القاهرة (زمان التركية) – تعيش تركيا منذ عقد كامل تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان تجارب مريرة جراء استغلال الدين ومؤسسة الشؤون الدينية لخدمة السياسة وشرعنة الانتهاكات في جميع المجالات من جانب؛ وتشويه من يعارضون السلطة أو يختلفون معها بالتضليل، بل بالتكفير، من جانب آخر.
ومن المثير أن أردوغان ورجاله في مؤسسة الشؤون الدينية لم يجدوا أي بأس في استخدام الدين وشعائره ”دروعًا” للدفاع عن أنفسهم، ولو كانوا مخطئين ومجرمين، و”رماحًا” للهجوم على من صنفوهم أعداء ولو كانوا محقين ومصيبين.
تعتبر حركة الخدمة وملهمها فتح الله كولن من أكبر ضحايا الاستغلال السياسي للدين في تركيا، حيث سلط النظام الحاكم رجاله الذين يرتدون عباءة “العلماء” على مؤلفات كولن، ليتصيدوا فيها ما يساعدهم في ممارسة الاغتيال المعنوي بحقه، من خلال تحريف آرائه أو تقديمها ناقصة أو مشوهة.
رئيس الشؤون الدينية التركية السابق محمد كورمَز كان على رأس من أقبل على اغتيال كولن من خلال “سلاح الدين”، لكنه بدأ يتذمر عندما وجه البعض هذا السلاح إليه وإلى جماعته. فقد ناقض نفسه وهو يدافع عن تصريحات أستاذ الشريعة مصطفى أوزترك، التي كانت محط جدل على وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، مطالبا بمحاسبة من يقوم بما سماه “هندسة الاجتزاء”، أي اقتطاع جزء من حديث أحد أو اجتزاء وجهة نظره، ثم الحكم عليه بناء على ذلك!
كورمز نبّه إلى وجوب تقييم آراء الإنسان وأقواله وفق منهج أهل السنة، معتبرًا أن اجتزاء كلام الناس وتقديمه بشكل انتقائي يؤدي إلى انشقاقات في المجتمع، مضيفًا بأن “هندسة الاجتزاء تعكر صفو المجتمع، وتمزق روابطه”، المبادئ التي داس عليها عندما أعد مع “علمائه” تقريرًا عن كولن وحركته.
أستاذ العلوم الشرعية المعروف في تركيا أرجون جابان، كتب مقالا بعنوان “هندسة الاجتزاء تقرير رئاسة الشؤون الدينية التركية نموذجًا”، تساءل فيه إذا ما كان كورمز نفسُه مارس “هندسة الاجتزاء” في حق كولن أم لا، لافتًا إلى أن تقرير الشؤون الدينية بحق كولن تم إعداده وفق هندسة الاجتزاء التي يحذِِّر منها الآن كورمز.
واعتبر د. جابان تصريحات كورمز الحالية متناقضة مع ما فعله عندما كان على رأس مؤسسة الشؤون الدينية، وأضاف: “تقرير الشؤون الدينية اقتطع كلام كولن من سياقه وحمّله ما لا يحتمل، وسعى إلى تشويهه من خلال هندسة اقتطاع النصوص من سياقها التي يعارضها الآن السيد كورمز”.
أستاذ علوم الشريعة أرجون جابان
كورمز قال في التقرير الذي أعد بحق فتح الله كولن “إن هناك كمًّا هائلاً من الأخطاء والانحرافات التي لا تتفق -البتة- مع جوهر الشريعة الإسلامية في العقيدة والعبادات والأخلاق”، وذلك استنادًا إلى موعظة لكولن في مسجد “حصار” بتاريخ 26/11/1989، حيث تم اجتزاء جزء من سياقها واستغرق في التعليق عليها، ليتمكن من اتهامه بالضلال والانحراف نزولاً عند رغبة السلطة.
اقتبس تقرير الشؤون الدينية من موعظة كولن العبارات التالية: “إن المؤمن منذ اللحظة الأولى التي تطأ قدماه فيها المسجد تعتريه مهابة، وتنتابه خشية. إن هذا المجلس (أي مجلس الوعظ) لهو مجلس قد أصبح على كرسيه من ينظر ويرى ويسمع ويراقب كل أفعالنا؛ إنه الله تعالى. وإذا كان سلطان قلوبنا وسيد الإنسانية وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من يتحرك بين صفوفكم، وقد أخذ الإذن من الأعلى، ويتواجد في كل اجتماع يخصه، يتواجد فيه ليشرفه بحضرته. وفي ضوء هذه الملاحظة، ماذا يمكن أن أقول لكم؟ وبأي لسان أعظكم أو أدعوكم؟ أنا فقط أدعو إلى تقدير ما تشعرون به في المسجد أمام هذا المشهد. وأعتقد أن قلوبكم تستطيع أن تقدّر هذا أكثر بكثير من مفهومي وإدراكي. لذلك سواء دخل الإمام المسجد، أو رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، فإننا هنا في معية الله جل جلاله، اللهِ الذي ينظر إلى قلوبنا سبعين مرة في الثانية، وفي حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي ينظر إلى عينه تعالى ويشاهد جماله وتمام كماله. لأن الجماعة جماعته، ولأنه هو السلطان، ومن بيده أمر كل شيء”
بعد أن أورد ذلك الاقتباس المجتزأ من الموعظة، زعم التقرير أن كولن أسند “المكان” و”العين” إلى الذات الإلهية عندما قال إن الله تعالى على كرسي الوعظ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عينه سبحانه، متهمًا إياه بالتجسيم والتشبيه.
ورغم أن كورمز يرى أنه ليس من الصواب “اجتزاء قسم وقع الاختيار عليه من سياق ما وبناء حكم عليه”، إلا أن د. جابان رأى أن الذين اقتبسوا موعظة كولن اعتمدوا أيضًا “هندسة الاجتزاء”، بينما كان يتوجب عليهم تقييم هذا الاقتباس ضمن سياق الحوار بأكمله والموضوع الذي ذُكر فيه، بل استقراء كل ما قاله في هذا الصدد ثم الوصول إلى الحكم النهائي.
ثم فصل قائلاً: “دعونا نلقي نظرة سريعة على ما يسبق هذا الجزء المقتطع لتشكيل رؤية أفضل للموضوع كله. يقول كولن قبل هذا الجزء: لقد بُنيت هذه المساجد، بما فيها أول مسجد على وجه الأرض، لله تعالى.. بُنيت جميعها من أجل تعظيمه جل جلاله. ومن ثم جريًا على عادة الخطباء في الأسلوب الخطابي أكّد على ضرورة استشعار المصلين بمعية الله لهم، فاستخدم هذا التعبير استخدامًا مجازيًّا، ليستشعروا هذه المعية، ويتوجهوا إلى عبادة الله وهم يشعرون برؤيته لهم ومراقبته إياهم، حتى يتغلغل هذا الشعور في رواد المساجد، وهذا المعنى يتطابق مع أداء العبادة لله تعالى بشعور الإحسان الذي نص عليه “حديث جبريل” المشهور”.
ونوه جابان بأن الدين يطالب بمراعاة حال السامعين، خاصة في وعظ الجموع وإرشادهم، حيث يحرص المتحدث على استعمال أكثر الأساليب إقناعًا وتأثيرًا، شريطة أن يتناسب هذا مع المعايير الدينية، وتابع” “والأسلوب الخطابي الذي يهدف إلى الإقناع والتأثير يعتمد على بلاغة المجاز، ومنه الاستعارة والكناية التي تشتمل على القضية وفي طيها برهانها. وإذا كان المجاز سمة تتسم بها كثير من اللغات، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية قد اعتمدا بشكل كبير على إيضاح الحقائق وتقريرها عبر الصور المجازية والتعبيرات البيانية. ومن ثم فمن الطبيعي جدًّا أن نقيّم هذه السمة اللغوية في عرض كولن للموضوعات العقلية المجردة بأسلوب أكثر حيوية وتأثيرًا في إطار الأسلوب الخطابي الذي يتبعه باعتباره واعظًا وخطيبًا”.
ثم ذكر جابان أمثلة على تلك الصور المجازية في النظم القرآني قائلا: “نجد ذلك في حديث القرآن عن حماية سيدنا موسى عليه السلام من ظلم فرعون، واشتماله بخالص لطفه وعنايته، حيث يقول الحق جل وعلا: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طَهَ: 39). فقد وظفت الآية الكريمة أحد الأساليب المجازية، وهو الاستعارة التمثيلية، للتعبير عن الحفظ والصون، لأن المصون يكون نصب العين، وتشتمله الرعاية والإحسان. وقد أكد المفسرون على أن قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ تعبير مجازي، يعني الإحاطة بالعلم والحفظ والصون، يعبر فيها النظم القرآني عن الاهتمام والحفظ والرعاية الخاصة التي حظي بها سيدنا موسى عليه السلام. والحال أن قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طَهَ: 39)، وقوله: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطُّورِ: 48)، وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (القَمَرِ: 14) لم يتناولها المفسرون جميعهم على معناها الظاهري، وإنما أقروا بمعناها المجازي وهو “العلم، والصون، والرعاية والحماية. وقد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أيضًا عبارات مجازية عن رؤية الله ومراقبته. على سبيل المثال يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:“يا غُلامُ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْه تُجاهَكَ”.
وقال جابان إن المشرفين على تقرير الشؤون الدينية لم يروا حاجة للنظر فيما قاله كولن بصريح العبارة في هذا الموضوع وبنوا أحكامهم بناء على نظرة تجزيئية لآرائه، وأردف: “لا يختلف منهج كولن في موضوع التجسيم والتشبيه عن منهج أهل السنة وعقيدتهم، وقد عبر بكل صراحة ووضوح عن أن نسبة الأعضاء كاليد والقدم والعين بمعناها الحقيقي إلى الله تعالى هو محض ضلال، ناقلاً عنه قوله بأن بعض الفرق التي خشيت أن تقع في مغبة إنكار هذه الصفات، قد تصوروا الذات الإلهية –حاشا- في صورة المخلوق، فنسبوا إليه اليد والقدم والعين والأذن والنزول والعروج والجري والاقتراب والفرح والضحك إلى آخره كالإنسان تمامًا…وانساقوا بذلك إلى الضلال والانحراف الفكري”.
وانتهى جابان إلى أن “ما صنعه معدو تقرير الشؤون الدينية في حق الأستاذ كولن لا يمكن وصفه بالمنهج العلمي ولا بالنية الحسنة. تقرير الشؤون الدينية تجاهل عن عمد كثيرًا من المواضع التي تبين حقيقة آرائه في مسائل العقيدة”، ومن ثم نقل عن علماء ومفكرين حظوا بقبول الأمة آراءهم عن فكر كولن وشهادتهم لهم، وعلى رأسهم المرحوم الأستاذ الدكتور سعيد رمضان البوطي، والمرحوم الأستاذ الدكتور محمد عمارة، والعلامة الأستاذ الدكتور على جمعة، والأستاذ الدكتور أحمد حسين عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة بالأزهر الشريف، الأستاذ الدكتور خليل النحوي العالم والأديب والمفكر الموريتاني، والأستاذ الدكتور فتحي حجازي من علماء الأزهر الشريف.
–