بقلم/ بركات محمد مراد
فقد جمع ابن سينا في موسوعتيه بين عمق تفكير الباحث العقلي، وبين دراية العالم الممارس للتجربة، حيث ضمنهما العديد من الملاحظات والاكتشافات العلمية والتجريبية القيمة التي ظل صداها مترددا طيلة العصور الوسطى، وحتى بداية العصور الحديثة، مما يدفع الباحث إلى محاولة تلمّس منهجي تجريبـي يعلن عن نفسه في مختلف مؤلفاته ورسائله، ويكشف عن عمقه بوضوح حين يتناول موضوعات طبيعية، وعلوما مادية مثل علم النبات وعلم الحيوان، والجيولوجيا والفيزياء، وهو ما يطلق عليه الآن “العلوم الفيزيائية والكيميائية”، وكذلك العلوم النفسية حين تعالج بأساليب تجريبية وإكلينيكية (سريرية). هذا فضلا عن علمي الطب والصيدلة، حين يوجه الانتباه العلمي فيهما إلى الملاحظة الإكلينيكية، أو يؤسس فيهما لنظرية علمية تشمل جانبي الطب العلاجي والوقائي أو يخطط لتحقيق تجريبـي موسع في الصيدلة العربية.
ويتمثل المنهج العلمي التجريـبي عند ابن سينا خير ما يتمثل في علم الطب، سواء كان علاجيا أو وقائيا أو صيدلة، بل وحتى طبا نفسيا. ويتمثل هذا التطبيق خير تمثيل في كتابه “القانون في الطب” الذي ظل المرجع الأساسي للطب في معظم جامعات أوربا حتى أوائل القرن السابع عشر، وهو القرن الذي اتسم بالاهتمام بعلم المناهج، على اعتبار أن الخطوة الحاسمة في تكوين المنهج العلمي تمت على يد “فرنسيس بيكون”.
وابن سينا يقسم كتابه “القانون” إلى أبواب تشبه الكتب الطبية الحديثة؛ فهو يبدأ بالتشريح ويثني بعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، ويعقب ذلك بما نسميه بالباثولوجيا (علم طبائع الأمراض) وأخيرا بعلم العلاج. وإن كان يأخذ عليه “ديلاسي أوليري” المستشرق الإنجليزي كثرة التقسيمات والتفريعات التي هو مولع بها.(1)
ومن يتصفح كتاب القانون يجد الشيخ الرئيس –وهو الطبيب البارع- قد اهتم بكل فروع الطب تقريبا بدءًا من الطب الوقائي وعلم التشريح، وانتهاء بالصيدلة وتركيب الأدوية والعقاقير (الفارماكولوجي). وقد سار ابن سينا في تشخيص المرض ومعالجته على الطريقة المتبعة الآن وهي الاستدلال بالبول والبراز والنبض، فأمكنه التوصل بذلك إلى وصفِ وتشخيصِ كثير من الأمراض، فكان أولَ من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرق بين الشلل الناتج عن سبب داخلي في الدماغ والناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم (الجلطة)، فخالف بذلك الوصف اليوناني السائد آنذاك.
وأولى ابن سينا اهتماما بالغًا لمعرفة تنقّل المرض من واحد إلى آخر أو ما نسميه الآن بالعدوى كما يقول “وليم أوسلر” في كتابه “تاريخ الطب”. فضلا عن معرفته لكثير من الأمراض التي كانت منتشرة في زمنه مثل شلل الوجه، وداء الجنب، ومرض الأنكلستوما، ومرض السل الرئوي، وكثير من الأمراض الجلدية والتناسلية التي لم يعرفها القدماء بدقة بالغة كما شخّصها ابن سينا.(2)
وكان أولَ من وصف داء الفيلاريا وسريانه في الجسم وإلى وصف الجمرة الخبيثة التي سماها النار المقدسة، وسبق “عليّ بن ربان الطبري” (850 م) إلى الكشف عن الحشرة التي تسبب داء الجرب، وسبق “ابن ماسويه” إلى وصف الجذام.(3)
ابن سينا والطب النفسي
ولن نتابع ابن سينا في طبه التجريـبي ولا في أبواب الصيدلة العلمية التي شرحها في كتابه، فهذا يحتاج إلى بحث كبير آخر، ولكننا نتوقف هنا عند نوع واحد من أنواع الطب التي عرض لها ابن سينا في مؤلفه الضخم هو الطب النفسي الذي برع فيه أيضا وسبق كثيرا من المحللين النفسيين المحدثين.
على الرغم من متابعة ابن سينا لأرسطو في بعض جوانب معالجاته للنفس من حيث تعريفُها “بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي” أو تقسيمه لقوى النفس أو وظائفها كنفس نباتية أو حيوانية، وناطقة، وتقسيمه لوظائف العقل إلى عقل عملي وآخر نظري، وكذلك تقسيمه للقوى النفسانية المدركة وغيرها من الموضوعات التي تخص النفس الإنسانية، إلا أننا نجد له تميزا عن فكر أرسطو الفلسفي والنفسي في كل الموضوعات السابقة بشكل أو بآخر، ويزداد هذا التميز في بعض الموضوعات خاصة تلك التي نحى فيها منحى علميا تجريبيا في معالجاته للنفس وتناوله لقواها ووظائفها وخصائصها، وفي توظيفه لبعض الحقائق والمناهج العلمية في العلاج النفسي؛ فقد استطاع بحدّة ذكائه، ودقة ملاحظته أن يصل إلى معرفة طبيعة عملية “الارتباط الشرطي=
Conditioning” قبل أن يكتشفها “بافلوف” الفسيولوجي الروسي في العصر الحديث، نتيجة للبحوث التجريبية التي قام بها، وهو تفسير لم يصل إليه علماء النفس المحدثين إلا في أوائل القرن العشرين.
كما استطاع ابن سينا قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفسيولوجية التي تحدث مصاحبة للانفعال، قبل علماء الفسيولوجيا المحدثون، وهذا ما سنتبينه في علاجه لأحد مرضاه من “حالة عشق” شديد، وهو نفس الأساس العلمي الذي يستخدم في جهاز كشف الكذب، وهي نفس الطريقة العلمية التي يتبعها المعالجون النفسانيون المعاصرون.
كما وصل ابن سينا في دراسته للأحلام إلى كثير من الحقائق التي سبق بها العلماء المحدثين، وبخاصة دور الأحلام في إشباع الدوافع والرغبات التي سيقول بها “سيجموند فرويد” في نهاية القرن التاسع عشر. ولذلك ليس غريبا أن يُعتبر ابن سينا طبيبا نفسانيا من الطراز الأول، لا يقل في براعته واشتهاره عن براعته في فروع الطب الأخرى، من العلاجي أو الوقائي أو الصيدلي.(4)
لقد اتخذ ابن سينا التحليل النفسي أسلوبا جديدا من أساليب العلاج الطبي، وقد مارسه ممارسة ناجحة أكسبته شهرة واسعة في عصره، وتدل أساليبه في ذلك على أنه كان على درجة كبيرة من الخبرة بعلم النفس، وهو قد ربط في فلسفته وخاصة في كتابه القانون بين الطب وعلم النفس، فاستغل علم النفس وهو جزء من الفلسفة آنذاك في التطبيب.
والتحليل النفسي لم يكن غريبا على ابن سينا، فقد كان على علم به، إذ اتخذه طريقة من طرق العلاج حتى اشتهر في عصره بقدرته العظيمة على معالجة المرضى بطريقة التحليل النفسي.
فقد أصيب في يوم ما رجل بمرض “المناخوليا”،(5) وقد استبد به المرض إلى درجة جعلته يعتقد أنه أصبح بقرة، ولذلك امتنع عن الطعام والشراب مع بني الإنسان، ونتيجة لذلك أخذ الرجل يقلد الأبقار فيخور مثلهم ويذهب إلى الإقامة في حظائرها ويتناول الأكل معها ويصرخ مطالبا بذبحه وإطعام لحمه للناس، استمر الرجل على هذا النحو زمنا حتى ضعفت قواه وهزل جسمه وشحب لونه، فعرضه ذووه على الأطباء، ولكنهم عجزوا عن علاجه. وكان ابن سينا آنئذ قد طار صيته في الآفاق، وعرف بتطبيب مرضى العقول، فلما عرض عليه هذا الرجل وفحص عن حاله قال له: ما بالك أيها الرجل؟ وما الذي حلّ بك؟
فقال المريض ليس بي شيء إلا أنني أصبحت بقرة تخور، آكل ما تأكل وأفعل ما تفعل. فأمر ابن سينا بتقييد المريض بحبل متين وألقاه على الأرض وأحضر سكينا حادا، ثم تقدم إلى المريض وأراد أن يهوي بالسكين على رقبته، ولكنه عندما قرّب السكين من نحره، قال: “ما بال هذه البقرة هزيلة ضعيفة، إنها لا تصلح للذبح”. فقال المريض: “إنها تصلح للذبح فاذبح”، فقال ابن سينا: “كلا لا نذبحها حتى تمتلئ شحما ولحما”. قال المريض: “وماذا أفعل حتى أصير كذلك؟” فقال ابن سينا: “تأكل وتشرب كما يأكل الناس ويشربون”. فقال المريض “أوَ تذبحني بعد ذلك؟” قال ابن سينا: “نعم”. ثم أخذ الرجل على نفسه عهدا وميثاقا ليفعلن ذلك، وأخذ يأكل ويشرب كما يفعل الناس وكان ابن سينا يدس له فيه الدواء، وبذلك ارتد إليه عقله وزايله المرض وشُفي تماما. ثم زار ابن سينا بعد ذلك فلما رآه سليم الجسم والعقل قال له مداعبا: ما بال البقرة قد سمنت؟ قال: نعم، وقد أصبحت عاقلة.
ولذلك يقول “قدري حافظ طوقان” في كتابه “تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك”: “درس ابن سينا الاضطرابات العصبية وعرف بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان ابن سينا يرى أن للعوامل النفسية والعقلية –كالحزن والخوف والقلق والفرح وغيرها- تأثيرا كبيرا على أعضاء الجسم ووظائفه، ولهذا لجأ إلى الأساليب النفسية في معالجته لمرضاه”.
فإذا أردنا أن نتبين تلك الظواهر النفسية التي عالجها ابن سينا وتوصل فيها إلى حقائق وقوانين تشبه تلك التي وصل إليها علماء النفس المحدثون، فسَنجد أنه قد عرف التكيّف الحسي وظاهرة الحجب، فهو يذهب إلى أن المحسوس الخارجي أي (المؤثر الحسي) الشديد أو المتكرر يحدث في أعضاء الحواس الخارجية أثرا يستمر بعض الوقت يصعب معه أن تحس بشيء آخر. ويصف ابن سينا ظاهرة سيكولوجية تناولتها الدراسات الفسيولوجية والسيكولوجية الحديثة، وهي “ظاهرة الحجب = Masking” ويلاحظ أن أرسطو قد أشار أيضا –دون توسع- إلى هذه الظاهرة.
تفسير الأحلام سيكولوجيا
وأشار ابن سينا إلى بعض الأسباب الهامة في حدوث الأحلام، والتي تناولها علماء النفس المحدثون فيما بعد بالدراسة، ووصلوا فيها إلى نتائج هامة تؤيد ما سبق أن قال بها من قبل ابن سينا، فقد ذكر أن بعض الأحلام تحدث نتيجة لتأثير بعض المؤثرات الحسية التي تقع على النائم، سواء كانت هذه المؤثرات الحسية صادرة من الخارج أو من داخل البدن.(6)
وقد دلت البحوث التجريبية الحديثة على صحة ما ذهب إليه ابن سينا من أن للمؤثرات الحسية التي تقع على النائم تأثيرا في حدوث الأحلام، وأكد كل من “موري” و”هرفي دي سان دنيس” و”ويجادند” على أن للإحساسات الخارجية تأثيرا في الأحلام، فمثلا قد يحلم النائم الذي يشعل بجانبه ضوء أنه يشاهد احتراق شيء ما.
وقد أشار ابن سينا أيضا إلى دور الأحلام في إشباع الدوافع والرغبات؛ فإذا كان مزاج البدن في حالةٍ ما من شأنها أن تحدث نزوعا إلى شيءٍ ما، قامت المخيلة بمحاكاة الأفعال التي من شأنها أن تشبع هذا الدافع. يقول ابن سينا: “مثَل ما يكون عندما تتحرك القوى الدافعة للمني إلى الدفع إلى المتخيلة تحاكي صورا من شأن النفس أن تميل إلى مجامعتها، ومن كان به جوع حكيت له مأكولات..”.(7) وبذلك يكون ابن سينا قد سبق “فرويد” في تفسير بعض الأحلام بأنها إشباع للدوافع والرغبات.
وقد أشار ابن سينا في دراسته للأحلام إلى ظاهرة طبية هامة، وهي أن بعض الأحلام ينشأ عن بعض التغيرات في مزاج البدن، أو عن بعض الإحساسات البدنية الداخلية التي يمكن أن يستدل منها على حالات مرضية أو على بداية ظهور حالات مرضية خاصةٍ ستظهر في المستقبل.(8) وقد اهتم بعض الباحثين بدراسة هذا الموضوع، وبيّنوا وجود أدلة كثيرة على علاقة الأحلام بالأمراض ودلالتها عليها.(9)
التذكر والكفّ الرجعي
يفرق ابن سينا حين يتحدث عن “الحافظة الذاكرة” بين مفهومَي الذكر والتذكر؛ فالذكر هو الاستعادة التلقائية لكل من الصور والمعاني، وهو يحدث في كل من الحيوان والإنسان. أما التذكر فهو الاستعادة الإرادية للصور والمعاني، وهو خاص بالإنسان وحده. وقد أشار ابن سينا إلى وجود فروق كبيرة بين الناس في قوة الذاكرة والتذكر، كما ناقش أسباب النسيان واستطاع بدقة ملاحظته أن يصل إلى تفسير علمي لم يصل إليه علماء النفس المحدثون إلا في القرن العشرين، فقد كانوا يفسرون النسيان بأنه راجع إلى زوال الآثار التي يتركها التعلم السابق نتيجة عدم الاستعمال. واستمر هذا التفسير شائعا مدة طويلة حتى قام “جينكنـز (Jenkins)” و”دلنباخ (Dallenbach)” في عام 1924م بدراسة تجريبية(10) بيّنت أن النسيان لا يحدث بسبب مجرد مضيّ الزمن بدون استعمال المعلومات، وإنما يحدث بسبب كثرة نشاط الإنسان وانشغاله بأمور كثيرة تؤدي إلى تداخل معلوماته الجديدة وتعارضها مع معلومات سابقة. وسميت هذه الظاهرة بالتداخل الرجعي (Retroactire Interference) والكفّ الرجعي (Retroactire Inhibition). وبينت بعض الدراسات التجريبية الحديثة أن النسيان قد يحدث أيضا نتيجة تداخل المعلومات السابقة مع المعلومات الحديثة، وسميت هذه الظاهرة بالتداخل اللاحق (Proctive Interence)، وقد سبق ابنُ سينا علماءَ النفس المحدثين في تفسير النسيان بسبب تداخل المعلومات، يقول ابن سينا في هذا الصدد: “وأكثر من يكون حافظا هو الذي لا تكثر حركاته، ولا تتفنن هممه، ومن كان كثير الحركات لم يتذكر جيدا… ولذلك كان الصبيان مع رطوبتهم يحفظون جيدا، لأن نفوسهم غير مشغولة بما تشتغل به نفوس البالغين، فلا تذهل عما هي مقبلة عليه بغيره”.(11).
الانفعالات والتغيرات الفسيولوجية
يذهب ابن سينا إلى وجود علاقة وثيقة بين النفس والبدن؛ فالتغيرات في الحالات النفسانية التي تحدث في حالات الانفعال مثلا، يصاحبها أو يتبعها تغيرات في الحالة البدَنية، يقول ابن سينا: “جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصاحبها الروح، إما إلى خارج وإما إلى داخل.. والحركة إلى خارج إما دفعة كما عند الغضب، وإما أوّلاً فأولا كما عند اللذّة وعند الفرح المعتدل، والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزَع، وإما أوّلاً فأولا كما عند الحزن..”.(12)
ويعني ابن سينا بحركات الروح وحركات الدم، ويشير هنا إلى ما أثبتته البحوث الحديثة من أن الانفعال تصاحبه تغيرات فسيولوجية كثيرة، من أهمها ما حدث من تغيرات في الدورة الدموية إذ تزداد سرعةُ وشدة خفقان القلب، وينتج عن ذلك زيادة كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن، وتنقبض الأوعية الدموية الموجودة في الأحشاء، وتتسع الأوعية الدموية الموجودة في الجلد والأطراف، ولذلك يشعر الإنسان عند الغضب بالحرارة تتدفق في وجهه وبدنه ويحمرّ وجهه.
ويلاحَظ كذلك أن الإنسان في حالة الفزع الشديد يصفرّ وجهُه بسبب حركة دمه إلى الداخل، وهذا ما عبّر عنه ابن سينا بقوله: “والحركة إلى داخل إما دفعةً كما عند الفزع..” وإن عبارة ابن سينا “إن جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصحبها حركات الروح” أشار فيها إلى مشكلة شغلت علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس المحدثين، وهي: هل الشعور بالانفعال والتغيرات الفسيولوجية المصاحبة له، يَحدثان معا في نفس الوقت، أم إن أحدهما يسبق الآخر؟ فقد ذهب كل من “كانون” (Canno) و”بارد” (Bard) في العصر الحديث إلى أن الشعور بالانفعال يحدث في نفس الوقت الذي يحدث فيه التغيرات الفسيولوجية والعضلية.(13)
وقد أبدى ابن سينا رأيه في هذه المشكلة قبل أن تثار في العصر الحديث، وقال في الإجابة عليها باحتمالين: أحدهما هو أن الانفعال يحدث مصاحبا للتغيرات الفسيولوجية، وهو ما قال به كل من كانون وبارد؛ والثاني أن الانفعال يحدث أولا، ثم يتبعه التغيرات الفسيولوجية، فلا يقول به أحد من علماء الفسيولوجيا والنفس المحدثين.
وقد استفاد ابن سينا بما يحدث من تغير في سرعة وشدة النبض أثناء الانفعال في علاج شخص مصاب بحالة عشق شديد. وقد أراد ابن سينا أولا أن يعرف الفتاة التي يعشقها هذا الشخص حتى يمكن بعد ذلك أن يتخذ خطوات عملية في علاجه من عشقه. وقد ابتكر طريقة لتحقيق غرضه. فكان يضع إصبعه على نبض هذا الشخص، ويأمر أحد الرجال أن يذكر أسماء البيوت وساكنيها بجوار بيت الشاب. وكان يلاحظ ما يحدث من تغيرات في سرعة وشدة النبض عندما سمع هذه الأسماء، واستطاع بهذه الطريقة أن يصل إلى معرفة الفتاة التي يعشقها هذا الشخص.(14)
وقد صنف ابن سينا “حالة العشق” السابقة مع أمراض عقلية والسبات والأرق والنسيان، وذكر أن من أعراض العشق عدم انتظام النبض وأكد على أنه “أصبح من الممكن التوصل إلى معرفة المعشوق إذا أصرّ أحد العاشقَين على عدم الكشف عنه، وهذا الكشف هو إحدى طرق العلاج”.
ويؤكد ابن سينا على جدوى هذه الطريقة التجريبية التي كررها كثيرا وحققت نجاحا حين يقول: “استعملتُ هذه الطريقة مرارا وتكرارا، واكتشفتُ بذلك اسم المعشوق، عند ذكر أسماء المدن والشوارع والصفة في الوقت الذي يجس فيه النبض، فإن التغير يدل على العلاقة بين المكان والصفة والمعشوق. وبذلك يمكن معرفة جملة أوصافه”، ويمضي ابن سينا قائلا: “جرّبْنا ذلك بأنفسنا وتوصلنا لمعرفة معلومات مفيدة”.(15)
ومن هنا يؤكد الدكتور محمد عثمان نجاتي على أن ابن سينا قد سبق المحللين النفسانيين وعلماء النفس في العصر الحديث في الاستعانة بالتغيرات الفسيولوجية التي تطرأ على الإنسان لمعرفة ما يصيبه من اضطرابات انفعالية. وقد استخدم بعض المحللين النفسانيين الطريقة التي استخدمها ابن سينا وهي النطق بكلمات معينة، وملاحظة ما تحدثه هذه الكلمات من اضطراب انفعالي في الفرد، والاستدلال من ذلك على المشكلة النفسانية التي يعاني منها الفرد.
وفضلا عن ذلك فإن ابن سينا بطريقته –الطريقة التي قاس بها التغيرات التي تحدث في سرعة النبض- قد سبق علماء الفسيولوجيا، الذين يستعينون الآن بأجهزة دقيقة الصنع لقياس التغيرات الفسيولوجية المصاحبة للاضطراب الانفعالي، وهي أجهزة حسّاسة دقيقة لقياس مقاومة الجلد للتيارات الكهربية الضعيفة التي تحدث أثناء الانفعال (استجابة الجلد الجلفانية = Galvanic Skim response) ويطلق عليها “أجهزة كشف الكذب” بسبب كثرة استخدامها في التحقيقات الجنائية.
وقد قام ابن سينا أيضا بعلاج بعض حالات الاضطرابات العقلية، وذكر في كتابه القانون بعض حالات المرض العقلي التي عالجها، يمكن تتبعها –في كتابه القانون- لمن يريد تعمق أمثال هذه الحالات الإكلينيكية.
والمهم في كل هذه المعالجات عند ابن سينا والتي سبق بها العلماء المحدثين، في قوله دائما: “جرّبنا ذلك بأنفسنا”، إذ يحتكم ابن سينا إلى التجربة لتقدير صحة فكرةٍ من خطئها، كما يخبرنا أبو عبيد الجوزجاني عنه، وكما يقرّر ابن سينا –ونتيجة للملاحظات السريرية- حين يقول: “وتعهدتُ المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف”.(16)
وتعتبر معالجة ابن سينا أو اكتشافه حالة العشق الشديد السابقة نوعا من تحقيق الفرض العلمي، وذلك في قوله: “وتكون اليد على نبضه إذا اختلف بذلك اختلافا عظيما وصار شبه المنقطع ثم عاود. وجربتُ ذلك مرارا، علمت أنه اسم المعشوق”.(17) فالتجربة هنا للتحقق من صحة الفروض التي كان يفترضها ابن سينا من تغير حالة النبض في حالة المريض بالعشق. أي إنه كان يجري التجربة أكثر من مرة، فإذا توفّرت نفس الأعراض جزم بالعلة لصحة التشخيص.
ومن هنا يتبين لنا كيف جمع ابن سينا بين نظرة العالم الطبيعي المدقق، ورؤية الفيلسوف الشاملة والعميقة، فكان منهجه العلمي يستند إلى دعائم فلسفية تشترك في تكوينه كلٌّ من النظرة العقلية المنطقية، والرؤية الحسية التجريبية؛ تشكل عند جمعهما وتأليفهما معلمَين رئيسيَين لمنهجه وهما المعلم الاستقرائي التجريـبي بجميع أبعاده، والمعلم الاستنباطي العقلي بكل ارتساماته.