بقلم/ حبيبة أبو زيد
أعظم تحول في تاريخ البشر
إن التغيير والإصلاح الذي أحدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له نظير في التاريخ. لقد استطاع في ظرف وجيز أن يقتلع جذور أفكار وعادات كانت راسخة بقوة وأن يبني حضارة عظيمة وأن يضع مدنية محل بداوة وجاهلية. وسبب ذلك أنه بوحي من رب العباد الذي يحيط علمه بكل شيء سلك منهجا دقيقا في التربية والتعليم، فاستطاع تربية جيل من أصحابه حملوا أمانة صيانة حضارة الإسلام من بعده. وإن هذا التغيير لأحوال العالم الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان محل دراسة وبحث عميق عند أهل الفكر والثقافة والمتخصصين في بناء الحضارات وتاريخ الأمم عبر العصور من جميع الجنسيات ومن جميع الأديان والمذاهب. والجميع يشهد أنه أعظم تحول يحصل في تاريخ البشر. وما ذلك إلا لأن العلم والمعرفة كان لهما المقام الأعلى والمنـزلة الأسمى.
إن من أهم الدعائم التي أقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحضارة أن العلم سلعة غالية وأن المعرفة قيمة سامية. ولهذا وضع صلى الله عليه وسلم قواعد لتحصيل العلم، وأسس مناهج للبحث عن المعرفة والانتفاع بها، وبيّن مزالق أهل العلم وطلاب المعرفة للحذر منها واتقائها، حتى تسير الأمة كلها على هدي العلم النافع وفي ظلال المعرفة الصحيحة. والذي يهمنا هنا أن نبين أن هناك مفهوما عجيبا للعلم رسخه الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن الكريم وسنته القولية والعملية، عليه قامت الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية.
المعتبر من العلوم
لقد نص علماء الإسلام منذ القديم على أن إطلاق العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية ينصرف أولا إلى علم الوحي والشريعة، ومن أدلتهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” (رواه البخاري)، وغيره من الأحاديث الكثيرة في الحث على تعلم القرآن الكريم وتعليمه ومدارسته، وحفظ السنة النبوية وتبليغها ومدارستها. قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: “ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين (أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع) فقد حرم الخير. وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم”(1).
فالعلم الشرعي أفضل العلوم وهو جدير بالطلب والحرص على تحصيله؛ لأنه به يعرف الله سبحانه وتعالى ويعبد، وبهذا العلم يعرف ما أحل الله وما حرم وما يرضيه وما يسخطه. وبهذا العلم يعرف المصير إليه والنهاية من هذه الحياة، وأن قسما من المكلفين ينتهون إلى الجنة والسعادة، وقسما آخر ينتهون إلى دار الهوان والشقاء. ولما كانت هذه فائدة علم الشريعة، كان هذا العلم أشرف العلوم وأسماها لأنه الطريق إلى السعادة الحقة في الدار الآخرة، وهو السبيل إلى الفوز بنعيم الجنة الذي هو الغاية المرجوة والهدف العظيم المنشود.
وإن سعادة الآخرة أساسها ومنطلقها معرفة الله تعالى والإيمان به وطاعته، وهذا إنما يؤخذ من علم الشريعة، ولهذا ينصرف “العلم” عند إطلاقه إليه. يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28) “أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر”(2). فبين أن العبرة في العلم هو معرفة الله التي بها تحصل الخشية. فمعيار العلم الوصول إلى معرفة الله، والمعتبر هو الاهتداء إلى طاعة الله والإيمان به. فكل علم لا يوصل إلى هذا فليس علما على الحقيقة وإن أدخله أصحابه في العلم.
علوم الكون
وإن إطلاق العلم على علم الشريعة لا ينفي صفة العلم عن معارف الدنيا وعلوم الحياة التي يهتدي إليها الإنسان عبر الزمان والمكان، والتي تسمى اليوم “علوم الكون” أو “العلوم التجريبية”؛ لأنها تؤخذ من التجربة المطردة والخبرة المتكررة. وسبب ذلك أن علوم الكون من علم الله تعالى الذي يفتح منه على عباده، فيعرفون خصائص الكون وصفات الإنسان وأحوال عالم الأحياء وقانونَ ذلك كله. فعلوم الكون التي يهتدي إليها البشر إنما هي في الحقيقة وصف للموجود واكتشاف لحقيقة الكون المخلوق وصفاته ونظام عمله وقانون سيره. إنها تستمد من علم الله لأنها تعرّف بخلق الله وبديع صنعه.
وإن علوم الكون ليست معتبرة إلا إذا كانت عونا على معرفة الله، وطريقا إلى مرضاته وحسن عبادته، والسعي في الأرض بالخير والإحسان وليس بالشر والإفساد. ولا يمكن لهذه العلوم أن تكون كذلك إلا إذا سارت تحت ظلال الشريعة، فتكون بذلك علوم الشريعة هي الحَكم لعلوم الكون والمرجع في كل المعارف، فهي بالنسبة للعلوم بمنـزلة الروح للجسد، ولهذا ينصرف “العلم” إليها عند الإطلاق في القرآن الكريم والسنة النبوية، وليس معنى ذلك نفي صفة “العلم” عن علوم الكون والحياة.
التأليف بين العلوم الدينية والتجريبية
وإذا كان الأصل أن إطلاق العلم في القرآن والسنة النبوية ينصرف إلى علم الشريعة، فإنما ذلك لأن علم الشريعة هو روح باقي العلوم التي تهتم بالكون والحياة والإنسان، فلا عبرة بعلم إلا إذا سار في ظلال الشريعة واهتدى بأنوار الوحي. ولهذا فلا مانع من إطلاق صفة العلم على كل معارف البشر التي تبحث في الكون والإنسان إذا سارت في مقاصدها وضوابطها على هدي علوم الشريعة القائمة على القرآن الكريم والسنة النبوية. ومما يؤيد هذا ويدل عليه أن في القرآن الكريم إثباتَ صفة العلم لعلوم الدنيا، مع الإشارة إلى ضرورة اهتدائها بعلوم الشريعة.
يقول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾(الروم:7) فأثبت لهم العلم، وإنما ذمهم لوقوفهم عند علم الدنيا في غفلة عن علم الآخرة، أي إنهم لم يهتدوا في علمهم بالدنيا بعلوم الشريعة، فلو اهتدوا في ذلك بعلوم الشريعة لاستحقوا المدح لا الذم. فعلومهم معتبرة إذا سارت تحت ظلال الشريعة لأنها بذلك تُعرّفهم بالله وتقربهم إليه وتحصل بها المنفعة في الدنيا ويتحقق بها الصلاح.
وهذا ما ذكره أهل التفسير في هذه الآية، يقول ابن كثير: أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة. قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس: يعني: الكفارُ يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال(3). فلولا جهلهم بأمر الدين وعدم اعتدادهم بما يرشد إليه من علوم الشريعة، لنفعهم علم الدنيا واستحقوا عليه الأجر، لأنه بعلوم الشريعة يعرفون حقوق الله، ويحصل من علوم الدنيا الانتفاع الصحيح.
ومثل هذا أيضا في قوله عز وجل: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾(النجم:29-30)، فأثبت لهم العلم بالدنيا، وذمَّهم على الإعراض عن ذكر الله تعالى، أي إنهم لم ينتفعوا بعلم الدنيا بسبب غفلتهم عن علوم الشريعة التي هي طريق إلى معرفة الله وذكره. فقوله هنا: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ إشارة إلى وجوب الارتقاء من هذه الدرجة إلى درجة الجمع بين علوم الدنيا وعلوم الشريعة والتأليف بينها، فتلك الغاية المرجوة والمنـزلة السامية المحمودة.
فلا يفهم من هذا نفي صفة العلم عن علوم الكون والحياة، وإنما نفي منفعتها إذا لم تهتد بعلوم الشريعة، لأنها إنما تكون علوما نافعة تحت ظلال الشريعة، فإذا كانت كذلك كانت علوما نافعة حقا. وهذا المعنى نجده أيضا فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبغض كل جعظريّ جواظ سخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة”(4). فصفة العلم ثابتة لعلوم الدنيا في قوله هنا “عالم بأمر الدنيا”، وإنما أبغض الله هذا الصنف من الناس لجهله بأمر الآخرة. ولو اهتدى بعلوم الشريعة لكان عالما بأمر الآخرة. فلا ينتفع على الحقيقة بعلوم الدنيا إلا بعلوم الشريعة. وهذا المعنى نفسه هو الذي استنبطه ابن حبان البستي فترجم لهذا الحديث بقوله: “ذكر الزجر عن العلم بأمر الدنيا مع الانهماك فيها، والجهل بأمر الآخرة ومجانبة أسبابها”. وواضح من كلامه هذا أن الزجر إنما يقع على وجه خاص في علوم الدنيا، وهو حال الانصراف إليها والعناية بها في غفلة عن علم الشريعة. أما إذا لم تحصل الغفلة فذلك خير الدنيا والآخرة، فيتم الاعتداد في هذه الحالة بعلوم الدنيا، فيشرف قدرها وتعلو منـزلة صاحبها، لأن اقترانها بعلوم الشريعة واهتداءها بالوحي، يجعلها طريقا إلى معرفة الله تعالى من خلال معرفة خلقه، ويوجه فوائدها نحو تحقيق مقاصد الشريعة، والتي تجتمع في جلب المصالح واتقاء المفاسد.
ومما يدل على هذا المعنى أيضا أنّ تدبر الكون والتفكر في خلق الله مأمور به في القرآن الكريم، لأنه طريق سالك إلى معرفة الله تعالى ومعرفة كماله وجلاله وجماله. ومعلوم أن علوم الكون لا تخرج في حقيقتها وجوهرها عن وصف الكون وبيان نظام الحياة الذي فطره الله تعالى عليها، لأنها تبحث في الكون الموجود، وتشتغل في العالم المنظور، وتعرّف بصفات المادة وخصائصها وعملها وقانون سيرها. ثم إنه لا يمكن الاختلاف في أن علوم الكون منضبطة، لها قانون ومنطق تبنى فيه النتائج على المقدمات.
فعلوم الكون إذن مأمور بها على هذه الصفة وعلى هذا الوجه، وهو أن تكون طريقا إلى معرفة الله تعالى، ثم عونا على تيسير المعاش. فإذا كانت كذلك فهي علوم حقا تثبت لها صفة العلم شرعا.
ومن شواهد هذا أيضا ما جاء في الحديث عن عائشة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقِّحون فقال: “لو لم تفعلوا لصلُح”. قال: فخرج شيصا، فمرّ بهم فقال: “ما لنخلكم؟” قالوا: قلتَ كذا وَكذا، قال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” (رواه مسلم). فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا أثبت صفة العلم لأمور الدنيا التي تخضع للتجربة والخبرة. فقوله هنا: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” يدل على أن الدنيا موضع للعلم ومجال له.
غاية العلم
يثبت من هذا كله أن معارف الدنيا، والتي تسمى اليوم “العلوم التجريبية”، لها صفة العلم إذا اقترنت بعلوم الشريعة، ويصدق عليها معنى العلم بالاصطلاح الشرعي في القرآن الكريم والسنة النبوية. وإنما وقع التأكيد في القرآن الكريم والسنة النبوية على علوم الشريعة لأن بها ينتظم أمر جميع أمور الحياة الدنيا ومنها “العلوم التجريبية”، فيكون الأمر بالعناية بعلوم الشريعة أمرا بالعناية بالعلوم التجريبية على الوجه الصحيح الذي ينتظم به أمرها ويحصل الانتفاع بها في الدين والدنيا.
والعناية بعلوم الدنيا على هذا الوجه مضمن في الأمر بالعناية بعلوم الشريعة. وعن هذا المعنى عبر أبو الحسن الماوردي بقوله: “اعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، في قواعدها وإن تفرعت. وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح. فأما القاعدة الأولى وهي الدين المتبع، فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهرا للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلواتها، نصوحا لها في ملماتها. وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها ولا يصلح الناس إلا عليها، فكان الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها. ولذلك لم يخل الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء”(5).
فقد وقع التركيز في السنة النبوية على علوم القرآن والسنة النبوية لأنهما أصل سائر العلوم وأساسها، وعليهما تقوم وبهما تسير سويا على صراط مستقيم.
“إن الانطلاق من علم القرآن والسنة يهدف إلى بناء الإنسان إيمانيا وخلقيا وسلوكيا، وفي طي ذلك التسليم والطاعة لقانون العلم التجريبي الحق حين ظهوره. وبغير هذا البناء لا تعمر الحياة ولا يستطيع العلم التجريبي أن يقودها. مما يعطي لهذا التأكيد على علم القرآن والسنة الصدارة في العلوم والأحقية في المعرفة، ليكون العلم التجريبي والسلوك الإنساني والنظام العمراني في البشرية في توافق واطراد، بعيدا عن الانفصام الذي يؤدي إلى عواقب بالغة السوء والأثر”(6).
وعلى ما تقدم فإن مفهوم “العلم” يشمل في المقام الأول علوم الشريعة القائمة على القرآن والسنة، ثم يشمل بالتبع والتضمن كل علوم الكون والحياة التي تهتدي بأنوار علوم القرآن والسنة. وموضوع “العلم” ومجاله هو نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أولا وهو أشرف المجالات ورأسها، ثم العالم المخلوق بجميع أنواعه وأجزائه. وعلى هذا المعنى سار علماء الإسلام عبر العصور، فيثبتون لعلوم الكون صفة “العلم” في توافق وانسجام مع علوم الشريعة، فنجد عندهم علم الطب، وعلم الفلك، وعلم الحساب وغيرها.
وخلاصة كل هذا أن الغاية الكبرى للعلم هو التعريف بالله تعالى خالق الكون ومدبر الكائنات. فكل ما يدل على الله ويعرف به فهو علم صحيح مطلوب. ولهذا فإن علوم الوحي هي رأس العلم وروحه، لأنها ترشد إلى الله وتبين طرق معرفته، ثم تأتي بعدها علوم الكون لأنها تعرف بالكون المخلوق، فتكون بذلك طريقا سالكا إلى الله تعالى، لأنها تفصح عن قدرة الله وتكشف عن أفعاله وتصرفاته في الكون.