بقلم/ أحمد عمر هاشم
ومعلوم أن الحضارة الإسلامية التي تبوّأت مكانتها العالمية على ظهر الأرض لم تكن وليدة الصّدفة ولم تنبعث من فراغ، وإنما أخذت وضعها في المجتمعات الإنسانية، لأنها قامت على فكر مستنير استمدّ رشده وهداه من ينابيع الإسلام الأصيلة.
فقد منح الله تعالى الإنسان عقلاً مفكرا يميّز به بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وليفكر ويتدبر ويبحث وينقّب ويكتشف ويتقدم في هذا الكون الفسيح.
المنهج التجريبي عند المسلمين
وإلى جانب هذه المنحة الربانية -وهي العقل- منح الله سبحانه وتعالى الإنسان سمعًا وبصراً وفؤاداً وجعله مسؤولاً عما منحه إياه فقال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(الإسراء:36).
وقد اضطلع رجال أفذاذ من أمّتنا الإسلامية بمهمّة البحث والاكتشاف، وكانت لهم مناهجهم التجريبية التي اعترفت بها أوروبا ولا تزال مَدينةً لهم حتى الآن، ومن هؤلاء: الرازي وابن سينا في الطب، والكندي في الرياضيات، وجابر بن حيّان في الكيمياء، وابن الهيثم في الطبيعة.
ويقول الأستاذ بريفولت في كتابه “بناء الإنسانية”: “ليس لروجيه باكون ولا لفرانسيس باكون الذي جاء بعده الحقّ في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبـي؛ فلم يكن باكون إلا واسطة من وسطاء العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا، وهو نفسه لم يملّ قط من التصريح بأنّ تعلُّم معاصريه في أوروبا اللغة العربية وعلوم المسلمين هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة”.
تلك كانت نظرتهم، وذلك اعترافهم، وإلى أي مدى أدركوا أهمية اللغة العربية كطريق للمعرفة الحقة. أين هذا من إهمال الكثير من العرب للغتهم، وأين هذا من أولئك الذين يدعون للعامية؟! بل ويتحدثون بها ويهجرون اللغة العربية في الكثير من الأحاديث في وسائل الإعلام المختلفة؟ وأين هذا من الأمّية التي فشَتْ في بعض المواقع ولا تزال؟!
نعمة العقل
لقد آن الأوان أن يقضى على الأمية وأن يأخذ المسلمون طريقهم إلى العلم والمعرفة وإلى الثقافة الأصيلة والحضارة الإسلامية العريقة التي أسّسها أسلافُنا.
إن المسلمين إذا تأخروا فهذا نتيجة إهمالهم وتفريطهم في تراثهم وليس الذنب ذنب الإسلام؛ فالإسلام هو دِين العلم، حثَّهم عليه وأمَرهم بالبحث والنظر. وأولى آياته: ﴿اقْرَأْ﴾(العلق:1) دعوة للعلم والمعرفة، وقد جعَل الله تعالى لهم الأرض مَهدا وسلك لهم فيها سُبلاً. ولطالما تفشت دعاوى زائفة أثارها أعداءُ الإسلام في القديم وفي الحديث بأن الإسلام يتعارض مع التقدّم الحضاري وأن المسلمين متأخّرون. وقد وضح لنا مما سبق كيف حثّ الإسلامُ أتباعَه وجعلهم مسؤولين عمّا منَحهم به من نعمة العقل والسمع والبصر والفؤاد.
وكم انطلقت دعاوى أخرى تقول بضرورة أخذ الحضارة الحديثة بحذافيرها، ودعوات ينادي أصحابها برفض الحضارة الحديثة، وآخرون يرون أنهم معتدلون فيأخذون منها الصالح ويتركون غيره. ولكنها آراء إذا طرحت على بساط البحث والمناقشة لا يبقى منها شيء؛ فالقول بأخذ الحضارة الحديثة جملةً مرفوض، لأن فيها ما ليس بصالح. ولأن فيها ما يتعارض مع روح أمة لها شخصيتها ومكانتها.
والقول بتركها جملةً لا يتفق أيضا بحال، إذ إن هناك أشياء في تلك الحضارة أصبحت من ضرورات الأفراد والمجتمعات. والقول بأخذ الصالح منها أيضا لنا عنده وقفة، لأن تحديد الصالح وغير الصالح سيختلف من عقل لعقل ومن فكر لفكر ومن بيئة لبيئة. نقف بعد ذلك لنقول: فما الحلّ؟
والإجابة على هذا أن في الإسلام -كما سبق- نهوضا وتقدما، وأن العقل الإسلامي يدين له العالم الحديث بحضارته، فلْيَسِرْ الفكر الإسلامي المستنير بعلمائه وخبرائه، وليأخذ مسيرته الموفقة موصولة من الخلَف بالسلف. وليس في الإسلام تعارض بحال من الأحوال مع الحضارة والتقدم والنهوض، بل إنه أمَر بالسير والنظر والعلم والمعرفة كما سبق. فالحضارة المادية والحياة المعملية بمخابرها وأدواتها وكل أجهزتها ومعاملها وصناعتها لا تتنافى مع الإسلام بل تتفق معه ويدعو إليها.
الحضارة الإسلامية ومصادرها الثقافية والفكرية
وأما ما يتصل بالفكر والثقافة فإن لنا أصول ثقافتنا التي ترتكز على الوحي الإلهي فيما يتصل بالشؤون الدينية. والوحي الإلهي مصون من أيّ زلَل أو شطط لأنه معصوم، وأما الفكر البشَري فهو قابل للخطأ والصواب؛ فمَن حاول أن يأخذ من غير أصول الإسلام ضلَّ، وما تسرّب الغزو الفكري إلى البيئة الإسلامية إلا في فتَرات الضعف التي انتابت الأمة فترات وفترات.
وواضحٌ أن القرآن الكريم دستور حياة وتبيان لكل شيء وهدًى ورحمة للعالمين، كفل للبشرية سعادتها دنيا وأخرى؛ فمَن حاول التقدُّم عن غير طريقه ضلَّ ضلالا مُبينا. وفي الحديث: “ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله” (رواه الترمذي). وللسنّة النبوية المشرّفة فضلها؛ فهي مفصِّلة لمجمَل القرآن وموضِّحة لمبهمه ومقيِّدة لمطلقه ومخصِّصة لعامه وشارحة لأحكامه. وفيهما معًا الأمانُ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والأمانُ من الانحراف والضلال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتابَ الله وسنَّتي” (رواه الحاكم).
وإن في القرآن والسنة غناء للفكر الإسلامي وللثقافة الإسلامية، يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(العنكبوت:51). وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الخروج عن دائرة الكتاب والسنّة وأرسى مناهج الحياة الثقافية الإسلامية الصحيحة حتى لا يتخبّط أحد في دياجير الظلمات الفكرية أو التيّارات المغرضة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أَتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكُتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: “أَمتهوّكون [أي متشكِّكون] فيها يا ابن الخطّاب؟! والَّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاءَ نقية، لا تسأَلوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدّقوا به. والذي نفْسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلاّ أن يتّبعَني” (رواه أحمد). هذا فيما يتعلق بالدين والعبادة وأمر الثقافة الإسلامية.
الابتكار والتقليد
أما ما يتعلق بعالم الصناعات والمكتشفات الحديثة، فالإسلام حثّ على أخذ العلم والتقدم والحكمة حيث وُجدتْ؛ “فالحكمةُ ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ بها” (رواه الترمذي)، لا يعنيه من أيّ وعاء خرجَت. وقد أمَرنا دينُنا أنْ نأخذ النَّافع وأن نطرح الضارّ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يكن أحدكم إمّعة يقول: إن أحسن الناسُ أحسنتُ وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا وإن أساؤوا فلا تَظلموا” (رواه الترمذي).
ومِن أهمّ ما يتميز به التقدّم الحضاري في ظل الإسلام هو أنه يعمل على الاستقرار والأمان والتواصل والتعارف بين الجميع. قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات:13). والتقدم الحضاري في ظل الإسلام لا ينحو إلى الصراع أو الصدام، بل إلى التعاون والتدافع، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾(البقرة:251),
ويسعى التقدم الحضاري في ظل الإسلام إلى البناء والتعمير وليس للهدم أو التدمير، لأن الحضارة الإسلامية لم تَقُم كالحضارات الأخرى على الجانب المادي فحسب، بل قامت على الجانب الروحي والديني والقيمي مع الجانب الماديّ في توازن واتّفاق وانسجام ودون أن يطغى جانبٌ على جانب آخر.
ولذا يشهد التاريخ أن المسلمين لم يكونوا طرَفا في الحروب العالمية، لأن الإسلام هو دين السلام ويدعو الناس أن يدخلو في السِّلم عامّة.
التعايش السلمي والحضاري
ومما لا شك فيه أن للقيم الدينية والمبادئ الإسلامية الروحية أكبر الأثر في صيانة الحضارة من أيّ شطط، وإنما الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والعمل من أجل الصالح العام؛ لأن الرسالة التي تسير في ضوئها هي رسالة الرحمة، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالرحمة، بل هو نفسه رحمةٌ مُهداة ونعمةٌ مُسداة مَنّ الله سبحانه وتعالى به على المؤمنين وبَعَثه رحمةً للعالمين، وقال رب العزة جلّ شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107).
وإذا كانت عظمة الحضارة الإسلامية على هذا النحو، فإن سيادة هذه الحضارة وريادتها فيها الأمان الحقيقي للعالم المفزع بالحروب، وفيها التعايش السِّلمي والحضاري، حتي لا يخدعنا الانبهار بغَيرنا.
إنّ لدى أمّتنا مخزونا ثقافيا ومشروعا حضاريا يتضمن كل خصائص الثبات والاستقرار على هُويتنا وعدم الذوَبان في الآخَر، ولكن المهمّ هو العمل والإخلاص ومضاعفة الإنتاج والتقدمُ العلمي والحضاريّ الذي حثّ عليه الإسلام؛ لأن الأنساق الثقافية لحضارتنا تتميّز بأنها إنسانية وعالَمية، جوهرها الرحمةُ والبرّ والتعايش والتسامح والأخوّة التي تَحمي حقوقَ الإنسان وتصون كرامةَ كلّ آدميّ، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:70).