بقلم/ مصطفى كويلو
والحقيقة أن هذه البحوث الميدانية التي أجريت في المجتمع الغربي لا تدل كلها -لأسباب عديدة- على العلاقة الإيجابية بين التدين والصحة النفسية، إلا أن قسما كبيرا منها يدل على أن بينهما علاقة إيجابية.
ويذكر (Koenig) الذي هو من أهم المتخصصين في هذا المجال أن (500) من أصل (700) من البحوث التي أجريت قبل عامِ (2000) في هذا المجال (71%) أظهرت أن هناك علاقة بين الدين والصحة النفسية. وحسب هذا التحليل:
أثبتت 60 من أصل 93 تجربة أن الذين يتحلون بمستوى عال من التدين هم أقل تعرضا للاكتئاب، والذين يتعرضون له يشفون في مدة أقل. وأثبتت 57 من أصل 68 تجربة أن هؤلاء أقل محاولة للانتحار. وأظهرت 35 من أصل 69 بحثا أن نسبة القلق لدى هؤلاء أقل. و 98 من أصل 120 يتعاطون المخدرات أقل من غيرهم. وأظهرت 94 من أصل 114 أنهم كانوا في وضع أفضل من الناحية النفسية والشعور بالأمل والتفاؤل. و 15 بحثا من أصل 16 يرون في حياتهم ما يضفي عليها المعنى ويحقق أهدافهم وطموحاتهم أكثر. وأثبت 35 من أصل 38 بحثا أنهم أسعد في حياتهم الزوجية وأحسن في تعاملهم مع أزواجهم. وأن 19 من أصل 20 منهم تلقّى دعما اجتماعيا أكثر.(1)
صحيح أنه لابد لمن يقرأ هذه المعطيات أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات ديانة المجتمع الغربي، إلا أننا نستطيع أن نقول في نهاية المطاف إن الأثر الإيجابي للدين على الصحة النفسية في الجملة أكثر من السلبية. ففضلا عن المعلومات النظرية، سنتناول في هذا المقال تأثير الدين على الصحة النفسية في ضوء البحوث التجريبية التي أجريت في هذا المجال في الغرب -وبالأخص في الولايات المتحدة-. وفي هذا السياق سنحاول البحث عن العلاقة بين العقائد الدينية والاكتئاب والانتحار والقلق، وبينها وبين السلامة النفسية.
التدين والاكتئاب
من المعلوم أن الاكتئاب يأتي على رأس قائمة الأمراض التي تهدد إنسان هذا العصر؛ فلقد ثبت أن 100 مليونا من الناس تأثروا به.(2) فهو من الأمراض الأكثر انتشارا وبخاصة بين المسنين. فنسبة المسنين الذين يعانون من هذا المرض وإن كان قليلاً مقارنة بمجموع الفئات العمرية، إلا أنه إذا قورن بالمسنين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات ترتفع النسبة إلى 35%. وبخاصة إن الأعراض الاكتئابية تظهر بنسبة أعلى لدى المسنين الذين لا يقيمون في مؤسسات معينة.(3)
فالاكتئاب إذا لم يعالج فسيؤدي إلى نتائج سلبية للمسنين وللمجتمع الذي يعيشون فيه. لأن معظم الأمراض الاكتئابية لا تشفى تماما، وقد يرجع المرض بعد فترة علاج طويلة، فقد ثبت أن ثلثي مرضى الاكتئاب الذين تلقوا العلاج قد أصيبوا بهذا المرض مرة أخرى في أقل من ثلاثة أشهر، وهذا الوضع يؤثر سلبا من الناحية الاقتصادية من جانب، ومن جانب آخر على نوعية الحياة، فيؤدي إلى ارتفاع معدل حالات الوفيات.
فما نوع العلاقة بين الدين والاكتئاب؟ وبتعبير آخر هل هناك تأثير إيجابي للدين على مرض الاكتئاب؟ فـ(Koenig) الذي له بحوث كثيرة في موضوع العلاقة بين الاكتئاب وبين الذين يذهبون إلى الكنيسة، توصّل في 59 من أصل 93 بحثا ميدانيا إلى أن نسبة عدم الاستقرار النفسي النابع من الاكتئاب لدى الذين يكثرون من المشاركة في طقوس العبادات الدينية أقل من غيرهم، وبالتالي فهؤلاء يقل لديهم ظهور أعراض هذا المرض.
ومن أوسع البحوث في هذا الميدان هو ما قام به (Larson) و(Koenig) سنة 2001، حيث قاما بالبحث عن علاقة التدين بالصحة من أبعاد مختلفة، فقاما بتقييم 850 عملا، ووصلا في النتيجة إلى أن هناك علاقة إيجابية بين التدين والرضى عن الحياة. وفي بحثهما عن العلاقة بين التدين وبين الاكتئاب والقلق، وصلا إلى أن ثلثي التجارب أظهرت أن الذين نسبة التدين لديهم عالية هم أقل تعرضا للاكتئاب والقلق.(4)
وأما نتائج الأعمال الفردية في هذا المجال فهي كالآتي: قام (Koenig) وزملاؤه ببحث أجروه على 111 مسنا مكتئبا، وبعد متابعة استغرقت حوالي سنة ظهر أنه بالإضافة إلى الفعاليات الدينية كالمواظبة على الكنيسة وقراءة الإنجيل كان للعقيدة أو الحياة الدينية الخالصتين تأثير مهم على مرضى الاكتئاب، وثبت أن نصف المرضى قد شفوا من دون تلقى أي علاج طبي.
فهؤلاء الباحثون مع أنهم لم يشرحوا آليات هذه النتيجة إلا أنهم ادعوا أن العقيدة الدينية قد أكسبت هؤلاء المرضى نظرة أفضل نحو الحياة وحققت لهم فهما وتقبلا للأوجاع والموت.
ومن جانب آخر، أبدوا أن العقيدة الدينية تُكسب المسنين “تصميما قويا للذات”، بمعنى أنها تساهم بشكل أفضل وأصح على تعرفهم وتقييمهم لجوانب ضعفهم وقوتهم والتعرف على هويتهم، وأن هذا يعتبر مساندة مهمة في فترة الشيخوخة التي تختل صحة الإنسان فيها. بالإضافة إلى أن الدين يؤمِّل الإنسان بأن الظروف مهما كانت وأن الإنسان مهما واجه من مشاكل، فإن الأمور ستتحسن. وذلك يؤدي إلى بعث روح الأمل وتحسين الحالة العاطفية.(5)
وفي البحث الذي قام به (Cummings) وزملاؤه على 568 مريضا توصلوا إلى أن هناك علاقة بين الدعم الاجتماعي والتدين وبين الأعراض الاكتئابية والأمراض الوظيفية، وأن نسبة التعرض للاكتئاب أقل في الذين يتلقون الدعم الاجتماعي لدرجة عالية والذين يشاركون في النشاطات الدينية، وأن لهذا الأمر تأثيرا إيجابيا على المعاقين بدنيا، وأن للتدين من التأثير ما ليس لغيره من العوامل مثل التعليم، والجنس (الذكورة والأنوثة)، والحالة الاجتماعية (الزواج وعدمه).(6)
وأظهرت البحوث التي أجريت في كندا على 37 ألف شخص حول مدى العلاقة بين زيادة نسبة التدين والاكتئاب، أنه كلما زاد التدين قل العثور على الاضطرابات النفسية وحالات الجنون والاكتئاب والفوبيا الاجتماعي، وأن للتدين موقعا مهما في تفسير الإنسان للحياة ومقاومة تبعات الحياة اليومية وتحمل هموم الحياة وشدائدها.(7)
فكيف يحد التدين من الاكتئاب أو يعدمه تماما؟
الباحثون يربطون هذا الأمر بالروح الجَماعي الذي يتكون بين أفراد الجماعة المتدينة نتيجة الدعاء والعبادة، وذلك يعود بالطاقة المعنوية على أفراد الجماعة؛ لأن أفراد الجماعة لا يتعاونون فيما بينهم معنويا فقط، بل يتساندون من الناحية المادية أيضا. ولذلك تقل لديهم الأفكار والمشاعر السلبية مثل الإحساس بالعزلة والضعف وعدم التفاؤل وغياب الأهداف، وخصوصا إذا اعتبرنا أن من أسباب الاكتئاب الشعورَ بالوحدة، والانعزال عن المجتمع والأفراد، وضعف الروابط أو انعدامها بالكلية.(8)
الانتحار والعقيدة الدينية
إن الأبحاث التي تجرى في عصرنا تصادق على ما توصل إليه “دوركايم” قبل قرابة قرن؛ إذ من المعلوم أن طرحه الأساسي كان نحو فكرة القول بأن التنظيمات الدينية عوامل مهمة في حماية منتسبيها من الانتحار. فهو لإثبات رأيه هذا قام بمقارنة بين الكاثوليك والبروتستانت، وتوصل إلى أن نسبة حوادث الانتحار في المجتمعات التي تعتنق مذهب الكاثوليك أقل منها في البروتستانتيين. والسبب الأهم لهذا -حسب رأي دوركايم- هو التنظيمات أو الترتيبات الاجتماعية التي تقيمها أصحاب الأديان أو المذاهب. فالذين يشتركون في الدين لا يتشاركون بالعقيدة فحسب بل يتعدى هذا إلى تقاسم القيم نفسها في القضايا الأخلاقية والأسرية والأعمال الاجتماعية. فهذا البناء المتجانس سيؤثر لا محالة على صحتهم النفسية إيجابيا.
إن محاولات الانتحار مع أنها تكون في كل الفئات العمرية إلا أنها تعد مشكلة أهم بالنسبة للمسنين؛ فالمتخصصون الأمريكيون يذكرون أن 10-130% من المسنين في مجتمعهم يعانون من مشاكل نفسية، ويقرر هؤلاء أنه إن لم يعالَج هؤلاء المسنون فستزيد نسبة حوادث الانتحار بينهم بنسبة 50%. إضافة إلى أن الانتحار في المجتمعات الغربية لا يشكل عنصرا مهددا للشيوخ فحسب بل يهدد الشباب أيضا. فنسبة التصرفات المتعلقة بالانتحار في أوساط الشباب تتراوح ما بين 4-60%.(9) وهذا الفرق الإحصائي الكبير بين البيانات نابع من تفاوت الآراء حول عد بعض التصرفات انتحارية أو لا، لأن هذا ينطبق على سلسلة من التصرفات، بدءا من نية الانتحار وانتهاء بتحقيقه بالفعل. وهذه تسمى في اصطلاح علم النفس “عوامل الخطر”. وتأتي على رأس هذه العوامل القابليةُ العائلية لهذا المرض، والاكتئابُ، وتعاطي المخدرات، والروح العدائية، وكون أحد أفراد العائلة قد انتحر من قبل… إلخ.
ومن عوامل الانتحار أيضا التكوين الجيني والتشوهات الخلقية، والروح العدائية، وسرعة الغضب، وضعف القابلية على حل المشاكل، واليأس. ويشكل الاكتئاب عامل خطر لدى النساء أكثر منه للرجال.(10)
وقد أظهرت معظم البحوث التي تناولت العلاقة بين التدين والانتحار أن هناك تناسبا عكسيا بينهما؛ إذ من المعلوم أن الإسلام يحرم الانتحار تحريما قطعيا كما أن الديانات الأخرى لا تجيزه.
البحوث الأخرى التي أجريت في هذا المجال أثبتت أن الدين من أكبر العوامل التي تساعد الإنسان على مقاومة تأثير شتى بواعث الضغوط النفسية التي تؤدي إلى الاكتئاب أيضا. وقد لوحظ أن الذين يقومون بواجبات عقائدهم الدينية تقل لديهم نسبة التعرض لـ”عوامل الخطر” التي تؤدي إلى الانتحار مثل إدمان المخدرات والاكتئاب والقنوط.
وأسفر بحث آخر عن أن نسبة حوادث الانتحار في الذين لا يذهبون إلى الكنيسة أكبر بأربعة أضعاف، بالمقارنة بمن يواظبون على ذلك بشكل منظم. وأثبتت دراسة أقيمت في 25 دولة أن هناك تناسبا عكسيا بين التدين والانتحار.(11)
فالدين -على عكس النظم الرأسمالية- يشجع على عيش أبسط وبذلك يحد من الانتحار. فعلى سبيل المثال: الديانات التي ترفع من شأن الفقر (مثل الديانات الشرقية، والنصرانية) أو التي تبجل الاعتدال في الحياة (كما هو في الإسلام) تحفظ الإنسان من الوقوع في مأزق الانهماك في كسب المنافع المادية. وهذا النوع من العقيدة يستطيع أن يساهم في الحفاظ على الصحة النفسية للأفراد.
التدين والقلق
أجريت 76 تجربة حول البحث عن العلاقة بين الدين والقلق (69 منها بحوث ميدانية و 7 سريرية)، فأسفرت 35 منها عن أن نسبة عناصر القلق والخوف لدى الذين يتمتعون بمستوى عال من التدين أقل مقارنة بالذين يقل لديهم التدين. وفي 17 منها لم يعثر على أي علاقة. وفي 7 منها عثر على علاقات معقدة ومتشابكة، وفي عشرة منها كانت نسبة القلق والخوف لدى الذين مستوى التدين لديهم عالية أكثرَ من قليلي التدين.
ومن أهم الجوانب في هذا البحث أنه ظهر في 6 من أصل 7 من البحوث السريرية التي تناولت مستوى العلاقة بين التدين والقلق أن للدين موقعا مهما في التخلص من القلق.(12)
الخوف من الموت
من المعلوم أن من أهم أنواع القلق لدى الإنسان الخوف من الموت؛ فالموت الذي هو خارج إرادة الإنسان يبعث في نفس كثير من الناس القلق والخوف. ومع ذلك فالخوف من الموت يختلف من شخص لآخر. وهناك عوامل عديدة تؤدي إلى زيادة الخوف من الموت أو قلته. ويأتي على رأس هذه العوامل مستوى التدين والإيمانُ بالآخرة والروحانيةُ والعمر. ففي دراسة أجريت على 132 امرأة و 64 رجلا تتراوح أعمارهم بين 18-80 توصل الباحثون إلى أن العامل الحاسم في الخوف من الموت هو النضج النفسي-الاجتماعي، ويليه في التأثير عامل العمر. وأظهرت هذه الدراسة أنه كلما ارتفع مستوى النضج الاجتماعي والعمر يقل معدل التعرض للقلق والخوف من الموت.(13)
وفي حين أن العقائد والتصرفات والمواقف الدينية تحول دون الوقوع في الأوضاع السلبية كالاكتئاب والانتحار والقلق، أو تعدمها تماما، تكون وسيلة لأن يكون الأفراد في وضع أفضل من حيث الصحة النفسية.
وإليك نماذج من بعض الدراسات التي أجريت في هذا المجال:
الدين والتفاؤل
هناك دراسة أجريت حول العلاقة بين العقائد والتطبيقات الدينية وبين الشعور بالأمل، فأسفرت 12 من أصل 15 عملا عن وجود علاقة إيجابية بدرجة مهمة بين الأمرين، بينما أسفر عملان عن عدم وجود أي علاقة بينهما. ولكن لم يسفر أي عمل عن أن المتدينين هم أقل تفاؤلا وأملا من غير المتدينين.(14)
ومن أهم إسهامات الدين في الصحة النفسية هو الشعور بالتفاؤل. فقد قام (Peterson) و(Seligman) و(Vaillant) بدراسة على 100 من خريجي جامعة “هارفارد” فتوصلوا في النتيجة إلى أن الذين كانوا متشائمين في مرحلة شبابهم، كانوا بعد (20-30) سنة أسوأ من الناحية الصحية من المتفائلين.
وكذلك ثبت أن هناك فرقا حوالي 7-7.5 في العمر بين ذوي الشخصية الإيجابية وذوي الشخصية السلبية. وبتعبير آخر: إن الذين يتحلون بشخصية ذات نظرة إيجابية هم أطول أعمارا من غيرهم لمدة 7-7.5 عاما. فالباحثون يشرحون هذا الأمر بقوة حب الحياة لدى هؤلاء الأفراد، وتركيزهم على الجوانب الإيجابية لمرحلة الشيخوخة.(15)
وقد قام (Plante) وزملاؤه ببحث على 242 طالبا جامعيا يقيمون في مناطق مختلفة، ويعتنقون مذاهب دينية مختلفة ، ويدرسون في مؤسسات تعليمية مختلفة، فوجدوا أن نسبة إضفاء المعنى على الحياة والتفاؤل ومساعدة الغير ورؤية الحياة على أنها صراع بالمعنى الإيجابي، أعلى في أوساط الطلبة الذين يتمتعون بعقيدة قوية، وبالمقابل فنسبة تعرض هؤلاء للاكتئاب والقلق أقل من غيرهم.(16)
الدين والسلامة النفسية
من المعلوم أنه بتقدم العمر يتوقف التحسن في الصحة البدنية والنفسية فيأخذ شكلا ثابتا أو يتجه نحو الأسوأ. ومع أن هذا الوضع أكثر عند الرجال، إلا أنه يختلف من شخص لآخر. فإنه في حين أن البعض يتأقلم بشكل جيد مع أعراض الشيخوخة كالأمراض المزمنة وحالات الضعف والاحتياج إلى مساعدة الغير، يتأثر آخرون سلبيا. فالباحثون يرون أنه في مثل هذه الحالات يكون للدين والحياة الروحانية دور كبير من حيث الصحة النفسية.
فقد أثبتت التجارب أن هناك علاقة بين العقائد والأعمال الدينية وبين سائر المؤشرات على كون الإنسان يلبي رغبته في الحياة ويحظى بالسعادة وبمعنويات عالية. فهناك 100 دراسة حول العلاقة بين هذه العناصر البناءة أسفرت 80% منها عن وجود علاقة إيجابية بينها فعلا، بينما أظهرت 10% منها احتمال وجود علاقة بين العقائد والأعمال الدينية وبين السلامة النفسية، و 9% منها أنه سيكون الدين وسيلة لتمتع الذين خضعوا للدراسة بسلامة نفسية كبيرة في المستقبل.(17)
وقام (Kirby) و(Coleman) و(Daley) بدراسة على 233 شخصا تتراوح أعمارهم بين 65-95، فوجدوا أن للشيخوخة وأعراضها السلبية تأثيرا سلبيا على السلامة النفسية بشكل عام وبدرجة مهمة، إلا أنهم وجدوا -في نفس الوقت- أن للتدين والعقائد الروحانية تأثيرا مباشرا -أو بالواسطة- على إزالة هذه السلبيات والحفاظ على السلامة النفسية. ووجدوا أن للدين والحياة الروحية تأثيرا قويا على تحكم الفرد في البيئة وعلى تطويره الذاتي وإنشائه علاقات إيجابية مع الآخرين، في حين أن تأثيره على التقبل الذاتي، وإضفاء المعنى على الحياة، وروح الاستقلالية أقل نسبيا. والحقيقة أن هذه النتيجة بمثابة تأييد للعديد من الدراسات التي أجريت في هذا المجال.(18)
وكذلك قام (J. S. Levin) و(K. S. Markides) و(L. A. Ray) بدراسة استغرقت 11 عاما، على ثلاث مجموعات من الشباب ومتوسطي العمر والمسنين عدد كل مجموعة 375، يتشكل مجموعهم من 1125 شخصا حول تأثير المواظبة على العبادة، فتوصلوا إلى نتيجتين مهمتين:
إن هناك ارتباطا مهما بين المشاركة في أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، والحد من الوقوع في الاكتئاب؛ ففي حين ظهر لدى متوسطي العمر والمسنين أن هناك علاقة بين المواظبة على أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، ظهر لدى الشباب أن للعبادة تأثيرا إيجابيا عليهم من حيث التأثير على الاكتئاب.
وعلى الرغم من أن الباحثين لم يعثروا على علاقة مباشرة بين المواظبة على أداء العبادات وبين الرضى عن الحياة، إلا أنهم يرون أن ذلك يكون في المدى البعيد بمثابة منبع للحفاظ على الاستقرار الروحي، وبتقدم العمر-على الخصوص-تشكل المشاركة في الأعمال الدينية أساسا مهما لإضفاء المعنى على حياتهم.
وهذا الوضع يكتسب أهمية كبرى فى حال تدهور الحالة الصحية في فترة التقاعد، أو في حال التخلي عن الأعمال والأدوار الرسمية المؤسسية. خصوصا وإن مشاركة المسنين في أداء العبادات تكون وسيلة لاستفادتهم من الخدمات الاجتماعية التي توفرها لهم المؤسسات الدينية من جهة، وتؤدي إلى الرضى الذاتي من جهة أخرى. وأيضا فالمواظبة على العبادات -من حيث إنها تقلل من الأسباب المزمنة والقوية التي تورث الضغوط النفسية- فهي تشكل منبعا مهما لشعور الأفراد بصحة نفسية.(19)
النتيجة
على الرغم من أن بعض الجهات لم تتقبل وجود الدين وحاولت تهميشه، إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك على مدى التاريخ، لأن الدين واقع طبيعي ومؤثر في حياة الإنسان ولا ينفك عنها؛ ففضلا عن دور الدين باعتباره منظما لحياة الفرد والمجتمع من خلال مبادئ وقوانين أخلاقية، يتضح جليا -بمرور الأيام وبالدراسات العلمية التي تُجرى- أن له جوانب مفيدة على الصحة البدنية والنفسية. فهناك دول عديدة -وعلى رأسها الدول التي وصلت إلى أوج النمو الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي- أخذت تطبق شتى الأساليب البديلة عن الطب الحديث. وللدين موقع مهم من بين تلك الأساليب؛ فالدين بما يضع من أسس اعتقادية وعملية، يقدم أسلوب حياة صحية، وعن طريق الدعم الاجتماعي يشجع الوحدة والسعادة الاجتماعية، ومن خلال الدعاء يحد من القلق والضغوط النفسية، وبفتحه للناس أبواب الأمل والرجاء يضفي على الحياة المعنى والهدف.
والحاصل أن معظم العلماء [الغربيين] -ناهيك عن إنكارهم لما للدين من الأثر الإيجابي على الصحة النفسية- يتناقشون لزوم اهتمام علماء الطب الحديث لهذه الظاهرة، ويرون أنه ينبغي للأطباء أن يأخذوا بنظر الاعتبار قيام مرضاهم بعباداتهم الدينية.
وأخيرا؛ لابد هنا من التنبيه إلى أمر هام وهو أنه إذا كانت الأديان التي ابتعدت عن روحها السماوي تؤثر كل هذا التأثير المهم على الأفراد في المجتمعات الغربية، فليس من المبالغة الحديث عن مدى التأثير الإيجابي للدين [الإسلامي] الذي هو خاتم الأديان والدين الأكمل، على منتسبيه ومعتنقيه.
ــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: أجير أشيوق.