أنقرة (زمان التركية) – قدم تقرير صحفي، تحليلا من نوع آخر لبيان الجنرالات الأتراك المتقاعدين المعترضين على الانسحاب من اتفاقية مونترو، في إطار صراعات أجنحة الدولة العميقة في تركيا، وأهمها الجناح الأطلسي، ثم الجناح الأوراسي، والجناح الإسلامي الأحدث منهما.
التقرير يقفز فوق الروايتين المتداولتين، والتي تصنف الأولى البيان “انقلابا”؛ فيما ترى الثانية أنه “يخدم أهداف أردوغان”.
موقع (حفريات) استعان بآراء الباحث والمحلل التركي ياوز أجار، وما نشره في كتابه “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني”، مستعرضا تاريخ الصراعات والتحالفات، التي تعود لأواخر العهد العثماني، ليقدم رواية ثالثة حول بيان الجنرالات المتقاعدين الذي أقض مضجع أردوغان.
ويوضح الكاتب؛ أنّ هناك ثلاثة أجنحة للدولة العميقة؛ الأول والأقدم، هو الجناح الأطلسي، الذي تشكّل منذ انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وتأسس هذا الجناح في إطار خطط مواجهة الخطر الشيوعي، خاصة أنّ تركيا كانت معقلاً للشيوعيين، وأشهر كيان معبر عن هذا الجناح هو “مجموعة التعبئة التكتيكية”، ولهذا الجناح تمثّيل سياسي، متمثّل في القوميين المحافظين، ومنهم حزب الحركة القومية، الذي يترأسه حليف أردوغان، دولت بهجلي، ولها موالون داخل مؤسسات الدولة، وغطاء إعلامي واسع، ولم تكن الحكومات التركية على علم بمجموعة التعبئة التكتيكية المسلحة السرية، حتى عهد رئيس الوزراء بولند أجاويد (1974 – 1979)، ثم ظهرت إلى العلن تمامًا بالتزامن مع بدء قضية تحقيقات تنظيم “أرجنكون” عام 2007.
والجناح الثاني، هو الأوراسي، الذي تشكّل في ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت الولايات المتحدة في التخلي عن دعم الجناح الأطلسي، فتحوّل جزء منهم إلى دعم المحور الروسي – الصيني، ولهؤلاء انتشار واسع مثل الأطلسيين، ويرفعون الأيديولوجيا القومية العلمانية اليسارية، ومن أشهر زعمائهم، رئيس حزب الوطن، دوغو برينجك، وكُشف الستار عنهم في إطار تحقيقات “تنظيم أرجنكون” أيضًا. وفي خطوة ذكية، دان برينجك بيان الأدميرالات، واتّهم الولايات المتحدة بالوقوف وراءه، بالإضافة إلى أن هناك أكثر من مجموعة داخل المحور الأوراسي وسيود بينهم اختلافات كبيرة.
الباحث التركي ياوز أجار قال في حوار أجراه الصحفي المصري حامد فتحي من موقع “حفريات”: “أردوغان يريد تقديم الأوراسيين كقربان للمصالحة مع واشنطن وبروكسل، وحين يتخلص منهم، سينقلب على الجناح الأطلسي أيضًا”، في إشارة منه إلى ظهور تصدعات بين أردوغان وحليفه القومي دولت بهجلي الذي يمثل الأطلسيين القدماء الذين تخلت عنهم الولايات المتحدة في ثمانينات القرن المنصرم.
ويعدّ الإسلاميّون الجناح الثالث، الذي تشكّل في إطار التوجه الأمريكي لإعادة تهيئة منطقة الشرق الأوسط، بتصعيد الإسلام السياسي، ويدخل في هذا الجناح أربكان، ثم أردوغان، وعدنان فيردي، وغيرهم، في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي سبق أن أعلن أردوغان أنه أحد رؤساء هذا المشروع.
وبين هذه الأجنحة صراعات متعددة، فكلّ جناح يقف وراء حركة التصفيات للآخر، ومع تولي أردوغان السلطة، عمل على توظيف هذا الصراع للتخلص من الجناحين الأطلسي والأوراسي للدولة العميقة، وهو ما نجح فيه بشكل كبير، دون أنّ يقضي عليهما تمامًا إلى اليوم.
من وراء بيان الأدميرالات؟
قبل صدور بيان الأدميرالات، أصدر 126 سفيراً سابقاً، بياناً بشأن قناة إسطنبول، واتفاقية مونترو، ثم تبعهم بيان الأدميرالات، بحسب وكالة أنباء “Bianet” التركية، ولمحاولة فهم الجهة التي تقف وراء بياني السفراء والأدميرالات، يتطلب ذلك نقاش المستفيد والمتضرر من القوى الدولية من قناة إسطنبول.
وبحسب اتفاقية مونترو؛ استعادت تركيا السيادة على مضائق الدردنيل والبوسفور، بعد أن كانا خاضعين لقوانين دولية لتنظيم الملاحة، تعود إلى الإرث العثماني، وخلال العهد العثماني كان الصراع الدولي على المضائق التركية من أهم الأحداث السياسية للعالم، بين روسيا وبريطانيا بشكل خاص، حيث سعت الأخيرة إلى منع روسيا من حرية الوصول إلى المياه الدافئة، حفاظاً على تفوقها البحري ومستعمراتها في الهند ومصر وغيرهما، بينما كان الوصول إلى المياه الدافئة هدفاً للحروب الطويلة بين روسيا القيصرية والعثمانيين، ونجح القياصرة في فرض معاهدات تضمنت حرية الملاحة لهم لعشرات السنين.
وجاء توقيع معاهدة مونترو كتسوية بين بريطانيا وروسيا وتركيا ودول أخرى لأزمة المضائق، ونصّت على؛ حرية الملاحة غير الحربية لدول العالم؛ إذ تعدّ المضائق البوابة الوحيدة بين البحرين؛ الأسود والمتوسط، والتزام الدول المشاطئة بعدم إدخال السفن الحربية العملاقة للمنطقة، وعدم السماح بدخول السفن الحربية لغير دول البحر الأسود إلا لثلاثة أسابيع فقط، ومنح تركيا حقّ منع دخول سفن الدول التي تكون في حالة حرب معها، سواء التجارية أو العسكرية، وتتولى تركيا الإشراف على تنظيم حركة الملاحة.
وطالبت تركيا مراراً بتعديلات على معاهدة مونترو، نظراً لما تتحمله من أعباء مالية وبيئية نتيجة الحركة الملاحية في المضائق، وحال إنشاء تركيا قناة إسطنبول، فلن تخضع لمعاهدة مونترو، ما يمنحها الحقّ في فرض رسوم على المرور، وحرية إدخال السفن الحربية العملاقة للبحر الأسود، وهو الأمر الذي يهدّد الأمن القومي الروسي، خصوصاً في ظلّ صراعها مع الناتو حول شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.
وبناءً على ذلك؛ من المفترض أنّ يكون الجناح الأوراسي وراء بياني السفراء والأدميرالات، وفي حديثه لـ “حفريات”، يقول الباحث التركي، ياوز أجار، مؤلف كتاب “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني” إنّ “المتابعين للمشهد التركي يعلمون أنّ هؤلاء الضباط ينتمون إلى إحدى المجموعات الأوراسية الموالية لروسيا والصين، وكان أردوغان تحالف مع الأوراسيين من أجل الاستعانة بهم في إغلاق فضائح الفساد والرشوة في 2013، ومكافحة حركة الخدمة، وكذلك تحالف في عام 2015 مع الأطلسيين القدماء (حزب الحركة القومية) للتخلص من الأكراد (حزب الشعوب الديمقراطي)، وهؤلاء المجموعات الثلاثة (أردوغان والأوراسيون والأطلسيون القدماء) تواطئوا على انقلاب مفبرك في عام 2016 للتخلص من جميع معارضيهم في الجهاز البيروقراطي والجيش خاصة”.
ويرى أجار؛ أنّ الأطلسيين والأوراسيين ظنا أنّ التحالف مع أردوغان مرحلي لإضعاف خصومهم، ثم سيكون بمقدورهم السيطرة عليه بسهولة، لكنّ أردوغان أدار اللعبة أفضل منهما، وفي عام 2017 انقلب على الأوراسيين، واستبدلهم بكوادره الإسلامية.
ويدعم فرضية أجار، أنّ من بين المقبوض عليهم من الأدميرالات العشرة، جيم جوردنيز، الأب الروحي لمشروع الوطن الأزرق، الذي يقوم على فكرة توسيع السيادة البحرية التركية على حساب اليونان وقبرص، وهو طرح معادٍ للناتو والاتحاد الأوروبي، ويضع جوردنيز ضمن الجناح الأوراسي.
وحول وقوف الأوراسيين وراء بيان الأدميرالات، يذهب أجار إلى احتمالين؛ الأول أنّ “الأوراسيين أرادوا، كمحاولة أخيرة، استباق التصفية النهائية لأفرادهم في الجيش، في اجتماع مجلس الشورى العسكري القادم، حيث تقول مصادر مطلعة إنّ أردوغان سيقيل حوالي 1500 ضابط إلى التقاعد، معظمهم من الأوراسيين”.
والاحتمال الثاني، يقول أجار، إنّ “أردوغان اخترق الأوراسيين ونجح في تحريكهم ضدّه، ليمنحوه بأنفسهم الذريعة للتخلص منهم، بغطاء شعبي”، كما سبق أن عمل الشيء ذاته في انقلاب 2016 المفبرك.
الناتو في مواجهة روسيا
ومن زاوية قراءة التوجهات الخارجية لأجنحة الدولة العميقة، يصبّ التخلص من الأوراسيين في صالح التقارب التركي مع واشنطن وبروكسل، اللتين تخططان لمواجهة أشدّ حزماً مع روسيا في القرم وأوكرانيا، وهو ما يتطلب اتفاقاً مع تركيا، اللاعب الأطلسي الأساسي في البحر الأسود.
وفي إطار ذلك؛ وصل التعاون العسكري والاقتصادي بين تركيا وأوكرانيا إلى مستوى غير مسبوق من ّالقوة، وتصدّر تركيا الطائرات المسيرة لأوكرانيا، التي تصنعها بمحرك أوكراني، وفق ما جاء في تقرير حامد فتحي المنشور في موقع “حفريات”.
وأضاف الباحث ياوز أجار، لـ”حفريات”: “أردوغان يريد تقديم الأوراسيين كقربان للمصالحة مع واشنطن وبروكسل، وحين يتخلص منهم، سينقلب على الجناح الأطلسي أيضًا (الأطلسيين القدماء المتمثلين في حزب الحركة القومية)، ويحمله المسؤولية عن الصراع مع الأكراد، والمعارضة، وتردي حقوق الإنسان، كخطوة كبرى للرجوع للحضن الغربي”، ويشدد أجار على أنّ “أردوغان رجل متقلب، لن يتردد في الإطاحة بأيّ شخص لتحقيق مصالحه، التي تبدو متناقضة”.
وفي السياق ذاته، علق الأمين العام للحزب الشيوعي التركي، كمال أوكويان، على بيان الأدميرالات، وقال في حوار مع موقع “SOL International” التركي؛ “الموقّعون على البيان بينهم شخصيات موالية وأخرى معارضة للناتو، ولا يعلم أحد كيف أعدوا البيان، لكنّ الأمر الأكيد أنّ الحكومة كانت مستعدة بشكل مسبق وجيد له”.
وربط أوكويان البيان بسياسة الناتو الحازمة تجاه روسيا، وقال إنّ “انخراط تركيا المتزايد في مواجهة روسيا، كذراع للناتو، يتطلب إجراء عمليات تطهير داخل الجيش، لتحقيق استقرار يصبّ في مصلحة التعاون مع الحلف”.
ويزيد من ضبابية كلّ شيء في تركيا، أنّ الأجنحة الثلاثة للدولة مخترقة من بعضها البعض، فمن الوارد أنّ يكون رجال أردوغان داخل الجناح الأوراسي سربوا معلومات دفعت القادة الأوراسيين إلى الخروج ببيانهم، الذي وفر لأردوغان ذريعة للتخلص منهم، ليعيد ضبط بوصلته السياسية ناحية الناتو، بعد أزمته الأخيرة التي سببتها صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس – 400″، والتنسيق الكبير مع الروس في سوريا وغيرها.
وكان رئيس البرلمان مصطفى شنطوب قد ذكر أنّ من حقّ أردوغان الانسحاب من أية اتفاقيات دولية، حتى اتفاقية مونترو، وهو ما تسبب في موجة من الغضب داخل الجناح الأوراسي للدولة العميقة، ودفعهم إلى إصدار بيانهم.
وفي نهاية 2019، أعلن أردوغان مشروع قناة إسطنبول، وهي مجرى مائي موازٍ لمضيق البوسفور، على بعد 30 كيلومتراً منه في اتجاه الغرب. وتقدر التكلفة المبدئية للمشروع بحوالي 15 مليار دولار، وبحسب الحكومة؛ يهدف المشروع إلى تخفيف الازدحام في مضيق البوسفور، ويلقى المشروع معارضة شديدة من الأحزاب السياسية، لتوابعه المالية والبيئية والاجتماعية على مدينة إسطنبول.
–