بقلم/ بركات محمد مراد
النبي صلى الله عليه وسلم.. المربي الأعظم
ولقد زخرت حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالمثل القرآنية الحية التي تجسدت في حياته الشريفة وفي توجيهاته التربوية المتعددة الألوان والمعالم. ولا يغيب عن ذهن المثقف حثّه صلى الله عليه وسلم على العلم ووصاياه القولية وسننه العملية في فداء أسرى بدر بتعليم الأسير عشرة من أبناء الصحابة القراءة والكتابة، وأمره زيد بن ثابت تعلم السريانية وغيرها، وإيفاده البعثات التعليمية والوفود التربوية مثل قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وابن نويرة، وسعيد بن العاص، ومعاذ بن جبل…إلخ.
ولقد تنوعت وسائل النبوة في مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وأخذهم باللين والتدرج، وعدم الغضب إلا في موضعه المناسب، وصبره على إيذاء الآخرين بالقول والعمل، وإقناع الآخرين بالمنطق والواقع، واهتمامه الخاص بالصبية والفتيان والشباب، والإفادة من المناسبات والوقائع والحوادث، وسبقه إلى العمل وحماسه له، وتميّز شخصيته عن الآخرين بالفضائل الإنسانية والخبرات الشخصية… الأمر الذي شد المسلمين إليه وحببهم بأحواله، وصنع منهم خير أمة أخرجت للناس.
طلب العلم.. أولى خطوات التربية
ويمكن تلخيص الطابع العام للتربية الإسلامية بأن عنايتها تجلّت في نزعتها المثالية في تقديم العلم والحث على طلبه، وفي الاهتمام بالفضائل الخلقية، ثم في مرونتها في طرق التحصيل، واصطباغها بروح الديمقراطية التي قضت على الفروق بين الشعوب والأجناس والطبقات في مجال التعليم والدين، وإعطاء الأفراد فرصا متساوية في التحصيل لم تكتمل في كثير من الأمم الحديثة اليوم.
وإن الطابع العام للتربية عند المسلمين لم يكن دينيا محضا ولم يكن دنيويا محضا، وإنما كان يلائم بين الدين والدنيا، فكانت التربية تهدف إلى إعداد النشئ للحياة وللآخرة معًا في إطار الآية الكريمة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القصص:77)، والحديث الشريف: “ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه”.
ولقد وهب كثير من العلماء حياتهم للعلم تحصيلا وتدوينا لا لشيء سوى الإيمان بتحصيل العلم واستشعار اللذة في تدوينه، كما عبر عن ذلك الإمام الغزالي في الإحياء: “إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته، ووجدته وسيلة إلى الدار الآخرة وسعادتها، وذريعة إلى القرب من الله تعالى، ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل. فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذن أفضل الأعمال”.
قضايا التربية.. صلب الفكر الإسلامي
من المؤكد أنه على المدى الطويل الذي امتد حوالي عشرة قرون أي ما بين (100 -1000هـ)، وعلى اتساع رقعة العالم الإسلامي، برزت شخصيات تربوية عظيمة، نهج بعضهم أسلوبا تربويا في تآليفه كالإمام الشافعي في “الرسالة”؛ وبعضهم تعمّق في بحوثه النفسية والإرادية كالغزالي والمحاسبي وكثير من الصوفية؛ وبعضهم حلل المدركات البشرية وماهية العقل والنفس كالكندي الفيلسوف في المشرق، وابن طفيل وابن باجة في المغرب (خاصة في قصتيهما “حي بن يقظان” و”تدبير المتوحد”). حتى إن المدرسة العقلية في تفسير القرآن عنيت بالجانب الإدراكي لدى الإنسان عناية خاصة، وفي طليعة أعلامه الفخر الرازي والنسفي والبيضاوي. وهؤلاء الذين أدركوا أغوار النفس وأبعاد الذات، كانت لهم تأملات تربوية، وأهداف تعليمية، وقواعد بنائية في النفس والإرادة أغنتْ نظراتهم الشمولية في الكون والنفس والحياة.
لقد أظهر أئمة التربية المسلمون فهما كبيرا للأسس السيكولوجية للتربية الخلقية، وكان لهم في ذلك طريقان: أولهما الاهتمام بالوسائل الدافعة المتمثلة في القدوة الحسنة، والبيئة الصالحة والتشجيع والترغيب والملاينة؛ والأمر الثاني هو الاهتمام بالوسائل المانعة كالاتعاظ بالغير، والعقاب عند الضرورة.
إن كثيرا من دوافع السلوك لدى الطفل -كما تقرر التربية الحديثة- يتكون عن طريق الخبرة والتفاعل مع البيئة. ونحن إذا ما هيأنا للطفل المجال الصالح، فنحن بذلك نزوده بعدد كبير من الدوافع التي تتطلب منه الرغبة في التفكير والعمل. وواجب المدرس أن يبذل اهتماماته لتنمية دوافع الطفل ليستطيع بذلك أن يحقق الأهداف التي يبتغيها من التربية.
المدرّس.. الركن الأساس في عملية التربية
ولكن استغلال الدوافع عند الأطفال ليس أمرا يسيرًا، فإنه يقتضي توفر قدرة وموهبة خاصة في المدرس. وقد رأينا العناية البالغة التي دعت إليها التربية الإسلامية في اختيار المدرس، والإفاضة في رسم ملامح شخصيته بدقة، والتشدد الذي يفضي أحيانا إلى المبالغة لاستخراج مثالية معينة في المدرس لكي يستطيع أن ينهض بواجبه كاملا، وبمسؤولياته الجسيمة في تنشئة التلاميذ وتهذيبهم. وإنّ دعوة المدرسين إلى ملاحظة الفروق الفردية بين التلاميذ، ومراعاة الاستعدادات المختلفة عندهم، تشكّل دعوة هامة وضرورية في هذا المجال. فإن المعلم إذا لم يكن مزوَّدا بقدرات ومواهب معينة لا يمكن أن يكون له التأثير النافع في تحقيق الغايات التربوية. ذلك لأن كثيرا من الصعوبات التي تواجهه نتيجة للتباين والاختلاف في خبرات التلاميذ السابقة، وتداخل العوامل النفسية وتعقدها.. كل ذلك يتطلب منه قدرا كبيرا من الذكاء وحسن التصرف.
إن الإفراط في الثناء أو المدح قد يفضي بالطفل إلى حالة من الثقة تؤدي به إلى الاكتفاء بما عنده، وعدم الرغبة في بذل أي مجهود مما تكون نتيجته بالنسبة للطفل انحطاط مستوى التحصيل لديه. ومثل ذلك يكون في الإفراط في العقاب أو اللوم الذي قد يفضي بالطفل إلى حالة من اليأس أو عدم الاكتراث، وبذلك تصبح البواعث لدى كل منهما معطِّلة، وليس لها أية قوة دافعة. كما أن للمدرس شأنًا كبيرا في إثارة دوافع التلاميذ، ويكون ذلك عن طريق تأسيس روح الوئام والحب بينهم، والاجتماع لتبادل الرأي فيما يعرض لهم من مشكلات. وفي الواقع إن حب التلميذ لمعلمه يدفعه إلى الجد في مادته لكي يفوز برضاه، وهذا ما تقرره التربية الحديثة.
يقول الرشيد لمؤدب ولده الأمين: “لا تمرّنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما، فعليك بالشدة والغلظة”. ويتحدث “إخوان الصفا” عن تأثير القدوة في التربية وفي تكوين العادات الطيبة حين يقولون: “واعلم أن العادات الجارية بالمداومة عليها تقوّي الأخلاق المشكِّلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يقوي الحذق بها والرسوخ فيها، وهكذا حكم الأخلاق والسجايا”.
كما نجد الإمام الغزالي قد دعا إلى تعديل العادات الضارة، واقتلاع جذورها من النفس، مسايرة منه لفلسفته في مجاهدة النفس، فيذكر في رسالته “أيها الولد” الحاجة إلى المربي الذي يستطيع أن يخرج بتربيته أخلاق السوء من نفس تلميذه، ويجعل مكانها خلقا حسنا. ومعنى التربية يشبه فعل الفلاّح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه. ثم يتحدث عن تأثير القدوة وأنه ليس كل مرب صالحا للتأثير في تلاميذه، فإن المربي الفاضل هو من يستطيع أن يجعل من خلقه وسلوكه نموذجا للاهتداء به، لأنه كما يقول الغزالي: “من اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرًا جسيمًا، فينبغي أن يأخذ نفسه بالشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، وأن لا يدع من نصح المتعلم شيئا، وكذلك أن لا يقبّح في نفسه العلوم التى لا يقوم بتدريسها، وأن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله، لأن العمل إذا خالف العلم منع الرشد. ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل الظل من العود، ومتى استوى الظل والعود أعوج؟!”.
المستويات العقلية وزمن الدرس
وفي مراعاة المستويات العقلية للطلاب يقول النووي: “وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصا على هدايتهم، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه؛ فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا يقتصر به عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كل واحد على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته. فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهما محققا، ويوضح العبارة لغيره، ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار. ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا يتحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويذكر الدلائل لمحتملها”.
وفي زمن الدرس المتوسط والمناسب للمادة العلمية يقول السمعاني: وينبغي للمملي ألا يطيل المجلس الذي يرويه، بل يجعله متوسطا، حذرا من سآمة السامع وملله، وأن يؤدي ذلك إلى فتوره عن الطلب وكسله، فقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد فيما بلغني “من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرّض أصحابه للملال وسوء الاستماع، ولأن يدع من حديثه فضلة يعاد إليها، أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له”.
العقوبة.. حدودها وضوابطها
أما العقاب وأضراره، فقد شغل حيّزا كبيرا من اهتمام التربويين المسلمين؛ فلم يسمحوا به إلا عند الضرورة، لأنهم رأوا في الضرب المبالَغ فيه نوعا من الانتقام والتشفّي، وقد نهى الفقهاء عن الضرب والتشفي. وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا عن أضرار الشدة على المتعلمين، لأنه رأى أن “إرهاف الحدّ بالتعليم مضرّ بالمتعلم سيّما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مَرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدَم سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وعمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا”.
وبعد أن يحلل ابن خلدون هذه المضار التي تنشأ عن الشدة في تكوين الصبي واكتسابه للعادات الضارة، يتقصّى الأضرار الاجتماعية التى تتأثر بإيجاد هذا السلوك عند الطفل كنتيجة للعقوبة والشدة؛ فيرى أن نتائج هذه التربية النامية في مجالات القوة تؤدي بدورها إلى إفساد المعاني الإنسانية للصبي “من حيث الاجتماع والتمرّن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنـزله”، فيصبح بذلك على حد تعبير ابن خلدون “عِيالا على غيره في ذلك”، لأن الغرض الذي ينبغي أن تهتم به التربية من توجيه سلوك الفرد لمواجهة الحياة يَخبو بتأثير هذه الشدة، وينحرف عن مجاله السديد. ثم يمضي في تبيان الأضرار التي تصيب نفس الصبي، فتشلّها عن اكتساب الفضائل والأخلاق الطيبة، وبذلك تنقبض عن غايتها ومدى إنسانيتها ويصيبها الارتكاس.
المربي المسلم… قمة في صناعة التربية
لقد أفاض هؤلاء المربون في شرح طرق معاملة الصبيان وتأديبهم، واهتموا اهتماما بالغا بالتنويع في طرق التهذيب ومقتضياتها. فقد دعا الغزالي إلى تكريم أخلاق الصبيان الحميدة ومدحها، كما دعا إلى التغافل عن أخطائهم، فإذا ما تكررت عوتب الطفل عتابا رفيقا، وعُدّ ذلك من دقائق صناعة التعليم، “فإنّ التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، ويهيّج الحرص على الإصرار”.
إن هذه الألوان المنوعة التي دعَوا إليها في معاملة الصبيان لا تحتاج إلى بيان أهميتها في تربية شخصياتهم، وتنمية النوازع الطيبة في نفوسهم. وهذه الدعوات المستفيضة في رعاية الصبيان وبثّ الخير في نفوسهم، إنما تنبثق من فهمهم الناضج لطبيعة الأطفال، وكذلك رغبتهم المخلصة إلى أبعد الحدود في نشر العلم والترغيب فيه، واحتمال الجهد في سبيل تقريبه من النفوس، وإذاعته بين الناس، وأخيرا شدة استمساكهم بالأخلاق القويمة التي طبعت سلوك هؤلاء العلماء والمربّين، وضربهم الأمثلة الرائعة في التضحية بملذات الحياة، والاعتزاز بكرامة العلم إيثارا للحياة البسيطة على ابتذال ثقافتهم ومثلهم وأخلاقهم التي كانت أعظم ما يتحلَّون به.
وكان من أبرز هذه الصفات التي اتصف بها أولئك المربّون التواضع، الذي كان من أبرز دلالاته أنْ وجّهوا المعلم إلى أنه إذا غاب بعض الطلبة غيابا زائدا عن العادة، فإنه يجب عليه أن يسأل عنه، وعن أحواله وعمن يتعلق به، فإن لم يُخبره عنه أحد أرسل إليه، أو قصد منـزله بنفسه وهو أفضل؛ “فإذا كان مريضا عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافرا تفقد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم، وتعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد إليه ودعا له”.
ولعل في دراسة تراثنا التربوي باتجاهاته التربوية المختلفة ما يكشف لنا عن الثابت والمتغير في هذا التراث، وما يكسب الباحثين القدرة على محاكمة هذا التراث والاستفادة من هذا التعدد وهذا التنوع في معالجة قضايا التربية. وإن دراستنا لتلك الاتجاهات سوف تكسبنا الإدراك أنها جميعا اجتهادات في إطار الإسلام، وأنها جميعا اتفقت على الجذع المشترك الواحد لتربية الإنسان المسلم في مرحلته التعليمية الأولى، بعد ذلك تأتي مرحلة التخصّص، وهنا تظهر تلك الاتجاهات التربوية المختلفة في التربية الإسلامية، كما تعكسها كتب التراث التربوي المعروفة لنا حتى الآن.