بقلم/ مصطفى عبده
أبدع بديع السموات والأرض الكون من خلال ﴿كُنْ﴾، فكانت الكائنات ما بين الكاف النون، وكونها تكون هو استجابة (طاعة ووجود وتكوين)، وهذه هي أول تسبيحة، وهي مسبحة بوجودها، وكل شيء يسبح لله سبحانه وتعالى. وما من شيء إلا وهو مسبح، وهي تسبيحات تسخيرية لا لها ولا عليها، وهي مسيرة في تسبيحاتها تسير على قانون وناموس كوني لنظام متسق بديع مبرمج. يقول تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَل َكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44)، ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾(النور:41).
أما الإنسان فقد خلقه الله بيديه وسوّاه وعدله، ونفخ فيه من روحه، وحمّله الأمانة وأودعه عقلا إبداعيا ونفسا متطلعة لها مراتب سباعية، وروحا سامية متعالية للاتصال بالملأ الأعلى. وجعله مستخلفا في الأرض ليعمرها بالإبداع والعمل الصالح لوراثه الجنة. وأسجد له الملائكة، وعلّمه الأسماء كلها، وأعطاه صفات من صفات الربوبية، وجعله كائنا جماليا مبدعا، وكائنا حرا مريدا، وكائنا خاشعا نقيا ومبدعا تقيا، وكائنا عقلانيا، وكائنا أخلاقيا، وكائنا عابدا.. ووضع له منهجا يسير عليه ليتسق مع الكون المسيّر المتسق من خلال اتباع في العبادات، وإبداع في المعاملات من خلال إبداعاته الرائعة.
كان الفن وكان معه الإنسان يعلو ويهبط معه وبه. وقد تلازم الفن مع الإنسان وتلازم الدين مع الإنسان منذ أن كان. ولتلازمهما مع الإنسان كان لابد لهما أن يتلازما وقد تلازما، حيث أخذ الفن مواضيعه من الدين، وأخذ الدين قوته بالفن على حسب قوة الاعتقاد وضعفه في النفس البشرية.
وعند انحراف العقائد كانت الفنون هي الأدوات التي استخدمت في تأكيد هذه الانحرافات، فكان استخداما “بشعا” للفن لمحاولة الكهنة السيطرة على الشعوب وإخضاعها. فكانت الفنون من تشكيل وعمارة وموسيقى ودراما ورقص وألوان وأشكال هي الوسائلَ المستخدمة في الانحرافات العقائدية، وما تبعها من انحرافات سلوكية حتى تسهل السيطرة الكهنوتية على الشعوب المغلوبة على أمرها. وهكذا كان الفن قبل الإسلام إحدى الأدوات القبيحة والبشعة للسيطرة على الشعوب وإلهائها وكذلك في العصور الوسطى. ويستخدم الآن في العصور الحديثة لإلهاء الشعوب عن مهامها الإنسانية باستخدامه كوسيلة انحرافية للفسوق والفجور والخلاعة.
ولكن الفن على عكس ذلك، فالفن وسيلة لإظهار الجمال والمحبة والترقي والسمو، وتأكيد إنسانية الإنسان لتعمير الأرض، وإنشاء إنسان أخلاقي متجمل يعيش في المستويات العليا الرفيعة. الفن أداة لمقاومة التدني والهبوط والسقوط إلى القاع، واستيقاظ النفوس لترى الجمال وتعمل بمقتضاه من خلال الحق والخير والجمال والاستعلاء والاعتدال، والعمل في “الوسط” المتعالي من بين طرفي الإفراط والتفريط.
الفن أصدق أنباء التاريخ؛ فكم من حقائق تاريخية انزوت في ظلمات التاريخ، وكان الفن هو الكاشف عن تلك الحقائق الخفية، لأن الفن هو تعبير الشعوب عن نفسها بنفسها لنفسها.
والفنان إنسان مختار اصطفاه الله ليقوم بمهام إبداعية “تعبدية وحياتية” للإبداع الفني والفكري والعلمي والعملي، ليعمر الأرض بالإبداع والعمل الصالح، ليتناسق مع الكون المتسق ومع نفسه ومع الكائنات، ليرى الجمال ويعمل بمقتضى الجمال بوعي أخلاقي متجمل.
يسير الإنسان عبر معابر إبداعية ثلاث
أ-باعتقاد خاشع يصل حد التقوى الجلالية (رهبة جلالية) من خلال عقل يستقرئ الحق، أي بحقٍ يُعقل من خلال عقل ظاهري درّاك، وذلك لأن الإنسان كائن خاشع يعتقد، ذو عقل منطقي بارع، منطقي في تفكيره بمسلك خاشع، لحق معبود في “اتزان الحق”.
بـ-واختيار حر ملتزم بحدود الحرية حرية إنسانية، يصل حد الاستقامة الخلقية (رهبة أخلاقية) من خلال إرادة تستقطب الخير، أي بخيرٍ يُراد من خلال عقل باطن واع يحوي الوعي كله. وذلك لأن الإنسان كائن أخلاقي ذو إرادة خيرة، يمتلك عقلا واعيا بسلوك خيّر لعبادة خيّرة بـ”انسجام الخير”.
جـ-وإبداع رائع يصل حد الروعة الجمالية (رهبة جمالية) من خلال حس يستقطر ويستشعر بالجمال، أي بجمالٍ يحس به من خلال عقل إبداعي رائع. وذلك لأن الإنسان كائن جمالي ذو إبداعات رائعة بعلاقات جمالية للإيقاعات الجمالية بـ”إيقاع جمالي”.
وهكذا يكون الإنسان المبدع هو الكائن “البارع، الواعي، الرائع” من خلال عقل إبداعي وأخلاق إبداعية وحرية مسؤولة. فالعمل الفني لا يتأتى إلا من خلال هذه الدروب السامية، ليحقق الإنسان إنسانيته واستخلافه في الأرض. فيكون الإبداع الجمالي هو عملا فنيا يقوم به فنان “بارع-رائع-واعٍ” سام متعال يعمل لاستيقاظ النفوس لترى الجمال، ويعمل في نفس الوقت لإيقاظ الإحساس بالقيم الإنسانية العليا في الحق والخير والجمال. ويستقيم الإنسان (الفنان والمتلقي) فتستقيم الحياة باستقامته، فيكون إنسانا مبدعا تقيا وخاشعا نقيا وحرا وفيا. وهو كائن أيضا بعد انتقاله من الحياة الدنيوية، في انتقاله من الحياة الأزلية إلى الحياة الأبدية عبر مراحل سباعية متتالية ومتوالية ومتعالية:
- وجد الإنسان مع الإبداع الإلهي من خلال قول الحق ﴿كُنْ﴾. فكانت الكائنات وكان الإنسان مع الكائنات في عالم الذرات. وعندما قال المبدع : ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، قَالُوا: بَلَى. وهو الوجود الأول الذري.
- ثم كان الوجود الثاني بالخلق الإلهي، حيث خُلق من الأرض وليس في الأرض، لقوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾(طه:55)، وليس “فيها خلقناكم”، خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه ونفخ فيه من روحه وعلّمه فكان الخلق بعد الإبداع.
- أما الوجود الثالث فكان في الجنة (آدم وحواء عليهما السلام، وإبليس)، وكان المصير النـزول إلى الأرض للوجود الرابع على الأرض.
- والوجود الرابع للإنسان في الحياة الدنيوية لحياة مؤقتة من الميلاد وحتى الممات لحياة اختيارية اختبارية. وهي أهم مراحل الحياة الإنسانية، وفيها يحدد الإنسان مصيره الأبدي، من خلال اتباعه للمنهج الإلهي حتى يتسق مع الكون المتسق المسير، ليسير الإنسان مع الزمان وتغيراته والمكان وتجدده. والإنسان في مكان داخل زمان في الحياة الوسطية للمرحلة الرابعة المتألقة من الإيقاع السباعي للوجود الإنساني.
- أما الوجود الخامس يكون بعد الموت والانتقال من الحياة الدنيوية المؤقتة إلى الحياة البرزخية الموقوتة، حيث يبقى فيها بعد الموت وحتى البعث والنشور ليوم الحساب.
- والوجود السادس هو البعث والنشور ويوم توزن الأعمال، حيث يبقى الإنسان في ذلك اليوم بمقدار أفعاله وأعماله التي عملها في الحياة الدنيوية ليذهب إلى حياته الأبدية، إما جنة وإما نار خالدا مخلدا فيهما.
- أما الوجود السابع والأخير فهو الوجود الأبدي؛ إما في جنة خالدا مخلدا فيها لجنان لها سبعة درجات، أو وجودا بالتلاشي المستمر في النار، بالحرق المستمر في نيران لها سبعة دركات حيث لا يموت فيها ولا يحيى. هذه هي الحياة السباعية لذلك الإنسان، وهي الحياة الرابعة من الحياة السباعية، وهي أهم المراحل الحياتية، وفيها تتحدد حياته الأخروية بما فعله في دنياه من خير أو شر.
الدائرة الجمالية
الكون يدور على ساعة منضبطة على أجزاء من الثانية بل الثالثة وهي الومضات الذرية. فكل الكائنات من الذرة إلى المجرة، لها دوراتها وحركاتها المحسوبة. وكل الأنفس لها أنفاسها المعدودة لأماكن معدودة. فالكون كله منضبط على نبضات محسوبة ومعدودة داخل الدائرة الكربونية على مسافات الومضات الكونية من خلال سرعاتها الضوئية. وهي سابحة ومسبحة بإيقاعاتها الخاصة، مستمدة أنشودتها من الأنشودة الكونية العلوية الخالدة. كل الكائنات مسيرة ومسخرة في مسيرتها من خلال الناموس الكوني، ولا تستطيع أن تخرج عن مسيرتها. للكون حركتان:
حركة كونية مسيرة، وحركة ذاتية داخل التسيير العام. وللإنسان بعض من هذا التسيير الاختياري، لأنه الكائن الوحيد الذي أُعطي الاختيار. ولكنه محكوم داخل تسيير محكم، بحركات متوافقة معها ومتسقة بها ومنضبطة لها.
للأجرام السماوية مجراتها وأفلاكها المسيرة، وللذرات دوراتها المحسوبة، فإن اختلت موازينها انفجرت. فما بالنا ونحن بين الذرة والمجرة!.. حتى إن عود الثقاب الذي يشتعل له حساباته الكربونية والكونية، فكل نبات ينبت أو يضمحل، له حساباته العددية في اتساق مع كل نفس تتنفس في تبادل حسابي بين كل نتح وتنفس. كل هذه العمليات الحسابية لها موازينها الذرية، حتى الذرة لها جزيئات أصغر منها. وهي عبارة عن أكوان مصغرة، يجري في الذرة ما يجري في المجرة اتساق مع الكون الفسيح المتسع الذي يتسارع في اتساعاته.
للإيقاعات الكونية ثلاث إيقاعات متناسقة
أ-الإيقاع الزماني وعطاءاته المتغيرة المتتالية (سيال ديمومي).
بـ-الإيقاع المكاني وعبقرياته المتجددة المتوالية (تفجر متنام).
جـ-الإيقاع الإنساني وإبداعاته المتبدلة المتعالية (إبداع متناغم).
والإنسان في مكان داخل زمان “أنسزمكان”، فهو يتحرك بالتتالي والتوالي والتعالي، لتتوافق إبداعاته مع عطاء الزمان المتغير وعبقرية المكان المتجدد، ليتسق مع نفسه ومع الكائنات ومع الكون المتسق. فلابد من اتساق لهذه الإيقاعات الثلاثية مع القراءات الثلاث: قراءة الوحي، وقراءة الكون، وقراءة النفس من خلال إيقاعات سباعية.
القراءات الثلاث
1-قراءة “الوحي”، (كتاب الله المقروء: القرآن) ووحداته القرائية والبنائية (الحرف). وقد تنـزل القرآن على سبعة أحرف. وللقرآن عطائاته المتجددة من خلال معارف الوحي. وهو عالم الروح وعالم المعرفة، وقد تنـزلت آية بالقراءة في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾(العلق:1-3).
2-قراءة “الكون”، (كتاب الله المنظور: الوجود) ووحداته القرائية والبنائية في الذرة. وللذرة نواة تدور حولها إلكترونات لها دورات سباعية، أي عالم المادة والوجود يدرك من خلال مدارك العقل وتطالعاته، يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(فصلت:53).
3-قراءة “النفس”، (كتاب الله المحفوظ) من خلال وحداته البنائية، أي الخلية (D.N.A). وتدور حول نواتها سبعة بحور سيتوبلازمية. وهو عالم الفكر والمعرفة من خلال مراتب النفس السباعية، يقول تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾(الإسراء:31). ومن خلال هذه القراءات الثلاثية، يتسق الإنسان مع الإيقاعات الكونية الثلاثة (الزمان، المكان، الإنسان) ليتسق مع المعابر الثلاثة الإبداعية في (الاعتقاد، الاختيار، الإبداع)، لاعتقاد خاشع واختيار حر ملتزم وإبداع رائع.
الثلاثيات والقيم الثلاثة (الحق والخير والجمال)
1-قراءة “الوحي” (كتاب الله المقروء)، من خلال الإيقاع القرآني المتسق مع الإيقاعات الزمانية وعطاءاتها المتغيرة المتتالية، بعقل يستقرئ “الحق” لاعتقاد خاشع من خلال تقوى جلالية.
2-قراءة “الكون” (كتاب الله المنظور)، من خلال إيقاع الوجود المتناسق مع الإيقاعات المكانية وعبقرياتها المتجددة المتوالية، بإرادة تستقطب “الخير” لحرية ملتزمة من خلال استقامة خلقية.
3-قراءة “النفس” (كتاب الله المحفوظ)، من خلال الإيقاعات النفسية المتناغمة مع الإيقاع الإنساني وإبداعاته المتبدلة المتعالية، بحس يستقطر “الجمال” لإبداع رائع من خلال روعة إبداعية.
وهكذا نصل إلى أن الكون متسق وجميل متناغم، وقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان كائنا جماليا ليبدع ويجمل العالم، ويتصاعد ويسمو ويتعالى لبناء حضارة جمالية متناغمة. وهي مهمة الإنسان في الأرض ليعمر الأرض بالإبداع الرائع.
إذن، مهمة الفن خطيرة في تربية الإنسان القيمي، التربية الجمالية السامية والصاعدة للمستويات العليا الرفيعة، بعيدا عن الرزايا والدنايا. والضابط الجمالي هو الضابط بين الحتمية الكونية والحرية الإنسانية. فالكون يسير على نظام منضبط بنظام حتمي، أما الإنسان فقانونه الحرية وهو مجبر على الحرية، ولكنه داخل الجبر الكوني فهو في مكان داخل زمان. والقانون الذي يربط بين الجبرية والحرية هو القانون الجمالي. أما القيود الدينية أو بالأحرى الحدود الدينية، فهي أوسع من الدائرة القانونية، لأنها تقيد وتحد الإنسان في الظاهر والباطن للذين يتدينون بذلك الدين. ولهذا فإن الدائرة الأخلاقية أوسع من الدائرة الدينية، لأنها تشمل الإنسانية كلها. فهو قانون فطري في الفطرة الإنسانية.
أما الدائرة الجمالية فهي أوسع هذه الدوائر، لأنها تشمل الكائنات كلها. وقد خلقت هذه الكائنات على نظام جمالي. فالكون كله مبني على الجمال، والجمال أصل في البناء الكوني. إذن، الضابط الجمالي هو القانون الداخلي والباطني الذي يربط بين الكائنات وبين الحتمية والكونية والحرية الإنسانية. وتلي هذه الدوائر الأربعة ثلاثة دوائر لتكون سبعة دوائر:
- القانون الطبيعي، وهو شامل للكائنات في جمالياتها واختلالاتها (الناموس الكوني).
- القانون الإلهي، هو الميزان الاعتدالي وهو عدل لا ظلم فيه.
- الرحمة الإلهية، حيث وسعت رحمته كل شيء إذ تسبق رحمته عدله.
وهكذا فإن للجمال دوره الفعال في الضبط الكوني المتسق، ليتسق الإنسان جماليا فيتسق مع نفسه ومع الكائنات، ليحقق حق الاستخلاف في الأرض، وليعمر الأرض بالإبداع الرائع ويعمل بمقتضى الجمال لتحقيق إنسانية الإنسان.