بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – أشعلت عملية أمنية مثيرة ضد مافيا شهيرة في تركيا يقودها سادات بكر الكثير من التكهنات حول رد الفعل الانتقامي الذي هدد به أركان التحالف الحاكم في البلاد بعد أن كان مدافعًا حماسيًّا للرئيس رجب طيب أردوغان بحيث سبق أن معارضيه بالشنق وتعليق أجسادهم على أعمدة النور في الشوارع.
وهرب سادات بكر البالغ من العمر 50 عامًا من تركيا في يناير 2020 في ظل ظروف غامضة، وقالت تقارير إن الحكومة كانت تخطط لفتح قضيته مجددا عقب ظهور خلافات بين الطرفين.
رغم أنه مدافع ناريّ لمواقف وسياسات التحالف الحاكم بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية ورئيسيهما رجب طيب أردوغان ودولت بهجلي، إلا أنه نفذت الشهر الماضي عملية أمنية بخمس ولايات، في مقدمتها إسطنبول، أسفرت عن عن إلقاء القبض على 49 شخصًا من رجال زعيم المافيا المقيم حاليا في إمارة دبي، بينما تواصل الشرطة البحث عن المشتبه بهم الآخرين أيضًا.
وضمن الحملة الأمنية في 9 أبريل الماضي، داهمت فرق الأمن التابعة للقوات الخاصة فيلا سادات بكر في منطقة “بيكوز” بمدينة إسطنبول.
بالتزامن مع انقلاب الحكومة على مؤيدها القديم سادات بكر، هبّت وسائل الإعلام الداعمة للحكومة لنشر لقطات مصورة وتقارير صحفية عن المداهمات الأمنية والاعتقالات الجماعية تحت عناوين مثل: عملية “ضد تنظيم سادات بكر الإجرامي”، مسلطة الضوء على مدى خطورته والرفاهية التي يعيش فيها أعضاء تنظيمه، ناسيةً مواقفه الداعمة للسلطة.
سادات بكر قام بالرد على الاستهداف الذي تعرض له في تركيا من خلال مقطعي فيديو نشرهما عبر يوتيوب، كان بمثابة إعلان حرب على حلفائه القدامى الذين يشكلون أركان النظام الحاكم في تركيا، واضعًا الجميع في حيرة خلال محاولة فك شفرة هذه التصريحات.
ادعاءات التآمر
خلال بيان مصور نشر يوم الأحد (9 أبريل) مدته 41 دقيقة، اتهم بكر البالغ من العمر 49 عامًا وزير الداخلية الأسبق محمد آغار الموالي لحزب الحركة القومية بالتآمر عليه، معلنًا أنه مستعد للانتقام من سوء معاملة ابنته وزوجته خلال المداهمة الأمنية للفيلا اللتان تعيشان فيها.
قال بكر في تصريحاته: “محمد آغار، المعروف باسم رئيس دولتنا العميقة، هو الذي نسق هذه العملية غير القانونية ضدنا بالتواطؤ مع مجموعة البجع الإعلامية، لكي تشن دعاية سوداء لتصويرنا وكأننا عناصر تنظيم إجرامي”.
وذكر بكر أن الرئيس أردوغان كان قد قدم تأكيدات وضمانات بأنه لن يتم مداهمة منازل الناس بعد منتصف الليل، مضيفًا: “لكن 50 شرطيًا داهموا الفيلا الخاصة بي في إسطنبول بموجب توجيهات آغار للقيام بذلك، وارتكبوا عديدا من الانتهاكات تجاه أفراد أسرتي، في خطوة تعتبر تكذيبا فعليا لأردوغان، وذلك رغم أن تقارير صحفية كتبت، استنادا إلى مصادر حكومية، أن العديد من التغييرات ستحدث في تركيا في شهر أبريل وأنه ستوجه لي “دعوة” بالعودة إلى البلاد، ليتم إعادة الاعتبار لي”.
تناول بكر مجموعة من “الأعمال القذرة” التي زعم أن محمد أغار تورط فيها، منها أنه نصب مؤامرة كبيرة ضد رجل الأعمال التركي أذري الأصل الشهير مبارز مانسيموف قربان أوغلو، وتابع: “أعرف بالتفصيل كيف تآمرت على مالك مجموعة “بالمالي” قربان أوغلو من خلال اتهامه بالانتماء إلى منظمة فتح الله كولن، رغم أن الجميع يعلم جيدا أنه ليس له أدنى صلة بهذه المنظمة.. كل ذلك من أجل الاستيلاء على شركاته العملاقة التي تعمل بين تركيا وأذربيجان خاصة والذي يبلغ رأس مالها مليارات الدولارات”.
كما اتهم سادات بكر نائب حزب العدالة والتنمية الحاكم تولغا أغار، وهو نجل محمد أغار، باغتصاب وقتل الطالية يلدانا كهرمان قرغيزية الأصل في مدينة آلازيغ والتي كانت تمارس نشاطا إعلاميا، حيث قال: “يلدانا كهرمان تعرضت للاغتصاب على يد ابن رئيس دولتنا العميقة تولغا أغار، ومن ثم عثرت السلطات عليها متوفاة بعد أن رفعت شكوى في هذا الصدد”.
ومن غير المعروف أين يتواجد حاليا سدات بكر الذي غادر تركيا في 2020 ويعتقد أن محطته الأخيرة كانت إمارة دبي، بعد ما مر بالمغرب، وفق مصادر الصحفي الاستقصائي المعروف جوهري جوفين.
وحُكم على بكر، وهو زعيم مافيا تركي مُدان معروف بآرائه اليمينية المتطرفة ودعمه للحكومة التركية، بالسجن 14 عامًا في عام 2007 بتهم تشكيل وقيادة منظمة إجرامية والسرقة والتزوير، وفي عام 2013، حُكم على بكر بالسجن لمدة عشر سنوات كجزء من محاكمات تنظيم أرجنكون ومع ذلك تم إطلاق سراحه في وقت لاحق.
ويرى محللون أن بكر لديه المزيد من المعلومات التي يحوزها عن “الأعمال القذرة” التي ارتكبتها مجموعتا “أغار” و”البجع”، لكنه لا يكشف عن جميعها من أجل الضغط على الطرف الآخر لعقد “اتفاقية هدنة”، ويؤكد الكاتب جوهري جوفين أن أردوغان نفسه هو الهدف الأكبر له، وذلك لأنه يصف في تصريحاته محمد أغار بأنه “الوسيط” وأنه “الإصبع الذي ضغط على الزناد”، مشيرًا بذلك إلى وجود يد أكبر، وهو أردوغان (مجموعة البجع) وراء ما سماه المؤامرة ضده.
ومن الملاحظ أن سادات بكر يركز على الحديث عن “جرائم” محمد أغار باعتباره أضعف حلقة بينه وبين أردوغان، ويتجنب استهداف الأخير بكشل مباشر، ولم يذكر أي اسم أحد من عائلته سوى سرهاد ألبيراق، شقيق صهر أردوغان برات ألبيراق، ورئيس مجموعة توركواز الإعلامية التي غطّت بشكل تفصيلي العملية الأمنية التي نفذت ضد “تنظيم سادات بكر الإجرامي”.
نبذة تاريخية
في 3 نوفمبر 1996 وقعت فضيحة أصابت الجميع بالصدمة، وشكلت منعطفًا مفصليًّا في تاريخ البلاد الحديث وظاهرة الدولة العميقة، في ظل الحكومة الائتلافية بين حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان وحزب الطريق القويم بزعامة السيدة تانسو تشيلّر، وكان محمد أغار يشغل منصب وزير الداخلية في هذه الحكومة. إذ اصطدمت سيارة بشاحنة كبيرة قرب بلدة “سوسورلوك” بمحافظة باليكسير، وكان بالسيارة مجموعة من الأسلحة غير المرخصة. والمثير أنه كان على متن السيارة نائب مدير شرطة إسطنبول “حسين كوجاداغ”، والعضو البرلماني من صفوف حزب الطريق القويم وزعيم قبيلة كردية بارزة “سادات بوجاق”، وقائد تنظيم “الذئاب الرمادية” القومي التركي “عبد الله جاتلي”، الذي كان زعيمًا مافيويًّا و”قاتلاً مأجورًا” ومطلوبًا على قائمة الشرطة الدولية الإنتربول، وكلهم كانوا من القوميين الأتراك.
الحادث تسبب في مقتل كل من مدير أمن إسطنبول وزعيم المافيا وجونجا أوس التي كانت تحمل هوية مزورة، فيما أصيب البرلماني سادات بوجاق بجروح.
حادثة “سوسورلوك” أسفرت لأول مرة عن افتضاح العلاقات القذرة بين الدولة والسياسة والمافيا للرأي العام عيانًا بيانًا.
وفيما كان هناك إصرار على إطلاق تحقيق شامل حول الحادثة، سعت عناصر الدولة العميقة بكل قوتها إلى إسدال الستار على الفضيحة، بحيث كان أول من ذهب إلى مكان الحادث وحاول اختطاف جثة زعيم المافيا عبد الله جاتلي لإخفائها عن الرأي العام هو الجنرال “ولي كوجوك” الذي سُجن في إطار قضية تنظيم “أرجنكون” الإرهابي بعد أكثر من 10 سنوات من هذه الحادثة.
حكومة تلك الفترة قررت إقالة محمد أغار من منصب وزير الداخلية على خلفية ظهور فضيحة سوسورلوك ليتم إيداعه السجن لفترة معينة بتهمة الصلة مع كيانات مافيوية، لكنه خرج من السجن في عهد أردوغان (2013) في إطار اتفاقية سرية.
كان سادات بكر من ضمن الأسماء التي طالتها تحقيقات واعتقالات تنظيم أرجنكون التي انطلقت في 2007 بهدف تطهير الدولة من العناصر المافيوية، وقال في شهادته أمام المحكمة في عام 2011 إن محمد أغار وفريقه كانوا وراء جرائم قتل مجهولة الفاعل في التسعينيات عندما كان رئيسًا للشرطة الوطنية.
توظيف المافيا لصالح الحكومة
بالتزامن مع تحوله من الديمقراطيين والليبراليين إلى الكيانات غير القانونية بعد فضائح فساد حكومته في نهاية عام 2013، اتجه أردوغان إلى استغلال عصابات المافيا في السيطرة على تجارة المخدرات وبيع الأسلحة والمعدات العسكرية للجيوش الموازية التي أسسها في العالم الإسلامي، بل كل المجموعات المقاتلة في المنطقة، بغض النظر عن انتماءاتها الفكرية، وبصفة خاصة منطقة البلقان. وكان سادات بكر “القومي” من بين قادة المافيا الذين تعاون معهم أردوغان، وقد أرسل مئات السيارات الدفع الرباعي المكتوب عليها اسمه إلى الجيش السوري الحر في هذا الإطار، كما هدد المعارضين بشنقهم على أعمدة الإضاءة وسفك دمائهم مثل الأنهار، على حد تعبيره.
وقد زعم المحلل التركي المعروف سعيد صفاء أن سادات بكر يدير تجارة الأسلحة مع نظرائه الشيشان نيابة عن أردوغان، ويقوم بغسيل الأموال التي يكسبها بهذه الطريقة من خلال بعض أندية كرة القدم، مثل نادي “سيليك زينيكا” البوسني الذي اشتراه المدعو أولجون آيدين، ابنه المعنوي وأحد رجاله.
وكان سادات بكر دعا قبيل انتخابات 2019 المحلية أنصار أردوغان إلى التزوّد بالأسلحة، وهدّد مؤيدي تحالف الأحزاب المعارضة بالقتل والاغتيال. ولما ذاق حزب العدالة والتنمية مرارة الخسارة لأول مرة عقب هذه الانتخابات المحلية، لجأ أردوغان إلى كل واردة وشاردة لإلغاء الانتخابات في جميع المدن ويعيدها أو يلغيها في إسطنبول فقط على أقل تقدير، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية، حيث يصف هذه المدينة بـ”عشقي”، وقال عنها قبل الانتخابات: “من يفوز في إسطنبول يفوز بحكم تركيا”، وبالتالي من يخسرها يخسر تركيا أيضًا. ولم تقتصر جهود أردوغان لإعادة انتخابات إسطنبول على ممارسة الضغط على مجلس الانتخابات الأعلى، بل وصل الأمر إلى حدّ التهديد بإشعال الشوراع وإحداث الفوضى، إذ أعلن سادات بكر أنه مستعد لأداء أي مهمة قد تكلفه ما سماه “الدولة”.
أصل الخلاف
والآن بات الرأي العام في تركيا يبحث عن الأسباب الحقيقية التي دفعت إلى سلّ السيوف بين ركائز النظام، يرى بعض المراقبين، منهم سعيد صفاء، أن سادات بكر تجاوز حدود مهمته في تجارة الأسلحة في مناطق النزاع والصراع، وعلى رأسها سوريا، وبدأ يتحرك بشكل مستقل، لتحقيق أكبر قدر من الربح؛ الأمر الذي دفع ركائز النظام الأخرى (فريق أغار وأردوغان) إلى الانقلاب عليه وإفساد النسق الجديد الذي أسسه بمعزل عنهم في تجارة الأسلحة بالمنطقة.
الكاتب الصحفي المعروف أمر الله أوسلو اعتبر أن الصراع يدور بين وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو ومجموعة البجع، زاعمًا أن سادات بكر ينفذ أجندة صيولو الذي يتعرض لعميلة منظمة على يد مجموعة البجع منذ فترة لمنع زيادة نفوذه في البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية ووصوله إلى قوة تمكنّه من منافسة أردوغان في رئاسة الحزب والحكومة في آن واحد.
وكانت وسائل إعلام تركية نشرت بكثافة صورة صويلو مع الموظف السابق في حزب العدالة والتنمية كورشات أيفات أوغلو بعد اعتقاله بتهمة تعاطي مخدرات، الأمر آذى سمعة وزير الداخلية كثيرا.
ونظرًا لأن زعيم المفايا سادات بكر الذي يختفي حاليا في خارج تركيا هدد حلفائه القدماء بالاستمرار في الكشف عن الأعمال القذرة لفريق أغار وأردوغان، فإن الأيام القادمة قد تشهد تطورات تغير مسار الأحداث في تركيا وقد تلعب دورا مهما في مستقبل النظام الحاكم في تركيا.
وقد ظهرت بوادر ذلك سريعًا عندما ضبطت عناصر الشرطة في بنما أمس 616 طردًا من الكوكايين قبل أن تصل من ميناء بويرتو بوليفار الإكوادوري إلى ميناء مرسين جنوب تركيا الذي يشرف على إدارته رئيس نادي سامسون سيبور التركي روبرت يوكسيل يلدريم الذي جمعته عديد من اللقطات والصور مع أردوغان.
عبوات الكوكايين كانت مخبئة في حاوية موز أُرسلت من إلى ميناء مرسين جنوب تركيا
ومن المثير أن الميناء يشرف عليه رئيس نادي سماسون سيبور التركي روبرت يوكسيل يلدريم (الذي يظهر في الصورة مع أردوغان) pic.twitter.com/Lv1O8YkpOv
— نبض تركيا NabdTurkey (@nabdturkey) May 8, 2021
–