بقلم: صالح القاضي
القاهرة (زمان التركية) – منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أتابع عن كثب كتابات الاستاذ المفكر فتح الله كولن ورغم أن هذا الشيخ الذي يتميز بسعة الأفق، وبأفكار أقبل على الاستفادة منها علماء الغرب قبل الشرق تظل معرفتنا به في العالم العربي معرفة ليست قليلة فقط ولكنها معرفة مشوهة لأسباب مختلفة، ولذلك ففي هذه المقالة سأتناول أخر ما ترجم إلى اللغة العربية من أعمال الاستاذ كولن، الكتاب صدر حديثا من دار الانبعاث للنشر بالقاهرة .
خلال هذا المقال سأتوقف عن النقاط التي لفتت نظري بصورة شخصية وشعرت أننا كمجتمعات عربية نحتاج إلى النظر إليها بعناية ومحاولة فهمها وتحليلها والكتابة عنها وإدخالها لمنظومة الوعي العربي
الدعاء الفعلي وتتبع الأسباب
من أهم الأفكار التي توقفت عندها مليا في هذا الكتاب فكرة ، فالاستاذ حينما يتحدث عن كيفية خلاص الإنسان من مشاكله وما حل به من مصائب لا يقدم طرحا انهزامي تحت حجة القدر ولا يوافق على التوجه السلبي بعدم اتخاذ أي إجراء للخلاص من المشكلات التي تقابل الإنسان سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الاجتماعي ، فالأفكار الانهزامية ليست ضمن منظومة الكاتب الفكرية ويعبر عن ذلك بصورة واضحة في قوله ” إلى جانب التوجه إلى الحق تعالى في حال الاضطرار والحاجة هذه، أن يعطي الإرادة حقها، ويراعي الأسباب أيضا ، لأن فعل هذا استدعاء مهم لمشيئة الحق تعالى وإرادته وقدرته المحيطة بكل شيء”
وكأنه يقول نعم الحياة مليئة بالاختبارات ولكن الله سبحانه خلق الإرادة فإن استخدمناها بصورة صحيحة وراعينا الأسباب التي خلقها الله سبحانه سننجح في تجاوز كل ما يقابلنا في الحياة من مصائب.
تجديد الذات
رغم إن مسألة تجديد الذات ليست فكرة جديدة إلا أن المفهوم الذي يطرحه الاستاذ كولن مختلف فهو يضعه في سياقه الاجتماعي، فتجديد الذات لدي الأستاذ كولن على المستوى الفكري والوجداني لا يعني التحول إلى النقد والانقضاض على أفكار الأخرين كما نراه في البرامج الحوارية، لكن الأستاذ يقدم منهجا أخر فيقول ” لو كنا نريد سلاما وأمنا اجتماعيا فعلينا أن نسعى إلى إصلاح أنفسنا أولا وبلوغ مستوى الإنسان الحقيقي؛ لأنه لا سبيل لنا إلى أن نرجو إصلاح غيرنا دون أن نكون نحن مستقيمين أصلا” وهذا المستوى من التفكير نفتقده في عصرنا فما أكثر من يتحدث عن الدين والأخلاق ثم إذا ما دققنا في أحواله وأطواره تجدها على طرف النقيض مما هي عليه الأمور في حقيقة الوضع فمثلا يعد الرفق والرحمة من جوهر الدين ولكن تجد ما يتلفظ به بعض ممن يتحدث عن الدين كلامه مليء بالغلظة والفظاظة وأحيانا تكون غلظة حديث يتعفف الإنسان العادي أن يتحدث بها، إذن نعم العودة إلى الذات وإصلاحها وتعميرها هو الأولوية لدى الأستاذ بل إنه يقول ” إن من لم يشتغل بنفسه ويعمل على إصلاحها ستنقطع مع الوقت علاقته بربه ، لأن هذا الشخص يتعلق أحيانا بأنانيته الشخصية وأحيانا يدعي العلم، وأحيانا أخرى يتحرك وفقا لأنانيته الجماعية” وكم شاهدنا في عصرنا الحاضر أناس طغت أنانيتهم الفردية والجماعية وتصوروا أنهم هم الدين، لكن المهم هنا بالنسبة لنا أن يتوقف كل إنسان مع نفسه وقفة يرجو معها تجديد ذاته ، فالسؤال الحقيقي الذي يجب أن يشغل بالنا هو : ماذا يجب علينا أن نفعل حتى نستطيع تحقيق انبعاث عام في عالمنا الفكري والحسي والروحي ؟ والبحث عن مشاريع من شأنها تحقيق ذلك، فالانشغال بعيوب بعضنا البعض بدلا من الانشغال بطرح أفكار ومشاريع إيجابية لن يحقق لنا سوى تحطيم الروح المعنوية لمجتمعنا .
ولكن عملية تجديد الذات تلك ليست مهمة مجموعة من المجتمع ستقوم بها ويجلس باقي المجتمع يشاهدونها ، لا إنها مسؤولية تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع إنها مسؤولية خلق الوعي العام وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ كولن بقوله ” ليس صوابا تحميل مهمة البعث هذه لبضعة أشخاص فحسب، إذ يجب على كل إنسان القيام بما يقع على عاتقه في هذا الشأن”.
الان أريد أن انتقل إلى نقطة أخرى متعلقة بموضوع التجديد بصورة مباشرة .
إضاعة الدين وقادة الرأي الحقيقيين
تخيل معي أنك يجب تجري عملية دقيقة في القلب، فهل ستتوجه إلى طالب لم يتخرج بعد من كلية الطب فحتى ولو كان هذا الطالب متخصص في الجراحة ولكنه لم يتخرج بعد بكل تأكيد لن تأمن له بأن يقوم بإجراء عملية بهذه الدقة لك بل ستبحث عن طبيب موثوق ذو خبرة عريضة في مجال هذا التخصص ، ولكن ما علاقة هذا بالدين قد تتسائل ، الدين هو وجدان وقلب مجتمعنا وقد أصابته العديد من الأمراض بل قد انسدت بعض الشرايين الهامة التي تمده بما يحتاج، ولذلك كان لازما عندما نحاول أن نحالا هذه وجدان المجتمع أن يفسح المجال للحكماء المتخصصين والذين في جعبتهم الأدوات اللازمة لذلك ويلزم أن تكون ساحة الإرشاد هي ساحة المتخصصين وليس ساحة لأنصاف العلماء لأنها تضيع الدين بل أحيانا تنفر من الدين، وبدون التزود بالعلوم والمعارف اللازمة في هذا المجال يحدث كما يقول الاستاذ كولن ” فإنهم إذا ما تحركو زاعمين أنهم يرشدون الناس ويهدونهم إلى الطريق الصحيح فقد يقعون في كم كبير من الأخطاء والزلات دون أن يدركو ذلك أو يقصدوا إليه سبيلا”، فتجديد المجتمع إذا يتطلب أشخاص على مستوى عالي من العلم والمعرفة والأفق الواسع الذي يستطيعون بواسطته إقامة مشروعات لا تخدم فقط اليوم ولكنها تخدم أجيال خمسين عاما قادمة هذا الأفق كان موجودا في حضارتنا الإسلامية التي ملأت الدنيا علما ومعرفة ، وهذا يعيدنا إلى قيمية التعليم وإخراج إنسان لديه القدرة على أفقه متسع يري ببصيرته
المستقبل فيوجه الأنظار إليها ويوجه وعي المجتمع إلى ما يلزم .
تحقيق النجاح في الحياة
إن جميعنا يبحث في الحياة عن النجاح والتفوق والإنجاز ولكن كيف يمكن لهذا أن يحدث كيف يمكن للإنسان أن يواكب التطورات المتسارعة فيراعي الجديد ولا يخل بواجباته تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، إن هذه التساؤلات دفينة في روح الإنسان وغالبا لا يفكر فيها فهو في سعي وكد دائم لا يكاد يومه ينتهي بمسؤولياته حتى يبدأ يوم أخر بمسؤليات أخرى جديدة، ووسط هذا كله يكون مفيدا في أحيان كثيرة للإنسان أن يتوقف هنيهة ويتأمل في نفسه ويقيم أدائه ويعيد تحديد هدفه.
نجد الأستاذ كولن في كتاب أنين الروح يتحدث عن التوازن الفردي والاجتماعي ليس باعتبار جانبه الاجتماعي ولكن باعتبار أن فعل هذا والوصول إلى توازن في الحياة هو جزء لفهمنا للدين فالتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى يقتدي أن نبرمج حياتنا وفقا لخطة واضحة وبرنامج محدد وهنا يتناغم الإنسان مع الكون فالله سبحانه وتعالى خلق الكون كله وفقا لنظام محدد ومعايير دقيقة ومنهج يتضح لنا كلما تعمقنا في فهم الايات التي بثها الله سبحانه في الأفاق والأنفس ولكن ربما أكثر جملة استوقفتني للاستاذ كولن حول هذا الموضوع قوله ” إن نجاح الإنسان كما أنه مرهون بعدم تراخيه وسرعته في إنجاز الأعمال الواجبة عليه باستخدام قوته حتى نهايتها ؛ فإنه مرهون أيضا وبالقدر ذاته بأن يعيش حياته بشكل منظم ومنهجي..”
إن كتاب أنين الروح يتميز بثراء المحتوي وغناه، ولكن يسع الإنسان في مقالة أن يقدم للقارئ كل الأفكار ووجهات النظر أو أن يستعرض الطرق التحليلية والفكرية الموجودة بين دفتي هذا السفر الثمين، فهو كتاب يحتاج أن يقرأ بتأني فكل مقالة فيه مختلفة التناول، وأرجو أن أكون قدمت إليكم جزءا ولو بسيطا عن هذا الكتاب.
القاكم في مقالة أخرى، دمتم يملؤكم الأمل في غد مشرق…