية ـــ لا أفضل نعتها بكونها حرب أهلية ـــ مما هدد الأمن القومي الإسرائيلي بقوة، خاصة مع اتساع نطاقها.. وها هي حركة فتح تعلن الإضراب الشامل بالضفة الغربية يوم الثلاثاء الموافق 18 مايو الجاري، مما يجعلنا نؤكد على أن أهم عوامل حل الأزمة الراهنة هو استمرار المواجهات في الضفة الغربية وغيرها من المدن الإسرائيلية، فصواريخ حماس وحدها لا تكفي لردع إسرائيل وإجبارها على إيقاف جرائمها ضد الإنسانية التي ترتكبها الآن.
* هذا ووفقاً لبيان الجيش الإسرائيلي فقد أطلقت حماس حتى اليوم السابع فقط من بداية المواجهات ٣١٠٠ صاروخا، وهذا يعني بيقين لا يقبل الشك : فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التام في منع حماس من حيازة هذا الكم الكبير من الصواريخ.. وإن أعلنت حماس أنها اعتمدت على جهودها الذاتية في تصنيع هذه الصواريخ، فإن هذا يذكرنا بما أعلنه الحوثيين من قبل بأنهم من قاموا بجهودهم الذاتية بتصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة التي استهدفوا بها السعودية.. !!! إن مثل هذه الادعاءات لا تجد صدى لدى الأجهزة الأمنية، فأجهزة الأمن الإسرائيلية مجتمعة ستتغير قياداتها غالباً بعد انتهاء هذه المواجهات وعودة الاستقرار.. .
* ولعل أهم المفاجآت المدوية في هذه الأحداث إنما يتمثل في عدم قدرة القبة الحديدية الإسرائيلية على منع مئات الصواريخ التي انطلقت من غزة؛ فوفقاً لبيان الجيش الإسرائيلي فإن القبة الحديدية أسقطت فقط 1210 صاروخاً من إجمالي عدد 3100 صاروخاً ـــ حتى اليوم السابع للمواجهات ــ وترتب على هذا لجوء سكان تل أبيب والعديد من المدن الإسرائيلية للمخابئ.. مما أدى لهدم نظرية الأمن الإسرائيلية، فالمواطن الإسرائيلي اليوم سيفكر بجدية تامة في العودة لبلده الأم.. هذا ومن جانب آخر فقد أكدت الأحداث الأخيرة أن نتنياهو يقامر بأمن الدولة اليهودية من أجل مصلحته الشخصية، فتأجيج الصراع الراهن يرى فيه مقومات بقائه بالسلطة.. وربما العكس هو ما سيصبح واقعا؛ فسيطاح به بسبب انهيار نظرية أمن دولته اليهودية، ستقولها له استطلاعات الرأي التي ستتم في القريب العاجل..، وهو أمر جلل، ومبرر كاف لعزله من المسرح السياسي الإسرائيلي.
* أما عن الموقف المصري من أحداث غزة فقد أوفد الرئيس السيسي مع بداية الأزمة وفداً أمنياً على مستوي رفيع لبحث سبل عدم التصعيد، ويبدو أن الجانب الإسرائيلي لم يتفهم ويستوعب جيداً أهمية وقيمة الجهود المصرية.. وبعدها أمر الرئيس بفتح معبر رفح وتكليف مرفق الإسعاف المصري بنقل الجرحى الفلسطينيين للعلاج في المستشفيات المصرية، كذلك وجّه بالتنسيق مع الأشقاء الفلسطينيين للوقوف على احتياجاتهم وتلبيتها فوراً.
* هذا ومن قبيل المفاجآت أيضاً تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتن تعليقاً على الأحداث بقوله : إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يهدد الأمن القومي الروسي.. وهذه حقيقة فمن المتوقع إذا اتسعت دائرة الصراع أن يتدخل الجيش السوري في المواجهات، وهنا سيكون الصدام الروسي الإسرائيلي على المحك.. وعلى جانب آخر فقد أكدت روسيا في مجلس الأمن الدولي أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول عربية أمر اتضح عدم نفعه بشأن إرساء الاستقرار الشامل في الشرق الأوسط، فتجاهل حل القضية الفلسطينية ما زال قائماً من قبل الدولة الإسرائيلية.. كما شدد ممثل روسيا في مجلس الأمن على ضرورة ” احترام وضع الأماكن المقدسة بشكل صارم، وضمان حقوق وحرية المتدينين في ممارسة طقوسهم الدينية في القدس الشرقية، وأكد على أهمية أخــذ هـذه المسألة بعين الاعتبار، وبقدر عـال من الحساسية “.
هذا وجدير بالذكر أن بوتن حال البدأ في توسيع دائرة الصراع فمن المؤكد أنه ــ وآخرين غيره ـــ سيصرح بأن : روسيا ترحب بعودة اليهود الروس لبلدهم الأم.. .
* كما أن التصريح الصيني الأخير على هذه الأحداث حمل قدراً من المفاجأة، فقد اعتدنا أن تلتزم الصين الصمت غالباً تجاه مثل تلك الأحداث، إلا أن وزير خارجيتها صرح بكلمات تعبر عن موقف صارم، حيث قال : يجب أن تتوقف أعمال إطلاق الصواريخ فورا.. وتعديل مسار السلام الفلسطيني الإسرائيلي من خلال حل الدولتين مع احترام وضع القدس.. تؤكد هذه الصيغة موقف الصين العادل من الصراع.. .
* توقيت اندلاع المواجهات الإسرائيلية الفلسطينية والتوسع المحتمل لنطاقها وأثره على الأمن القومي المصري يجعلها سلاحاً ذو حدين؛ فمن قائل أن الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة يمكن أن يترتب عليه نزوح سكان غزة في اتجاه رفح بشمال سيناء، مما يربك الحسابات المصرية خاصة في هذا التوقيت الحرج الذي تتأهب فيه مصر لحل أزمة سد النهضة بشكل أو آخر، وهناك رأي آخر نرجحه يذهب إلى أن بداية الحل تكمن في هذه وجود مثل هذه الأزمة؛ بمعنى أن إسرائيل وفقاً لمعطيات الموقف الراهن تأكد هشاشة موقفها الأمني.. ففي حالة اتساع نطاق الصراع وتورط مصر فيه ـــ وهو أمر قد تفرضه الأحداث ـــ فإن بداية زوال الدولة اليهودية سيكون واقعاً لا شك فيه، خاصة في ظل يقين أمريكي/ إسرائيلي بامتلاك مصر أسلحة ردع كافية لمواجهة إسرائيل.. ولأمانة الكلمة فإننا نعلم علم اليقين أيضاً أن إسرائيل لديها من أسلحة الردع ما يكفي.. ولكن ستُطبق في هذه المواجهات ـــ لا قدر الله ـــ نظرية “الكل خاسر”.
* وعلى جانب آخر فإن استمرار الصراع سيؤثر سلباً وبقوة على الأوضاع الأمنية الداخلية في أوروبا، لذا فلم يكن مستغربا تواصل ماكرون هاتفياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في اليوم الثالث لبدأ الصراع؛ حيث دعاه ماكرون لعدم توسيع نطاق المواجهات.. والمستغرب والمفاجئ حقيقة هو صدور قرار وزير الداخلية الفرنسي ــ وهناك موقف سياسي مشابه في ألمانيا ـــ بمنع أي تظاهرات في فرنسا تتعلق باحتجاجات ضد الاعتداءات الإسرائيلية على غزة.. والمبرر أن مثل هذه التظاهرات عام ٢٠١٤ أضرت كثيرا بالأوضاع الأمنية الداخلية في فرنسا، ونحذر بأنه في ظل هذه الأحداث فمن غير المستبعد النيل من مصالح وأهداف يهودية بأوروبا من خلال ما يعرف بهجمات الذئاب المنفردة.. ولقد بدأت بالفعل باكورة هذه الاعتداءات حيث تعرض حاخام يهودي لاعتداء من قبل شابين مجهولين بالقرب من كنس يهودي في شرق إنجلترا، نُقل على إثره إلى المستشفى، فقد أفادت إذاعة “بي بي سي” أن شابين قاما بعد ظهر يوم 16 مايو الجاري بمنع حركة سيارة يقودها الحاخام، وشرع الشابان اللذان تتراوح أعمارهما بين 15 إلى 18 عاما بالهتاف في وجهه بشعارات معادية للسامية، ثم هاجموا سيارته.
* أما عن الموقف الأمريكي فإن تبدى أنه مؤيد لإسرائيل.. حيث اعتبر البيت الأبيض أن الهجمات الإسرائيلية على غزة من قبيل أعمال الدفاع الشرعي.. ! كما وافقت الإدارة الأمريكية مؤخراً على تزويد إسرائيل بقنابل وذخيرة هجومية، إلا أن الملفت في الخبر الإشارة إلى أن قيمة هذه الأسلحة 735 مليون دولار..!!! .
ولعل السؤال الذي يُطرح في هذا السياق: إلى أي مدي سيكون هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل ؟؟؟
أرى ـــ وربما يكون هذا مفاجئ للقارئ ـــ أن جو بايدن يريد أن يقلم أظافر الدولة العبرية، خاصة في ظل وجود نتنياهو كرئيس للوزراء.. فلن يغفر له بايدن والحزب الديمقراطي موقفه من الانتخابات الأمريكية عام ٢٠١٦/ ٢٠١٧ (انتخابات هيلاري/ ترامب) وكيف تدخل اللوبي اليهودي بشكل غير مباشر في السباق الانتخابي لصالح الأخير، خاصة من خلال أدوات أهمها مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية التقليدية وما حملته من تسريبات شوهت إلى حد كبير بعض سلوكيات هيلاري.. وذلك لمنح الأفضلية في تلك الانتخابات الرئاسية لترامب، الذي وعدهم بنقل السفارة الأمريكية للقدس، وقد فعل ما وعد به وأكثر.. ولكي تقوم الدولة العبرية بالتغطية على تدخلهم السافر في تلك الانتخابات فقد روجوا زورا وبهتاناً بتدخل روسي مؤثر في تلك الانتخابات لمصلحة ترامب !!! لذا فربما يُــركز بايدن في هذا الصراع الأخير على أهمية تجميد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وأعمال التهويد الممنهجة للقدس، مع السعي لفرض حل الدولتين لنهو الصراع العربي الإسرائيلي بعيداً عن منهجية ترامب وصهره، فالحل وفقاً لـ جو يجب أن يكون مختلفاً.. وهنا لا تستغرب أيها القارئ الفطن أن يصبح بايدن نفسه هدفا من قبل الدولة اليهودية؛ حيث سيروجون ادعاءات بعدم كفاءته الذهنية والنفسية.. .
* وجدير بالذكر الإشارة لخطبة الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء في مصر؛ فمن منبر الجامع الأزهر وفي خطبة الجمعة – ١٤ مايو الجاري، في اليوم السابع للمواجهات – ندد هاشم بالاعتداءات الإسرائيلية وما واجهته الأمة الإسلامية من هجوم إسرائيلي على الدين وكتاب الله ومقدساته، وأكد بالقول ” على الحكام أن يكونوا صفا واحدا لاستخلاص القدس الشريف من أيدي شذاذ الأرض، وردع الذين ظلموا وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” وهي دعوة لا يستهان بتأثيراتها على الصعيدين المحلي والدولي.. .
* ولا يفوتنا في هذا الشأن أن نتساءل أين تنظيم داعش والقاعدة وبوكو حرام والشباب… وغيرهم من التنظيمات التي يدين عناصرها بالإسلام ويدعون أنهم مجاهدون !!! نخاطبهم بالآتي: أليس الدفاع عن الأقصى أول القبلتين وثالث الحرمين أولى بجهادهم المزعوم ؟؟؟ أم أنكم عملاء لقوى عظمى.. !!! هم بالفعل عملاء فهم يعلمون علم اليقين أنهم حال توجيه ضربات لمصالح إسرائيلية حول العالم بسبب الاعتداءات المشار إليها فربما تتغير صورتهم الذهنية أمام العالم، فيتعاطف معهم جمهور كبير.. وبتبني القضية فقد ينظر إليهم باعتبارهم حركات نضال يدافعون عن قضية عادلة.. بعد أن ظلوا ردحاً من الزمن ينظر العالم إليهم باعتبارهم تنظيمات إرهابية !!!
* وأخــيراً أخـتتم مقالي هـذا بالإشـارة إلى أهـمية استخدام سلاح ما يـطلق عـليـه “السوشيال ميديا، أو مواقع التواصل الاجتماعي” باعتبارها رأس حربة في الصراعات الراهنة.. فأسلحة حروب الجيل الرابع لا تقل شأناً عن الأسلحة التقليدية كالصواريخ والمفرقعات.. هي رسالة لمن يعنيه الأمر.