(زمان التركية)- فقه المجتمع في أمتنا لم ينل من الحظ تنظيرا وبسطا ما ناله فقه الأفراد، فتراثنا الفقهي يشهد بأن الثاني كان الاهتمام به ضافيا، بخلاف الأول، مما جعل البعد التنظيمي للمشاركة في هموم المجتمع وتحمّل مسؤولياته يكون ضامرا، الأمر الذي ترك هذه الممارسة لأريحية الأفراد دون أن يضبطها ضابط من تنظيم وتقنين يجعلها أكثر فاعلية واستمرارية.. وهذا أمر وراءه أسباب متعددة، منها:
1- أن المجتمع المسلم الأول كان بسيطا في تركيبته؛ فقد كان الناس قبل الإسلام ينتظمون في أسرهم وعشائرهم وقبائلهم، وهي مؤسسات تقوم على أعراف قديمة مستقرة ومألوفة تُرْضَع مع حليب الأمهات وتُتَنَفّس مع الهواء، فلا يستوي الفرد إلا وقد تعلمها مع المشي والكلام، وانضبط لها كما ينضبط لقوانين الجاذبية والنمو، بل أكثر من هذا، فالذين انفلتوا من هذا النظام معلومون معروفون باسم “الصعاليك”، ولا يزال بعض أعيانهم معروفين عند الأمة إلى الآن.
من هنا، فإن الضبط المباشر الذي جاء في التشريع الإسلامي لهذه المؤسسات كان كافيا، ولم يتم بالتالي تلقي الإشارات الكثيرة الموجودة في الكتاب والسنة، والتي تؤصل لبلورة فقه المجتمع والدولة من مختلف التوجيهات، كالأمر بالشورى، والحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكافل، والانتصار من بعد الإصابة بالبغي…إلخ. وهي توجيهات تحتاج إلى هيئات وقوانين من أجل تنـزيلها على واقع الناس، والحفاظ عليها وتنميتها، مما يحتاج إلى جهد مستأنف لاستدراك النقص الذي فيه.
2- الاعتماد على البعد العقيدي في النفوس أزهد المسلمين في ضبط المؤسسات وبلورة فقه خاص لها يُستنبط من الأحكام التي تؤطرها، فاحتلت الثقة مكانا أكبر مما ينبغي. فلما ضعف الوازع العقيدي وكثرت الكوارث طفت الأزمة على السطح وبحدة كبيرة، مما جعل المسلمين يقبلون في العصر الحديث كثيرا من القوانين والتنظيمات الدخيلة عليهم، لسد الفراغ الذي تركه قصورهم وقعودهم عن الاجتهاد، لبلورة فقه المجتمع ومختلف مؤسساته.
3- شهد عهد الخلافة الراشدة تطورا في المجتمع الإسلامي وفي فقهها، فكتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في القضاء -مثلا- شاهد على ذلك، إذ فيه توجيهات إلى الفهم والاستشارة، كما فيه دعم وتأصيل للمؤسسة القضائية،(1) التي كانت مؤسسة مجتمعية محضة مستقلة عن الدولة قائمة بذاتها، وماتِحَة مباشرة من المرجعية العليا للأمة (أقصد القرآن والسنة) مضافا إلى ذلك اجتهاد القضاة وفهمهم، وهو ما ألحَّ عليه عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى رضي الله عنه سالف الذكر.
وقد شهد عصر عمر رضي الله عنه أيضا اقتباس نظام الدواوين، كما شهد ضبط مؤسسة الجند وتنظيمها، فقد بدأ عمر فعلا ببلورة فقه خاص بها، من ذلك على سبيل المثال: جعله المدة القصوى التي يبقاها الجندي بعيدا عن أهله هي أربعة أشهر، بناء على سؤال سأله ابنتَه أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها عن صبر المرأة على زوجها، حيث أجابته بأن المرأة لا تصبر على زوجها أكثر من أربعة أشهر.
الانحراف التاريخي
غير أن انحرافا كبيرا في هذا المسار يسجل بعد تقلص ظلِّ الرشد عن الدولة الإسلامية، فقد طغى على الانشغال بالمجتمع وقضاياه انشغالُ المسؤولين بإخماد الثورات، والتمكينِ للدولة القائمة على أنقاض دولة، وتتبع بقايا الدولة المسقطة وجذورها، وبناء الهيبة، وجمع الخراج، والسقوط في وِهاد مشاريع وهمية منحرفة، ثم انشغال جهاز الدولة من الداخل بالمؤامرات، والمؤامرات المضادة، كمؤامرة البرامكة، والبويهيين، والانشغال بفتنة قيام الدولة الفاطمية في مصر… وحين تمزقت الدولة العباسية وترهلت الدولة الفاطمية، جاء دور المماليك، وهلم جرا.
الشأن نفسه في المغرب، حيث كان الأمويون في الأندلس، إلى حين عهد المؤامرات، فالمؤامرات المضادة بين ملوك الطوائف، ثم انطفاء الجذوة، والدول المتعاقبة في المغرب الأقصى وإفريقيا بشكل عام.
وباختصار، لم يكن همُّ الاشتغال بالمجتمع هو الهم المركزي، وإنما الاشتغال بالدولة أو لنقلْ: “بالذات”، وأُسْلمَ المجتمع إلى نفسه، بخلاف الشأن حين كان الرشد معانقا للدولة، فقد كان الاهتمام “بمجال التشريع، وتأصيل الشريعة الإسلامية، وتنظيم الشورى، وإعلان قراراتها، والتخطيط، والإحصاء، والرقابة، ووضع السياسات التي تراقب معاملات المجتمع وتوجه المناشط الاقتصادية فيه”(2).
ليس هذا يعني أن الدولة الإسلامية كان تاريخها مجردا من الوضاءة والإشراق -وإن ركزنا ههنا على جانب له صلة بموضوعنا- وإلا فلا يخفى عطاء المسلمين خلال التاريخ، وهذا أمر لا ينكر، وكان يمكن أن يكون أحسن لولا ما ذكرنا وأمور أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
العزوف عن النهج الشوري
وخارج فترات الرشد كانت جهود الفقهاء منصبة على تطوير فقه الأفراد وتفصيله، لأن الدولة انتهجت بعد الفترة الراشدة نهجا غير شوريّ، محيّدا لعموم المسلمين عن تحمل مسؤولياتهم في النصح والتسيير… وإن التسيير لعبء ينوء بالعصبة أولي القوة… فبرز أنموذج للمواطن الصالح، بعيد كل البُعد عن الأنموذج القرآني، فأَصلَحُ الناسِ أنآهم عن تحمل المسؤوليات وأبعدُهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبكلمة مختصرة: صار أصلح الناس أكثرَهم انحسارا وإقبالا على خويصّة نفسه، وهذا تجانف صارخ عن قيم الإسلام الذي جعَل هذه الأمةَ ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران:110) لأنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله… ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم).
فلما ساد هذا الوضع، بعد مقاومة أطيح فيها برؤوسٍ خيِّرَةٍ من المؤمنين، كالحسين بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وسعيد بن جبير رحمه الله، وغيرهم.. وأُسلم المسؤولون لأنفسهم ولغرائزهم وأهوائهم… أسلموا لسكرة السلطة، فتسلطوا.
ونشأ إذن فقه المجتمع ومؤسساته بعيدا عن المجتمع، وانطلاقا من الرأي الواحد، والفهم الواحد، فُقه الدولة، وفُهم الدولة، فلم يُبْرَد ويشحذ بالمناظرات والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد (فقه العبادات بشكل عام)؛ إذ لم يكن همُّ التنظير للحياة في المجتمع، والممارساتِ -بشتى أنواعها- التي تجري فيه، وهمُّ استنباط الأحكام الخاصة بذلك همَّ المجتمع وفقهائِه، بل بقي همَّ الدولة وفقهائها فقط.
وهذا سبب هام من أسباب فقر هذا الفقه وضموره، وقلة مصداقية ما هو موجود منه، مما ينبغي أن يتجاوز ويستدرك، وإنني لأميل إلى الاعتقاد بأن هذا التجاوز وهذا الاستدراك لا يمكن إطلاقا أن يتم خارج المعترك السياسي، وخارج إطار تحمل أماناتٍ ومسؤوليات حقيقية -قلَّت أم كثُرت- من مسؤوليات الأمة، من قِبَل مؤمنين بهذا الدين، معتقدين بصلاحية شريعته لتأطير حياة الناس في كل مصر وعصر، حتى تكون المواكبة لمستأنفات الأحوال بكل الكسب الفقهي اللازم موازنة وتسديدا وتقريبا وتغليبا. وإلا فلن تعدو الاجتهادات أن تكون نظرية عُلوية مطلقة، متجانفة عن الإشكالات الحقيقية الموجودة في المجتمعات المشخصة والعينية التي تحتاج إلى اجتهادات خاصة بها… وهي اجتهادات لا غرو سوف تكون أيضا عقب سَيْرٍ في الأرض، ونظر في تجارب الآخرين واستفادة منها.
والله الـمستـعان.