بقلم/ محمد راتب النابلسي
البرَد هو أحد الظواهر الأكثر تعقيدا، والتي بحثها العلماء طويلا، ولم يزل هنالك الكثير مما نجهله حول هذه الظاهرة الخطيرة والجميلة، والتي تؤدي إلى خسارات تصل إلى مئات الملايين من الدولارات كل عام. ففي إحدى عواصف البرَد في عام 2000 قُتل أحد الناس عندما سقطت عليه حبَّة برد بحجم حبة التفاح. وفي عام 1981 سببت عاصفة رعدية نزل فيها البرد بكميات كبيرة في الولايات المتحدة خسارة أكثر من 100 مليون دولار. وأكبر حبة برد سقطت كانت في ولاية كنساس عام 1970 وتزن 750 غراما.
يتجلى تعقيد هذه الظاهرة من خلال العمليات بالغة التعقيد التي ترافق تشكل البرَد، لأن تشكله يتم أثناء العواصف الرعدية، والتي تصل فيها سرعة التيار الهوائي المتجه لأعلى الغيمة إلى 160كم في الساعة أو أكثر. ويقوم العلماء اليوم باستخدام الرادارات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وكذلك الأقمار الاصطناعية لدراسة أسرار هذه الظاهرة المعقدة.
لقد نُسجت الأساطير قديماً حول الظواهر الكونية المخيفة مثل كسوف الشمس والبرق والرعد وظاهرة البرَد. فكان للناس معتقدات ينسبون فيها هذه الظواهر إلى الآلهة. ولقد نزل القرآن العظيم في القرن السابع الميلادي، وفي ذلك العصر كانت الأساطير تملأ معتقدات البشر. ولكن كيف عالج القرآن هذه الظاهرة وماذا يقول عنها؟ إن المنطق العلمي يفرض كما في جميع الكتب البشرية أن المؤلف عندما يتحدث عن ظاهرة كونية تجده ينقل لنا الأساطير التي تأثر بها، وتجد في ذلك الكتاب ثقافة ذلك العصر. والسؤال: هل تأثر القرآن فعلاً بثقافة القرن السابع الميلادي؟ وهل صحيح ما ينادي به بعضهم اليوم من أن القرآن نص تاريخي يقبل التبديل والتغيير بما يتناسب مع علوم كل عصر؟ لنطلع أوّلا على ما يقوله علماء القرن الحادي والعشرين حول أسرار البرَد والعمليات الفيزيائية المعقدة لتطور حبّة البرَد، وبعد ذلك نطلع على ما جاء في القرآن حول تشكل البرَد، ونتأمل ونتساءل: هل يوجد أي اختلاف أو تناقض بين العلم والقرآن؟! وهذا ما نجده واضحا في كتاب الله تعالى عندما أمرنا أن نتدبَّر القرآن لنستيقن بأنه كتاب الله. يقول تعالى مخاطبا كل ملحد وكل مؤمن: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(النساء:82).
كيف يتشكل البرد؟
يبدأ تشكل البرَد عندما تكون درجة الحرارة منخفضة جدا دون الصفر، حيث تتجمع قطيرات الماء الصغيرة والشديدة البرودة لتتجمد وتُشكِّل حبةَ البرَد. ويقول العلماء: إن حبة البرد الواحدة والصغيرة يستغرق تشكلها زمناً 5-10 دقائق، وتحتاج لمئات الملايين من قطيرات الماء التي تتجمع لتشكيل حبَّة برد واحدة، وقد يصل أحيانا قُطر حبة البرد إلى 15 سم، وتصطدم بالأرض بسرعة 180 كم. يتشكل البرد على ارتفاعات عالية تصل إلى 18 كم. يتشكل البرد حول قطرات الماء المجمدة، أو حول ذرات الثلج الصغيرة وقد يحوي البرَد في داخله بعض الغبار والأتربة العالقة أو الحشرات الصغيرة التي ساقها التيار الهوائي في الجو بين الغيوم.
ويؤكد العلماء على أن الغيمة الأطول تملك فرصة أكبر في تشكل البرَد بسبب ملامستها لطبقات الجو العليا شديدة البرودة. والتيارات القوية من الهواء مطلوبة لتأمين تشكل البرَد وحملِه والتغلب على قوى الجاذبية الأرضية خصوصا إذا كانت حبات البرَد كبيرة، وهذه التيارات هي ما يسبب تشكل أبراج من الغيوم الركامية كما يقول العلماء. وكلما كان التيار الهوائي المتجه للأعلى قويا كانت حبات البرَد أكبر، وعندما يعجز التيار الهوائي عن حمل حبات البرَد فإن البرَد يسقط. لذلك عندما نقطع حبَّة البَرَد إلى نصفين نلاحظ عددا من الحلقات على شكل طبقات متعددة تماما كحلقات البصلة، وهذا يعني أن حبة البرد تتشكل على مراحل، كل مرحلة تنمو فيها حلقة. وقد لاحظ العلماء أن المطر ينـزل من كل الغيمة بينما البرد يسقط فقط من ممرات محددة من الغيمة وتدعى صفوف البرَد. وجميع هذه المراحل والتي تسبق تشكل البرد ضرورية ولا يمكن أن يتشكل البرد بدونها.
يتواجد البرد بشكل شبه دائم في أعالي الغيوم وأواسطها. وعلى كل حال إما أن تذوب حبة البرد قبل وصولها إلى الأرض أو تكون صغيرة الحجم فتذوب داخل التيار الهوائي في الغيمة. وقد تبين أن معظم البرد المتشكل في الغيمة (من 40-70 %) يذوب قبل وصوله إلى الأرض. وأخيرا يؤكد العلماء أن التيارات الهوائية المتجهة نحو الأعلى لا تقتصر مهمتها على تشكيل البرَد، بل إنها أيضا مسؤولة عن دفع قمم الغيوم الركامية عاليا إلى طبقة التروبوسفير، مما يؤدي لخلق البيئة المناسبة لحدوث البرق.
والآن وبعدما تعرّفنا على الحقائق العلمية اليقينية حول ظاهرة تشكل البرَد والتي هي محل اتفاق العلماء، وبعد أن اطلعنا إلى أهم الاكتشافات في هذا المجال، ماذا عن كتاب الحقائق (القرآن)؟ وكيف تناول كتاب الله تعالى هذه الظاهرة، وكيف وصفها؟
حقائق علمية من القرآن
لقد تحدث القرآن عن البرَد في آية من آياته العظيمة. جمع الله سبحانه وتعالى في هذه الآية كل الحقائق العلمية التي رأيناها بمنتهى الدقة والإيجاز، وبنفس التسلسل العلمي.
لقد بدأت الآية بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾(النور:43). وقد رأينا أن عملية تشكل البرد تبدأ بدفع التيارات الهوائية للغيوم وتجميعها والتآلف بينها، وكلمة ﴿يُزْجِي﴾ تعني في اللغة “يسوق ويدفع”. وهذا ما نراه في أول مرحلة من مراحل تشكل البرد. ثم تأتي المرحلة الثانية بعد ذلك في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي يجمع بين السحب، وهذه المرحلة رأيناها عندما تبدأ الغيوم بالتجمع. ثم تأتي المرحلة الأخيرة لتشكل الغيوم وهي الغيوم الركامية، وهذه نجدها في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾. وكلمة “رَكَم” في اللغة تعني “ألقى الأشياء بعضها فوق بعض”، وهذا ما يحدث تماما في الغيوم الركامية حيث تدفعها التيارات الهوائية باتجاه الأعلى وتجمّعها باتجاه عال يشبه الأبراج ذات القاعدة العريضة وتضيق كلما ارتفعت للأعلى وتكوّن شكلاً يشبه “الجبل”. وتأمّل كيف يستخدم القرآن كلمة ﴿رُكَامًا﴾ وهي نفس الكلمة التي يستخدمها العلماء اليوم “الغيوم الركامية”. وفي المرحلة التالية يبدأ تشكل المطر ونزوله. وهذا ما تخبرنا عنه الآية بعد ذلك في قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ وقد ثبت أن المطر الغزير وهو “الودق” يخرج من جميع أجزاء الغيمة، وهذا ما أشارت إليه الآية في عبارة ﴿مِنْ خِلالِهِ﴾.
والآن بعدما تشكلت قطيرات المطر أصبح تشكل البرد ممكنا، وذلك من خلال اجتماع ملايين القطيرات من الماء شديد البرودة لتشكيل حبات البرد والتي تتجمع في مناطق محددة في أعلى وأوسط الغيمة. ويبدأ نزول البرد من مناطق محددة أيضا، وهذا ما تحدثنا عنه الآية بعد ذلك: ﴿وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ وهنا نلاحظ أن القرآن يستخدم كلمة ﴿جِبَالٍٍ﴾ والعلماء يستخدمون كلمة “أبراج” من الغيوم، لأنهم وجدوا أن شكل الغيوم التي تحوي البرَد يشبه البرج. فتأمل التقارب الشديد بين الكلمة القرآنية والكلمة العلمية. ونلاحظ أيضا كيف يراعي القرآن تسلسل المراحل. ويقول العلماء أيضا: إن البرَد لا يوجد في جميع أجزاء الغيمة بل في مناطق محددة فيها، وينـزل من مناطق محددة أيضا وليس من الغيمة كلها، ولذلك لم يقل تعالى: وينـزل البرَد، بل قال: ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ أي إن جبال الغيوم الركامية تحوي شيئا من البرَد. ولكن قسما كبيرا من البَرَد المتشكل يذوب قبل وصوله إلى الأرض، وقسما آخر يذوب داخل الغيمة. وهذا ما عبَّر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾. إذن الله تعالى يصيب بهذا البرَد من يشاء فتجد أن حبات البرد تبقى متجمدة حتى تصل إلى الأرض، ويصرف الله تعالى هذا البرد عمن يشاء من خلال ذوبان الجزء الأكبر من حبات البرد وعدم وصولها إلى الأرض. ولكن بقي شيء مهم يحدثنا عنه العلماء كما رأينا وهو موضوع البرق وارتباطه بالبرد. فالبيئة المناسبة لتشكل البرد هي ذاتها المناسبة لحدوث ومضة البرق، وهذا أيضا حدثنا عنه القرآن في نفس الآية في قوله تعالى: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾. فتأمل أخي القارئ هذا التسلسل العجيب!
الإعجاز العلمي للآية
لنكتب الآن الآية كاملة ونَرَ الحقيقة العلمية الكاملة لظاهرة تشكل البرد: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾(النور:43). إن الذي يتأمل هذه الآية الكريمة يدرك مباشرة التطابق والتوافق الكامل مع معطيات العلم الحديث، ويدرك أيضا أنه لا اختلاف ولا تناقض بين الحقيقة العلمية اليقينية وبين النص القرآني. وفي هذا الدليلُ العلمي على أن القرآن إنما نزل بعلم الله عز وجل، وأنه لا ينبغي لبشر -ولا يستطيع أبدا- أن يتحدث عن هذه الظاهرة المعقدة بكل الدقة العلمية التي رأيناها.
والآن نلخص إعجاز الآية من خلال ذكرها لمراحل تشكل البرَد:
1-﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾: إشارة إلى التيارات الهوائية التي تدفع وتسوق السحب باتجاه الأعلى.
2-﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾: إشارة إلى تجميع الغيوم لتشكل تجمعات كبيرة من السحب.
3-﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾: إشارة إلى تشكل الغيوم الركامية، أي المتراكم بعضها فوق بعض.
4-﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾: إشارة إلى تشكل قطرات المطر وخروجها من أجزاء الغيمة.
5-﴿وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾: إشارة إلى الشكل الهندسي للغيوم الركامية، حيث تشبه الجبال في شكلها، وإشارة أيضا إلى أماكنِ تشكّلِ وتجمّعِ البرَد في أجزاء محددة من الغيوم وليس في كلها.
6-﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾: إشارة إلى وصول جزء من البرَد إلى الأرض، وذوبان الجزء الآخر وعدم وصوله إلى الأرض.
7-﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾: أي يكاد ضوء البرق يذهب بالأبصار، وفي هذا إشارة لحدوث البرق في هذه البيئة التي تَشكَّل فيها البرَد.
هذه المقاطع السبعة تُشكل آية عظيمة، تَحدث فيها الله تعالى عن تشكل البرد ومراحله وعلاقته بالبرق بكلمات في قمة البلاغة والبيان. ولكن العلماء استغرقوا عشرات السنين من البحث والتجارب، وبالنتيجة وصلوا إلى الحقائق ذاتها، والسؤال: أليس هذا إعجازا واضحا للآية الكريمة؟ إن هذه الحقائق دليل على أن القرآن كتاب الله، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾(النساء:82).