بقلم/زغلول النجار
﴿وَاللَّيْلِ﴾: “الليل” واحد بمعنى الجمع، وواحدته “ليلة”. “الليل” هو الفترة الزمنية من اليوم الممتدة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق كما حدده القرآن الكريم. والواو في قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ﴾ هي واو القسم.
﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾: “العسعسة” و”العسعاس” رقة الظلام في طرفي الليل، وعلى ذلك فإن من معاني قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ أي إذا أقبل وأدبر وذلك في أول الليل وآخره.
﴿وَالصُّبْحِ﴾: “الواو” هنا للقسم أيضا، و”الصبح” هو أول النهار، ووقت احمرار الأفق بحاجب الشمس ؛ أي بما يسبق طلوع الشمس من الأشعة تحت الحمراء. و”الصبح” ضد المساء.
﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾: أي استنشق الهواء وأخرجه، و”النَّفَسُ” واحد “الأنفاس” وهي الرياح الداخلة والخارجة إلى الرئتين ومنها، وبدونها تنقطع الحياة؛ يقال “تنفس” الرجل أي استنشق الهواء وأخرجه، و”تنفس” الصعداء أي فرج الله عنه كربه حتى استراح، وكل ذي رئة “مُتَنَفِّس” و “تَنفَّس الصبح” أي تَبَلَّجَ، و”تَنفُّس النهار” عبارة عن توسُّعه أى امتداده إلى الظهيرة.
من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
أولاً: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾: قيل في الفعل “عسعس” إنه مكون من مقطعين: “عس، عس” وهو من أفعال الأضداد أو من الأفعال المشتركة في المعنى لأن من معانيه: أقبل ظلامه أو أدبر. وفي القسم بإقبال الليل وإدباره إشارة ضمنية رقيقة إلى كل من كروية الأرض، ودورانها حول محورها أمام الشمس. فلو لم تكن الأرض كرة، ولو لم تكن تلك الكرة تدور حول محورها أمام الشمس ما أقبل ظلام الليل ولا أدبر. وهذه الإشارة الضمنية الرقيقة إلى هاتين الحقيقتين العلميتين من حقائق الأرض وهما كرويتها ودورانها حول محورها أمام الشمس، هي من الدلالات القاطعة على صدق القرآن الكريم، وعلى سلامته من أي نقص، خاصة وقد نزل في زمن سادت الخرافات والأساطير، وغلبت على أذهان الناس، فرأوا في الحركة الظاهرية للشمس أن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور من حولها، ورأوا في أبعاد الأرض الكبيرة شهادة على انبساطها وعدم تكورها. ولم تثبت كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس إلا بعد تنـزل القرآن الكريم بعدد من القرون المتطاولة، وهذا السبق القرآني بأعداد من الحقائق العلمية هو ما يعرف باسم “الإعجاز العلمي في القرآن الكريم”.
ثانياً: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾: التنفس عملية حيوية يأخذ فيها كل من الإنسان والحيوان غاز الأكسجين من الهواء الجوّيّ ليتم بواسطته أكسدة الدم الفاسد المتحرك إلى الرئتين، وذلك في عملية “الشهيق” التي تتمدد فيها الرئتان تمدداً ملحوظا. ثم يخرج الغازات السامة من مثل غاز ثاني أكسيد الكربون ومعه بعض بخار الماء وذلك في عملية “الزفير” التي تنكمش فيها الرئتان انكماشا واضحًا. وهذه الآية الكريمة تشبّه عملية تمدد نطق الغلاف الغازي للأرض مع بدء طلوع الشمس حتى غروبها، ثم انكماشها مع غياب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق بعملية تنفس الأحياء من أمثال كل من الإنسان والحيوان. وهو تشبيه معجز، خاصة وأن نُطُق الحماية في الغلاف الغازي للأرض لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
نطاق الغلاف الغازي للأرض
تحاط الأرض بغلاف غازي يقدر سمكه بعدة آلاف من الكيلومترات، ويتناقص فيه الضغط مع الارتفاع من كيلو جرام واحد على السنتيمتر المكعّب تقريبا (1.0336 كج/سم3) عند مستوى سطح البحر إلى قرابة الصفر عند ارتفاع ستين كيلومترًا فوق مستوى سطح البحر.
وعموما تحتوي المسافة من سطح البحر إلى ارتفاع 35 كيلومترا على حوالي 99% من كتلة الغلاف الغازى للأرض المقدّرة بحوالى خمسة ألاف مليون مليون طن. ويقسم هذا الغلاف الغازي للأرض على أساس من درجة حرارته إلى عدة نطق من أسفل إلى أعلى على النحو التالي:
1- نطاق التغيرات الجوية (The Troposphere): ويمتد من مستوى سطح البحر إلى ارتفاع (16كيلومترا) فوق خط الاستواء، ويتناقص سمكه إلى حوالي عشرة كيلومترات فوق قطبَي الأرض، وإلى حوالي (7-8 كيلومترات) فوق خطوط العرض الوسطي. وعندما تغيب الشمس فوق تلك المناطق يتقلص هذا السمك تقلصا ملحوظا. ويحتوي هذا النطاق على حوالي 80% من كتلة الغلاف الغازي للأرض، وعلى جميع ما به من بخار ماء. وعندما يتحرك الهواء من خط الاستواء في اتجاه القطبين فإنه يهبط فوق هذا المنحنى الوسطي، فتزداد سرعته. ثم إن حركة الأرض في دورانها حول محورها من الغرب إلى الشرق تُجبِر كتل الهواء على التحرك تجاه الشرق بسرعة فائقة على هيئة تيار هوائي يعرف باسم التيار النفاث. وينخفض الضغط الجوّي في قمة نطاق الرجع إلى عُشر ضغطه عند مستوى سطح البحر، كما تنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق باستمرار مع الارتفاع بمعدل 10 درجات لكل كيلومتر ارتفاع إذا كان الهواء جافّا، و6.5 (ست ونصف) درجة للهواء المشبع ببخار الماء حتى تصل إلى (م°60-) في قمته فوق خط الاستواء، وذلك نظرًا للابتعاد عن سطح الأرض الذي يعمل على تدفئة هذا النطاق بعد غياب الشمس. فسطح الأرض يمتص حوالي 47% مما يسقط عليه من أشعّة الشمس، فترتفع درجة حرارته أثناء النهار. وعند غياب الشمس تبدأ صخور الأرض في إعادة إشعاع الحرارة التي امتصتها على هيئة أشعة تحت حمراء إلى الغلاف الغازي للأرض خاصة إلى ما به من جزيئات ثاني أكسيد الكربون وقطيرات الماء المعلقة في السحب. فترد السحب 98% من تلك الأشعة على هيئة “رجع حراري” لولاه لتجمدت الأرض بما عليها من مختلف صور الحياة بمجرد غياب الشمس. ويَحدّ هذا النطاقَ من أعلى سطحٌ افتراضي يعرف باسم سطح توقف نطاق المناخ، ينتهى عنده فيض الحرارة المنسابة من سطح الأرض.
2- نطاق التطابق أو التطبق (The Stratosphere): ويمتد من فوق نطاق التغيرات الجوية إلى حوالي 50 كم فوق مستوى سطح البحر، وترتفع فيه درجة الحرارة من -60°م إلى الصفر المئوي في قمته. وفي قاعدة هذا النطاق توجد طبقة أو نُطيق الأوزون (Ozonosphere)، وتمتد من ارتفاع 20 كيلومترا حتى 45 كيلومترا فى المتوسط. وينتهي هذا النطاق عند سطح افتراضي ينتهي عنده التأثير الحراري لطبقة الأوزون، ويعرف باسم خط توقف نطاق التطبّق.
3- النطاق المتوسط (The Mesosphere): ويمتد من فوق خط توقف نطاق التطابق إلى ارتفاع يتراوح بين 80 كم – 90 كم فوق مستوى سطح البحر، وتنخفض فيه درجة الحرارة إلى – 120°م.
4- النطاق الحراري (The Thermosphere): ويمتد من فوق النطاق المتوسط إلى عدة مئات من الكيلومترات فوق مستوى سطح البحر، وترتفع درجة الحرارة فيه باستمرار إلى 500°م عند ارتفاع 120 كم فوق مستوى سطح البحر، وتبقى ثابتة عند هذا الحد إلى أكثر من 600 كم ثم تقفز إلى 1500°م في فترات نشاط البقع الشمسية. وفي أجزاء من هذا النطاق تتأين جزيئات الغلاف الغازي بفعل أشعة الشمس، خاصة الأشعتين السينية وفوق البنفسجية. ولذا يعرف باسم النطاق المتأين (The Ionosphere).
5- النطاق الخارجي (The Exosphere): يعرف الجزء الخارجي من النطاق الحراري باسم النطاق الخارجي ويقل فيه الضغط والحرارة بشكل ملحوظ، حتى تصل إلى قرابة الصفر المطلق، ولا يحده إلا نهاية النطاق المغناطيسى للأرض.
6- النطاق المغناطيسي للأرض (The Magnetosphere): ويمتد من مستوى سطح البحر إلى عشرات الآلاف من الكيلومترات فوق هذا المستوى. وعند قمّته تتوقف آثار مغناطيسية الأرض وينتهى الغلاف الغازى للأرض الذي هو خليط من غازات الأرض ودخان السماء. وهذا النطاق يحمي الأرض من الأشعّة الكونية المتّجهة نحو الأرض، وما يمسك به من هذه الأشعة يكون أحزمة الإشعاع. وفي النظام المغناطيسي يتضاءل الضغط، وترتفع درجات الحرارة بشكل كبير، ويصل متوسط ارتفاع هذا النطاق إلى (-64.000كم) فوق مستوى سطح البحر.
7- أحزمه الإشعاع (The Radiation Belts): وهي عبارة عن زوجين من هلالية الشكل التي تحيط بالأرض، مع زيادة ملحوظة في السمك حول خط الاستواء، ورقة شديدة عند القطبين. وهذه الأحزمة مليئة بالبروتونات والنيترونات وهي مشحونة أساسا بالبروتونات والإليكترونات التي يصطادها المجال المغناطيسي للأرض من الأشعّة الكونية المتساقطة من الفضاء الكونى فى اتجاه الأرض. ويتركز الزوج الداخلي من هذه الأحزمة حول ارتفاع (3200 كم) فوق مستوى سطح البحر، وهو مشحون أساسا بالإليكترونات، بينما يتركز الزوج الخارجي من هذه الأحزمة حول ارتفاع (25000 كم) فوق مستوى سطح البحر، ويفصل هذين الحزامين منطقة خالية من الإشعاع.
مكونات الغلاف الغازي
هذه النطق المكونة للغلاف الغازي للأرض تبدأ في التمدد مع بزوغ الفجر الصادق لتصل إلى أقصى درجات تمددها في وقت الظهيرة، ثم تبدأ في الانكماش حتى الغروب لتصل إلى أدنى سمك لها مع دخول الليل. وهذه الحركات من التمدد والانكماش تشبه عمل الرئة في مرحلتَي الشهيق والزفير ولذلك عبر عنها القرآن الكريم بالتنفس فقال تعالى ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾.
ونطق الغلاف الغازي للأرض لم تكتشف بالكامل إلا بعد ريادة الفضاء في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين (سنة 1958م)، ولم يثبت تمددها مع طلوع الشمس وانكماشها عند الغروب إلا بعد قياسات عديدة استغرقت جهود مئات من العلماء لعشرات من السنين حتى تأكدوا من ذلك.
وسَبْق القرآن الكريم بالإشارة إلى هذه الحقيقة الكونية من قبل ألف وأربعمائة سنة -حتى ولو جاء ذلك في مقام التشبيه- لممّا يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، في نفس لغة وحيه (اللغة العربية)، وحفظه حفظًا كاملا على مدى يزيد على أربعة عشر قرنا، وتعهد بهذا الحفظ تعهدًا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم حجة على الخلق أجمعين إلى قيام الساعة بأنه كلام رب العالمين في صفائه الرباني، وإشراقاته النورانية، وصدق في كل ما جاء به.
ويبقى هذا السبق القرآنى بالعديد من حقائق الكون أيضا حجة على الخلق أجمعين بصدق نبوة النبي والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم. وذلك لأن العلوم المكتسبة لم تصل إلى معرفة نُطُق الغلاف الغازي للأرض بالكامل إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، ولم يعلم شيئًا عن تمددها مع طلوع الشمس وانكماشها عند الغروب إلا بعد مجاهدة العديد من العلماء لعشرات من السنين إلى نهاية القرن العشرين. وفى هاتين الآيتين الكريمتين يبلغ الإعجاز اللغوي والعلمي مداه في اختيار لفظة ﴿الصُّبْحِ﴾ للتعبير عن هذه الظاهرة الجوية فقال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾.
وذلك لأن تمدد نطق الغلاف الغازي للأرض يكون في أعلى درجاته مع بداية الصبح إلى الظهيرة، ثم يأخذ في التناقص والانكماش بعد ذلك إلى لحظة الغروب حين يصل سمك هذه النطق إلى أدنى مستوياته. وهذا يدل على الدقة العلمية البالغة في القرآن الكريم والدالة على صدق وحيه وعلى صدق النبي الخاتم الذي تلقاه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.