بقلم : ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – بينما يواصل زعيم المافيا سادات بكر هزّ تركيا بتصريحاته العنيفة تجاه أركان النظام الحاكم رغم أنه كان حتى وقت قريب أشد المدافعين عن حكومة حزب العدالة والتنمية، يلتزم الرئيس رجب طيب أردوغان الصمت المطبق، مما يزيد الموقف غموضا.
البيروفسيور أمين جورسيس الأكاديمي المعروف بموالاته لـ”المعسكر الأوراسي” ساق ادعاءً مثيرًا حول صراع القوى في البلاد وموقف الرئيس رجب طيب أردوغان.
أمين جورسيس عضو هيئة التدريس في جامعة “يدي تبه”، زعم أن “اثنين من الوزراء يسعيان، بالتواطؤ مع أحد المسئولين، للاستيلاء على السلطة في تركيا، متذرعين بأن الرئيس أردوغان يعاني من مرض يجعله غير قادر على إدارة البلاد”.
وأضاف جورسيس المنتمي إلى المحور الذي يرى مصالح تركيا في التحالف مع كل من روسيا والصين: “رئيس الجمهورية ليس في أمان.. هل تعلمون ماذا سيفعلون بأردوغان إذا ما توسع نطاق هذه العمليات ليشمله أيضًا؟ هناك وزيران ورئيس إحدى المؤسسات، لا أريد الكشف عن أسمائهم، يعملون على إصدار تقرير يقول بأن صحة أردوغان ليست على ما يرام ليضعوا يدهم على السلطة”.
كما ادعى جورسيس أن هذه المجموعة على صلة بالولايات المتحدة ويتلقون دعما منها، زاعمًا أن الحكومة التركية تتعرض لعميلة من خلال تصريحات زعيم المافيا سادات بكر، ثم أردف قائلا: “إذا ما تم ربط قضية مصادرة 5 أطنان من المخدرات بالسراي (أردوغان) فهذه الأسماء الثلاثة سوف تقول إن أردوغان ينبغي عليه الاستراحة، لذا فإننا سنتولى الأمر! عندها يجب على هذا الشعب أن ينتفض ويثور على هذه الخطوة. بحسب رأيي، فإن هذا الشعب سيرسل هذه الأسماء إلى السجن خلال 24 ساعة.. هذه المبادرة ليست قانونية ولن يسمح لها هذا الشعب”.
يذكر أن سادات أطلق تصريحات عن العلاقات المثيرة بين كل من السلطة والسياسة والمافيا والصراع الذي يدور حول مراكز القوى في البلاد من أجل الحصول على حصة الأسد من الأموال التي تأتي من تجارة النفط والغاز بل المخدرات والكوكايين.
واستمر سادات في الفيديو الرابع والخامس الذي نشرهما عبر صفحته الشخصية على موقع “يوتيوب” في الكشف عن “الأعمال القذرة” التي زعم أن وزير الداخلية الأسبق محمد أغار، الذي وصفه بـ”رئيس الدولة العميقة المزور”، تورط فيها، حيث زعم أنه استولى بشكل غير قانوني على الشركات العملاقة لرجل الأعمال التركي أذري الأصل الشهير مبارز مانسيموف قربان أوغلو الذي يعتبر الاسم الأول الذي يعمل في مجال البترول والغاز بين تركيا وأذربيجان، وذلك من خلال إلصاق تهمة “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” به، التهمة التي تحولت إلى سلاح يسلطه أصحاب القوة والنفوذ المتصارعين على بعضهم البعض من أجل تحقيق أغراض سياسية واقتصادية.
كما تعهد سادات بأنه سيزيح الستار عن “الأعمال القذرة” التي أقدم عليها مجموعة “البجع” الإعلامية التابعة لـ”عائلة أردوغان” أيضًا، مثل تجارة الأسلحة في مناطق الصراع، وعلى رأسها سوريا، متجنبا ذكر اسم أردوغان بشكل صريح، في رسالة تترك الباب مفتوحًا لمساومة محتملة معه من أجل العودة إلى ما يسمونه “قانون السكوت”.
ومع أن زعيم المافيا يركز في هجومه على كل من محمد أغار، المنتمي إلى التيار القومي اليميني، الذي يمثله في التحالف الحاكم حزبُ الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي، ومجموعة البجع، من دون ذكر اسم أردوغان، إلا أن المحللين يؤكدون أنه يعلم جيدا أن كل “الأعمال القذرة”، التي يذكرها، يتم ارتكابها تحت سمع وبصر أردوغان، بل بتوجيهات مباشرة منه، بل إن عائلة أردوغان صاحبة نصيب الأسد من التجارة القائمة على بيع البترول والغاز من جانب؛ والأسلحة والمخدرات من جانب آخر.
سادات هاجم محمد أغار قائلاً: “رجل الأعمال مبارز مانسيموف قربان أوغلو (الأذري الأصل) فتح لك بابه وحضنه، وأعاد لك اعتبارك القديم، ومنحك الأموال، بعد أن ساءت سمعتك وأصبحت شيئًا لا يذكر، لكنك اتجهت إلى الاتفاق مع بعض الجهات (مجموعة البجع)، وأودعته السجن بتهمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن. هذه التهمة كذبة لا أصل لها ويضحك عليها حتى المجانين. كل ذلك من أجل وضع السيطرة على أمواله وشركاته، مثل ميناء مارينا الواقع في منتجع بودروم، من أجل تأمين طريق وحركة مرور المخدرات والكوكايين”.
عملية السيطرة على ميناء مارينا الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات بدأت بتعيين نائب حزب العدالة والتنمية تولجا أغار رئيسًا لإحدى شعب شركة “ياليكافاك” للسياحة واستثمارات ميناء اليخوت في بودروم عام 2014، ليأتي بعد ذلك والده محمد أغار على رأس مجلس إدارة الشركة في 2020 عقب نصب مؤامرة ضد مالكها الحقيقي قربان أوغلو من خلال إرساله إلى السجن بتهمة الصلة بحركة فتح الله كولن، وفق تصريحات سادات بكر.
وحاول محمد أغار تبرير تعيينه رئيسًا لمجلس إدارة شركة مارينا المملوكة لرجل الأعمال أذري الأصل بالقول: “لو لم أكن أنا رئيس مجلس إدارة الشركة لاستولت عليها المافيا”، التصريح الذي أغضب أركان التحالف الحاكم لعدم تماسكه وكونه بعيدًا عن إقناع الرأي العام.
ويقول محللون إن سادات يعلم أن محمد أغار استولى على أموال قربان أوغلو المدرج ضمن قائمة أغنى 500 رجل عمال في العالم “باسم عائلة أردوغان”، الذي منحه الجنسية التركية أولا، ثم انقلب عليه لاختلاف وجهات النظر حول تقسيم الأموال المكتسبة من تجارة البترول والغاز والأسلحة والمخدرات، مشيرين إلى أنه يوجه اتهاماته إلى أردوغان بشكل غير مباشر، لكنه لا يفضحه رغبة في الوصول إلى الاتفاق معه لوقف العمليات الأمنية ضده وعودته إلى تركيا واسترداد مكانته السابقة القريبة من السلطة.
وادعى سادات أن محمد أغار هو من يشرف على الأعمال غير القانونية الدائرة في مثلث ولايات “إزمير آيدين وموغلا” الساحلية، وأنه من يدير أعمال ميناء إزمير، وأنه صاحب 5 أطنان من الكوكايين التي تم ضبطها بينما كانت تتوجه إلى مصنع كيماوي في مدينة إزمير لؤلؤة بحر إيجه، لافتًا في الوقت ذاته إلى أنه يقف وراء مقتل بائع مخدرات في بلدة عطاء شهير بمدينة إسطنبول بسبب أموال قيمتها 50 مليون يورو، بعد أن كشف في فيديوهاته السابقة أن ابنه تولجا أغار من قتل الطالبة القرغيزية الدارسة في تركيا يلدانا كهرمان وقدم الحادثة للرأي العام على أنه انتحار.
كما زعم سادات أن النظام الحاكم في تركيا يساوم شبكات اغتيال دولية من أجل التخلص منه وإسكاته، متحديًا وزير الداخلية سليمان صويلو، قائلا إنه ينتظره في إمارة دبي إن كان لديه شجاعة، موجهًا في آن واحد تهديدًا مبطنًا إلى أردوغان من خلال التعهد بأنه سيكشف في الفيديوهات القادمة ما يدور في سوريا ومن يتربون من تجارة الأسلحة في المنطقة.
زعيم المافيا انقلب على سليمان صويلو بعد أن عجز عن تحقيق وعوده له بحمايته وتأمين طريق عودته إلى تركيا وإيقاف القضايا المرفوعة ضده، ووصفه إياه بـ”زعيم تنظيم إجرامي”، خانعًا لممارسات الرأي العام والحزب الحاكم، ليتجه بعد ذلك إلى الكشف عن الامتيازات التي وفرها له صويلو في الفترة السابقة لحشره في زاوية ضيقة.
وقال إن سليمان صويلو من أبلغه بالعملية الأمنية المعدة في عام 2020 ضده ورجاله في تركيا ليتمكن من الهروب إلى الخارج عبر المطار رغم محاولات برات ألبيراق، صهر أردوغان، منع انطلاق طائرته في 2020، مشيرا إلى تناقضاته فيما يتعلق بوصفه “زعيم تنظيم إجرامي” رغم الامتيازات التي حصل عليها بفضله، منها تخصيص حرس رسمي له في رحلاته الخارجية.
أصل المسألة
محمد أغار يعتبر الممثل الرمزي لما يسمون في تركيا مخلفات “الدولة العميقة الأطلسية” التي أسسها الجناح الأمريكي والبريطاني في ستينات القرن الماضي لتكون سدًّا منيعًا أمام التوسع السوفيتي في تلك الفترة، ثم بدأ يتخلى عنها رسميًّا منذ سبعينات القرن المنصرم، ليحل محلها بعد السبعينات كيان جديد تحت اسم “الدولة العميقة الأوراسية” التي تعتقد بأن مصلحة تركيا في الانضمام إلى المحور الروسي الصيني بدلاً من الأطلسي.
بالتزامن مع ظهور “فضيحة سوسورلوك” في عام 1996 حيث انزاح الستار لأول مرة عن العلاقات القذرة بين الدولة والسياسة والمافيا للرأي العام، اندلع صراع كبير بين مخلفات الدولة العميقة الأطلسية القديمة ورجال الدولة العميقة الأوراسية الجديدة على حكم تركيا وثرواتها تحت الأرض وفوقها امتدت موجاته الارتدادية حتى يومنا هذا.
ومع أن مخلفات الأطلسيين القدماء تضاءلت قوتهم ونفوذهم جراء ظهور فضائحهم إلى العلن وصراعهم مع الأوراسيين منذ السبعينات، وكذلك حدث الأمر نفسه للفئة الأخرى بعد وصول أردوغان إلى الحكم في 2002 واتجاهه إلى تصفية الفئتين معًا من خلال تحقيقات تنظيم أرجنكون، بدعوى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، إلا أن الفئتين بدأتا العودة إلى الساحة مجددًا لما شعر أردوغان بالحاجة إليهما في مواجهة ملفات الفساد والرشوة التاريخية التي تورطت حكومته في 2013.
لقد قدم كل من الأطلسيين القدماء والأوراسين الجدد دعمًا كاملاً لنظام أردوغان رغبة في تقاسم نعم السلطة معه، والتخلص من “الديمقراطيين” الذين يرونهم أكبر عائق أمامهم، بشتى الذرائع، إلا أن أردوغان لا يثق في أي من الطرفين نظرًا للعداوة السابقة بينهم، ويرى أن الطرفين سوف ينقلبان عليه عند أول فرصة سانحة.
هذه الحقيقة تدفع أردوغان إلى التخلص من حلفائه واحدًا تلو آخر بعد قضاء حاجته منهم، فاتجه بعد الانقلاب المزعوم في عام 2016 إلى التخلص من الأوراسيين بصورة تدريجية، مع الإبقاء على الأطلسيين القدماء الذين يتمثلون في حزب الحركة القومية ورجال محمد أغار، بعد أن استغلهم (الأوراسيين) في تصفية الكيان الموازي المزعوم أو حركة الخدمة، وتقول مصادر مطلعة إنه يعتزم على “اجتثاث جذور الأوراسيين” بشكل كامل من الجيش في الاجتماع القادم لمجلس الشورى العسكري، وتدل الأمارات على أنه يخطط في الوقت ذاته للتخلص من الأطلسيين القدماء أيضًا في الفترة القادمة لينفرد في حكم البلاد أو يبحث عن حليف جديد لم تتلطخ سمعته بعدُ.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن معظم الموقعين على “بيان الأدميرالات” ضد أردوغان مؤخرًا من الطائفة الأوراسية (تنظيم أرجنكون) فإنه يمكن أن نتوقع أن زعيم المافيا سادات يتلقى دعما واستراتيجية منهم أو أنهم يحاولون استثمار النتائج التي ستسفر عنه تصريحاته لتقوية يدهم في المواجهة الساخنة التي ستقع بينهم وبين أردوغان في اجتماع مجلس الشورى العسكري القادم.
هذا الاحتمال ليس بعيدًا إذا علمنا أن سادات بكر خضع للمحاكمة وصدر بحقه قرار بالسجن مع الأوراسيين في إطار تحقيقات أرجنكون التي بدأت في عام 2007، وأن له صلة قديمة مع الجنرالات الأوراسيين.
وسط هذه المعادلات المعقدة تكتسب مزاعم البيروفسيور أمين جورسيس، الذي هو الآخر تعرض للسجن في إطار تحقيقات أرجنكون ذاتها، أهمية قصوى، حيث يزعم أن أردوغان يواجه خطر الانقلاب على حكومته على يد وزيرين ورئيس مؤسسة!
ومع أنه لا يكشف عن أسماء هؤلاء الثلاثة إلا أن مصادر مطلعة تؤكد أن المقصود هو رئيس المخابرات هاكان فيدان، و”الوزيرين” هما وزيرا الدفاع خلوصي أكار والداخلية سليمان صيولو بأغلب الاحتمال، أو وزير آخر لا يظهر كثيرا في الشاشات.
وعلى الرغم من أن المحلل التركي المعروف سعيد صفاء يرى أنه ليس هناك أي خطر انقلاب ضد أردوغان، بل إن الأوراسيين يحاولون إحداث شرخ وصدع بين أركان التحاف الحاكم، أي الأطلسيين القدماء بقيادة دولت بهجلي ومحمد أغار، قبيل قرارات الإقالة أو الفصل التي سيواجهها خصومهم الجنرالات والضباط الأوراسيون في مجلس الشورى العسكري، غير أن المحلل الآخر أحمد نسين لا يرى هذا الاحتمال بعيدًا، حيث يقول بأن تصريحات زعيم المافيا، إلى جانب حالة الانسداد السائدة في كل المجالات، حشرت أردوغان في زاوية ضيقة، وهو الهدف الأعلى، وأن خلوصي أكار يمكن أن يدعو إلى تشكيل مجلس تأسيسي لإدارة المرحلة الحالية، ومن ثم التوجه إلى انتخابات مبكرة لتحديد الحكومة الجديدة في البلاد.
مهما كان الأمر، فإن أردوغان الذي لم ينبس ببنت شفة حتى اللحظة تجاه تصريحات زعيم المافيا الصادمة، رغم أنه يكشف فضيحة أكبر مما كان في 1996، يبدو عازمًا على التمسك بالسلطة مهما كلف الأمر، وأنه سوف يحاول الحصول على ضمان “عدم محاكمة” على أقل تقدير إذا ما انتقلت السلطة إلى أيادٍ جديدة.
لكن هناك احتمال آخر، قد يكون هو الأقرب إلى الصواب، وهو أن أردوغان “المحترف” في نصب مؤامرات ضد خصومه، يوظف سادات وتصريحاته في تدمير سمعة محمد أغار، إلى جانب وزير الداخلية سليمان صويلو، بهدف التخلص من منافسين محتملين داخل حزبه العدالة والتنمية وإطلاق عملية ضد الأطلسيين القدماء أيضًا بعد طيّ صفحة الأوراسيين.
هذا المشهد الغامض في تركيا يتطلب من الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين يحاولون إعادة صياغة علاقاتهم مع النظام التركي، التريث والحيطة، حتى تتبلور ملامح الفترة القادمة في ظل وجود أردوغان أو غيابه بشكل أو بآخر.
–