بقلم/ سليم أيدن
تباين كبير في الرؤى
بعضُ الشخصيات تُفَضِّل الصمت طوال الاجتماع؛ وبعضها دائم الحديث وفي مقدمة الصورة؛ والبعض يضع السلبيات على الأجنْدة بصفة مستمرة مشيرا إلى المخاطر المحتملة؛ والبعض الآخر يلحّ على الفوائد التي سيؤدِّي إليها المشروع الجديد. وبينما يحدث هذا فإن البعض لا يشارك في النقاش قط، ويغرق نفسه في المستندات والرسومات والبيانات المقدَّمة حول المشروع، يقلّب فيها في صمت محاولاً فهمها. وقُبيل انتهاء الاجتماع، بينما يعلن البعض بحماس زائد قناعته الإيجابية حيال المشروع، فإن البعض الآخر يعدد مشاكل محتملة واحدة تلو أخرى مركّزًا على نواقص موجودة فيه. أمَّا بعضهم فيُعلن أن الوقت لا يكفي لاتخاذ قرار حاسم وأنه يحتاج إلى يوم آخر على الأقل لدراسة الوثائق كلها ومراجعتها من جديد فيؤجل قراره إلى وقت لاحق.
وبسبب هذا التباين في الرؤى، فإن القرارات في عالم الأعمال لا تحسم إلا بعد عدة اجتماعات تُعقد فيما بين فِرق عمل يتم تشكيلها بمشاركة الخبراء والمختصّين أولاً، ثم تُقدَّم النتائج إلى الإدارة العُليا مشفوعة باقتراحات حلولٍ مختلفة. والإدارة العليا تُناقش المشاكل حسب حجمها وبتريُّث، وتقيّم الحلول والمقترحات المقدَّمة وتُفاضل فيما بينها، وإذا لزم الأمر يعاد البحث عن حلول أخرى من جديد. وفيما بعد فإن القرارات المتّخَذة يتم متابعتها من قبل رئيس الإدارة المسؤول حيث يتدخل فورًا في حال ظهور مشاكل أثناء التطبيق ويأمر بمواصلة الإنتاج وتدفقه.
النمطية الشخصية.. نافذتنا إلى الحياة
إن علم النفس الحديث قد أوضح أن “النمطية الشخصية” أي السمات والمميزات التي يمتلكها الفرد، تحدد إدراكه للأشياء، وتؤثر عليه في اتخاذ قراراته، وتوجهه في طريقة إقامة اتصالاته ومعالجته للمشاكل؛ لأن الإنسان لا يستطيع فهم الأشياء والحوادث على حقيقتها، بل يراها من نافذةِ نوعية شخصيته الذاتية. ولهذا السبب فإنه يظل خاضعًا لمُحدِّدات تلك النافذة.
إن إدراك الحياة من النافذة الشخصية مُريح ولا يحتاج إلى عناء. لذلك نفضّل في أغلب الأحيان متابعةَ الحياة دون أن نتقدم خطوة خارج نطاق هذا النافذة. ولو أن المرء اكتسب قدرة التفرقة بين ما هو عائد لنوافذ الأنماط الشخصية الأخرى، فإنه يستطيع أن يقتنص فرصة النظر إلى الوقائع والأحداث من نوافذ شخصيات أخرى، ويضع نفسه مكان الطرف المقابل. وكذلك نحن لا نشعر بكل ما هو في محيطنا كما هو، بل نحس به وفقًا للطريقة التي تحس بها ذواتنا أو أنماطنا الشخصية. فكل واحد منّا يستوعب الحياة من حوله بشكل مختلف ومتفق مع شخصيته. ومن بين الحياة الحافلة بأنواع الجمال اللانهائي يميل إلى شيء معيّن دون الآخر بل وينجذب إليه. فأنت ترى رجلا يبذل الغالي والنفيس لكي يتأقْلم مع الناس ويرافقهم دوما، بينما ترى آخر يتباعد عن المجتمع ويفضل أن يريح عقله وفكره بالقراءة والمطالعة. والحقيقة أن الأشياء التي تجذبنا والتي نطلق عليها اسم “الهواية”، ما هي إلا إشارات تدل على العناصر الرئيسة في أنماطنا الشخصية.
وقد جاء في القرآن الكريم ﴿يا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات: 13). وإن هذه الأنماط من الشعوب والقبائل التي مر ذكرها في الآية الكريمة يوجَد فيما بينها فروق شخصية ونوعيات عديدة. وفي ضوء آية أخرى من القرآن الكريم يتضح أن كل إنسان يتصرف وفقا لفطرته: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾(الإسراء:48). فالآية تشير إلى أن كل شخص يحل مشاكله حسب فهمه الذاتي وفروقه الفردية.
القطاع الخاص و”زمن الإنتاج والعمل”
إن شكل اتخاذ القرارات في القطاع الخاص لا يشبه شكل القرارات التي تصدر عن القطاع العام أو في الأوساط الجامعية الأكاديمية؛ إذ لـمّا كان القطاع الخاص مؤسسًا على الإنتاج، فلا يملك إمكانية تحمّل تكاليف تأخر الإنتاج، فليس في القطاع الخاص مفاهيم مثل “لنصبر الآن وننتظر ونترك الحل إلى الزمن”، ولا مكان كذلك للأفكار التي تطرح عنصر الزمن وقيمته جانبًا ولا تضعه في عين الاعتبار.
هذا، ومن أجل تقييم عنصر الزمن في القطاع الخاص تم تطوير ساعة خاصة بهذا الغرض أُطلق عليها اسم “ساعة المؤسسة” أو “زمن الإنتاج والعمل”. وإن أهمية هذا الزمن وقيمته لا تُقاس بالثواني أو الدقائق المنصرمة، بل يتم تقييمه تبعًا للمكاسب التي تتحقق من وراء الإنتاج المنجَز في ذلك الزمن بالذات، وتبعًا للخسارة التي كان يمكن أن تأتي خلال ذلك الزمن لولم يتم استثماره. فالفرق بين المكسب والخسارة هو الذي يحدد قيمة هذا الزمن. وبالنسبة لهؤلاء الذين يستخدمون “زمن الإنتاج والعمل” فإن عقد اتفاقيات حول استغلال الوقت في غاية الأهمية؛ في حين أن الذين يمضون حياتهم وفق معايير الساعة العادية، فإن اتفاقيات الزمن هذه أمور غير محبوبة. وفي القطاع العام، حيث يتم تقديم الأنظمة البيروقراطية والتدرج الوظيفي على الإنتاج عادة، فإن هذه الصورة أمر طبيعي وشائع. ولدى المقارنة بالقطاع الخاص، فإنه توجد في الأوساط الأكاديمية حرّية واسعة في استخدام عنصر الزمن والمصادر بفاعلية وبشكل إيجابي؛ إذ ما أن يتوفر التمويل المالي للمشروع الأكاديمي حتى يتمكن الباحث من الانطلاق في المشروعات التي خطط لها، كما يمكنه أن يقوم بتجارب حول الفرَضية التي طرحها وأن يُجري أبحاثه وفقا لنوعية أدائه. فإذا كان الأكاديمي منتجًا في حد ذاته كفَرْد، فلا يمكن أن يستجوبه أحد عما أنتج، فهو صاحب الصلاحية في البحث الذي يديره.
النمطية الشخصية في العمل الجمعي
ولكن إذا ما اضطر الباحث الأكاديمي إلى العمل لدى القطاع الخاص، فإن قواعد اللعبة تتغير؛ حيث إن الشركة مضطرة إلى أن تعمل على إنتاج مشترَك يتم بشكل جماعي ووحْدَويّ بين فرق وأطقم مختلفة بهدف تحقيق مهامّ الشركة وأهدافها. بالإضافة إلى هذا، فإن المعيار الرئيسي في المشاريع المطروحة للدراسة والتصنيع هو كونها صالحة للتسويق أو قابلة للبيع. من هذا المنطلق، فإن الخبراء من شتى فروع العلوم يجتمعون في الشركات من حين لآخر حول مائدة ليتبادلوا خبراتهم سعيا نحو إيجاد منتج جديد غيرِ مسبوق أو خدمة جديدة. ولهذا فإن كل شخص في نهاية اجتماعات الفريق يكون مجبَرًا على إجراء أبحاثه طبقا لتقسيم العمل في المشروعات التي تم إقرارها على ضوء المعطيات المشتركة التي ظهرت في نهاية هذه الاجتماعات.
وهكذا فإذا أراد شخص أن يعمل مع فِرَق ومجموعات مختلطة في القطاع الخاص، فإن شركته ستتيح له فرصة للتدرّب في عدة ندوات ودورات حول التنمية الشخصية في قسم المَوارد البشرية للشركة. وعند سؤال الأفراد الذين شاركوا في هذه الدورات التدريبية والتعليمية عما حصّلوه من مكاسب، فقد أجابوا بصفة عامة على النحو التالي: “لقد أدركتُ أن الحوار السليم مع أناس يتمتعون بخبرات علمية متعددة تعود إلى أنماط شخصية متنوعة، قد أنتج مساهمة وظيفية عظيمة وقيمة إضافية أخرى. وتعلمتُ طرق رفع مستوى الذكاء الجماعي في الفريق الواحد. وأول هذه الطرق هو ضرورة تكوين فِرق من أفراد ذوي خبرات مختلفة تعود إلى مجموعات ذات قدرات فردية مختلفة أيضًا. والعامل الأهم في رفع نسبة المخترعات والاكتشافات المبتكرة هو تأسيس الحوار بين الأشخاص المنتمين إلى أنماط شخصية ذات فروق خاصة. وثاني هذه الطرق وجوب إجراء تبادل وتحاور بين العلوم التي تتوفر في الطاقم البشري الموجود من شتى فروع العلوم المختلفة. أما ثالثها فإن كل عضو في المجموعات التي تشكّلتْ على هذا النمط، لا بد أن يعرَّف على طاقاته ونمط شخصيته الذاتية، ويزوّد بالتعليم والتدريب الذي يُمَكِّنه من إقامة اتصال سليم مع الأنماط الشخصية المختلفة”.
كيف تعرف نمطك الشخصي؟
ولكي يتمكن الإنسان من تحديد المجموعة النمطية التي ينتمي إليها، يجب عليه أن يراقب نفسه ويتابعها عن كثَب، ويتبين الميول والرغبات الباطنية التي تتحكم فيه وتوجه أفكاره وتصرفاته. وإذا نَظر إلى تصرفات ومواقف ظاهرية فقط، فسيصعب عندئذ التعرّف على نمطه الشخصي، لأن المواقف والتصرفات الظاهرية في أغلب الأحوال هي تصرفات قد تمت بشكل شعوري وتحت سيطرة المخّ الواعي. وفي الحقيقة إذا ما أُريد تشكيل مجموعات استشارية وأطقم عمل ذات تأثير فعَّال، فالشرط الأول لذلك، ليس جمع شخصيات خبيرة في مجالات مختلفة فقط، بل ويجب كذلك تشكيل فريق من الخبراء متغاير الخواصّ والصفات من حيث انتماؤه إلى أنماط شخصية متنوعة. وإذا كان قائد المجموعة أو مدير المؤسسة لا يتمتع بهذه الرؤية في تقييم الأنماط الشخصية، وإذا كان دأبه أن يختار الشخصيات التي توافق وتصادق على مرئياته فقط دون أي اعتراض، فإنه سيتمكن من الإدارة نعم، وسيكون متوائمًا ومندمجا مع المؤسسة ومجموعة العمل، ولكن مؤسسته ومجموعته لن تحقق إلا نسبة محدودة من الإنتاج والإبداع والإنجاز الرفيع.
هذا، وإن إدارة الأنماط الشخصية المختلفة وتحويل فروقهم الفردية إلى ثراء أمرٌ صعب المراس. ومن جهة أخرى فإن العنصر الجماعي المتنوع الخواص والمتشكل من مجموعات ذات سمات شخصية مختلفة يقلق السلطة المركزية في أغلب الأحيان، فيُلقَى به جانبًا ولا يوضع في عين الاعتبار.
الزعامة والأنماط الشخصية
وإذا كانت الأنماط الشخصية تختلف لدى الزعماء، فإن نوعية الزعامة وطريقة أدائها أيضا تختلف وفقا لاختلاف النمط الشخصي؛ حيث إن كل مجموعة نمطية تضع بعدا من أبعاد الزعامة في مقدمة إستراتيجيتها. تذكروا مثلا الإجراءات الحياتية للخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، تجدوا أن إجراءاتهم الفذة كانت انعكاسا لطبيعة مجموعاتهم الشخصية التي ينتمون إليها. وتذكروا كذلك “تشرشل” و”هتلر” و”غاندي” و”طورغوت أوزال” وزعماء آخرين، فإنكم سترون أن ستين بالمئة من الاختلافات الإجرائية تعود إلى الفروق الموجودة بين الأنماط الشخصية التي ينتمون إليها. ومن هذا المنطلق، فإن الزعيم العالمي الشامل الذي يتمتع بشعبية جماهيرية واسعة في عصرنا الحاضر، لا تقوم زعامته على مفهوم الشخص الأوحد، إنما تقوم على النظام الشوري والشعور الجمعي المشترك، وعلى الشخصية المعنوية التي تتكون من مجموع الأفراد الذين يحملون السمات المختلفة للزعامة.
تحويل الاختلاف والتنوع إلى ثراء
ويتضح من هذه الحقيقة أن أكثر المؤسسات تجددا وعطاء هي تلك التي تأسست من اجتماع شخصيات خبيرة منتمية إلى أنماط شخصية مختلفة؛ إذ إن عنصر كل مجموعة شخصية قد يدرك جزءً ضئيلا من الحقيقة الشاملة، إلا أن إدراك الحقيقة كاملة يحتاج إلى عمل دؤوب بصورة مجموعات وهيئات استشارية تتكون من أنماط شخصية متنوعة. كما أن التشاور وتبادل الآراء ينبغي ألا يتم عبر بضعة أشخاص من نفس المجموعة فقط، بل يجب أن يتم ذلك عن طريق شخصيات ذات خبرة واسعة، ومجموعات عمل ذات فروق فردية تستطيع أن ترى الأبعاد المختلفة للأحداث والقضايا، حتى يتم الوصول إلى الحقيقة الشاملة، ويقل احتمال الإخفاق، ومن ثم يمكن تنمية العطاء ورفع الإنتاج. ألا يُشير رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديثه “اختلاف أمتي رحمة”(رواه الطبراني) إلى أهمية اختلاف الأفكار فيما بين المجموعات البشرية ذات الفروق الشخصية، وذلك في فهم الأحداث وإدراك الجوانب المتباينة لها؟! إذن لا يملك الإنسان قابلية استيعاب الحقائق الكلية التي تتعلق بالوجود والأحداث، حيث إن علم البشر محدود للغاية لأنهم لا يستطيعون تقييم الوجود والأحداث إلا من نوافذهم الخاصة ومن الزوايا التي توفرها لهم أنماطهم الشخصية. وهذا النطاق المحدود لا يمكن تجاوزه إلا بالعمل الوحْدويّ والبحث التعاوني والشعور الجمعي والذكاء الجماعي.
معادلة “أنا” و”نحن”.. رؤية مستقبلية
وإن الأعوام المقبلة ستشهد زيادة ملحوظة للقيمة التي تُمنح للعمل التعاوني والشعور الجمعي والذكاء الجماعي. وإن الإنتاج والنماء والتقدم الحاصل من العمل الجماعي، سيزداد أو ينقص حسب العناية التي تولَى للأنماط الشخصية المختلفة وتقديمِ الجوانب المثمرة لديها أو إهمالها.
ومن ثم إذا لم ينتبه المرء إلى هذه الحقيقة فلن يستطيع أن يخرج من سجن أنانيته وشخصيته، بل سيقع في عقدة عدم فهم الشخصيات الأخرى وإيجابياتهم وطريقة قراءتهم للحياة. وأسوأ ما في الأمر أنه سيشكّل عقبة أمام التطور واستثمار الإيجابيات الشخصية المختلفة في مؤسسته وأطقُمه البشرية، وذلك بسبب المبررات التي ينتهجها وفقًا لشخصيته. وإن طريق الخلاص من مرض الأنانية هو معرفة الشخص لنفسه والوقوف على حقيقته، والتغلّب على مواطن ضعفه، والانتقال من الأنانية إلى الذوبان في “حوض النَحْنَوِيَّة”، أي إن اندماج “أنا” في بحر “نحن” هو الطريق الأوحد لإثراء الحياة والمستقبل، وللخلاص من أزمات الأنانية.