بقلم/ محمد مشرف يوسف خضر
وقد كثر القول حول القصص القرآني كثرة توهم بانتهاء القول حوله، وتشكك في احتمال تقديم جديد في هذا الصدد؛ ولكن القرآن كتاب متجدد لا يَخلق على مر الدهر، وهو صالح لكل جيل؛ ومن هنا كانت المحاولة دائما مأجورة، وأقرب الأجر جديد يشعر المرء أنه وصل إليه، أو قدمه، وهل شيء أشرف من خدمة القرآن!
وهنا نتتبع خصائص القصص القرآني تتبّعا نرى فيه مظنة تقديم الجديد، من حيث إن المنهج الذي سنتناوله منهج جديد؛ هو المنهج السردي الذي يبدأ بتقسيم إجرائي للعمل القصصي إلى قسمين هما المعنى والمبنى، أو المتن الحكائي والمبنى الحكائي بتعبير الشكلي الروسي “توماشفيسكي”. وحديثنا عن الخصائص هو حديث عن نتائج دراسات طويلة لا نرى داعيًا لذكرها، لدلالة المذكور عليها، ونبدأ بالمتن الحكائي:
خصائص المتن القصصي في القرآن الكريم
إن متتبع القصة في الكتاب الحكيم يجد أن ثم قصصا يرد أكثر من مرة في مواضع مختلفة، وآخَر يرد ذكره مرة واحدة فقط، وأن النوع الأول يأتي في كل مرة يذكر فيها بشكل مختلف، كما نرى في قصص: آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام… وفيها جميعا نجد نواة وظيفية تتكرر، فيما عدا قصص آدم عليه السلام الذي يمثل مقدمة وسببا في وجود هذه النواة. نقرأ في ختام قصة آدم عليه السلام قوله تعالى ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البقرة: 38-39). ثم تتوالى القصص بعد ذلك: يأتي الهدى من الله، فيتبعه الناجون، ويكذّب به الهالكون. ومن ثم كانت تلك النواة الوظيفية التي انبنى عليها جميع القصص التالي:
1 – الدعوة إلى عبادة الله وحده.
2 – الرفض والاستكبار.
3 – نجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين.
هذه البنية تقابلنا في كل مرة في القصص المذكور، تتغير الشخصيات، بينما تظل وظائفها ثابتة؛ تظلّ الدعوة، ويظلّ التكذيب، وتظل العاقبة… وكأنها قصة واحدة تتكرر حلَقاتها على الصورة نفسها، كلما كانت فترة نسي فيها الإنسان عداوة الشيطان ووعيده القديم.
غير أن الهدف الذي تأتي من أجله القصة -من قصص النبي الواحد- يجعلها تختلف في كل مرة في بنيتها الوظيفية؛ فيكون التركيز على وظائف دون غيرها، ويكون بحضور وظائف أو غياب أخرى، مما يؤثر في متتالية الوظائف، فيجعلها بالتالي قصة جديدة في كل مرة.
خصائص البنية الزمَنية في القصص القرآني
وإن مراجعة سريعة للبنية الزمنية في القصص القرآني من خلال ملاحظة الإيقاع الزمني، المتمثل في الحركات السردية الأربع: الحذف، والوقفة الوصفية، وبينهما وسيطان هما: المشهد والمجمل؛ وكذلك من خلال ملاحظة المفارقات الزمنية أو علاقات الترتيب… إن مراجعة سريعة تُرينا مَدى هيمنة المشهد الحواري علي السرد القصصي القرآني. ومن خصائص المشهد أننا فيه نجد التحام الزمن القصصي بالزمن السردي، ويصير حاضر السرد هو حاضر الأحداث، فيتحول المتلقي إلى مشاهد يعاين الوقائع بنفسه، ينفعل بها، ويتفاعل معها كأنه واحد من شخصيات المشهد. ويتناوب الحذف، والإيجاز، والمشهد كثيرا؛ الحذف يتخطى أحداثا لا يحتاجها الموقف القصصي، وهو يتراوح بين أن يكون حذفا ضمنيا، يستدل عليه من ثغرة في التسلسل الزمني، أو انحلال للاستمرارية السردية كما نجد مثلا في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾(ص:72-73)، وجُلّ حذوف القصص القرآني من هذا النمط. وفي مواطن كثيرة نستطيع الاستدلال على الحذف من مواضع أخري في سياقات مختلفة، ومرة واحدة فقط نجد حذفا محدود المدة، في قوله تعالى من قصص نوح عليه السلام في سورة العنكبوت: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾(العنكبوت:14).
والإيجاز يعرض للأحداث عرضا سريعا مجملا لأهمية ذكرها في السياق ولكن في غير تفصيل، كما في وظيفة الإهلاك والنجاة، في قصص الأنبياء، التي تأتي -غالبا- موجزة؛ فتدل من ناحية على هوان الهالكين على الله عز وجل، ومن ناحية أخرى على قدرة الله تعالى المطلقة. والمشهد يعرض الأحداث الرئيسية المشكلة للعمود الفقري للنص، وهو يأتي غالبا على هيئة حوار خارجي أو مونولوج داخلي. والمشهد، كما يقول “عبد العالي بو طيب”، يعطي القارئ إحساسا بالمشاركة الحادة في الفعل، إذ إنه يسمع عنه معاصرا وقوعه كما يقع بالضبط، في لحظة وقوعه نفسها. ولا يفصل بين الفعل وسماعه سوى البرهة التي يستغرقها صوت الروائي في قوله، لذلك يستخدم المشهد اللحظات المشحونة، ويقدم الراوي دائما ذروة سياق من الأفعال وتأزمها في مشهد.
ويرى “ويليام هاندي”، بحق، أن المشهد في العمل السردي يمكن أن يُنظر إليه على أنه مماثل للصورة في الشعر، ومن ثم يضيف أن “كلا من المشهد والصورة يمتلك الخصائص الأساسية نفسها:
1-كلاهما يعرض أكثر مما يوحي.
2-كلاهما يشكل مظهرا مفردا لمعنى مضاعف.
3-كلاهما يقصد إلى صياغة الخصوصية أي نسيج التجربة.
4-كلاهما موجه أولا إلى الحس، وليس إلى الفكر المجرد.
5-كلاهما يتخطى المفهوم في احتوائه معنى أكبر مما يستطيع المفهوم أن يصوغه من خلال طبيعته الأصلية.”
إنها اللحظات الأكثر توترا في القصة يعرضها المشهد الحواري (غالبا) في القصة القرآنية، كما نرى مثلا في قصص الأنبياء، حيث تأتي دائما وظيفتَا “الدعوة” و”التكذيب” على صورة مشهد حواري. وهما الوظيفتان الأكثر أهمية في القصص القرآني بوصفه وسيلة دعوة. والوصف يكاد لا يوجد في القصص القرآني، اللهم إلا في مواضع معدودة، أظهرها ما نراه من وصف لقارون في سورة القصص ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(القصص:79) وكأنه دمْية تمثل زينة الحياة الدنيا، تُعرض في صمت ليفتن الناس بها. وكذلك وصف صاحب الجنّتين في سورة الكهف حين ضاعت جنّتاه ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾(الكهف:42).
أما بالنسبة لعلاقات الترتيب بين زمني القصة والسرد فكثيرا ما تبدأ القصص باستباق، يهيّئ نفس المتلقي، ويوجه توقعاته، على نحو ما نجد في قصص آدم عليه السلام حيث هناك الاستباق الإعلاني الذي يتصدر أكثر القصص. وفيه يخبر المولى عز وجل الملائكة بأنه سيخلق بشرا من طين، وما يلي بعد ذلك يترتب بوجه من الوجوه على هذا الاستباق، كما في رفض إبليس السجود لمخلوق طِيني. وحين تبدأ قصة آدم في سورة طه باستباق داخلي عن نسيان آدم عليه السلام، فإن السرد يسير من ثم على هذا النحو ليذكر قصة نسيان آدم. ومثل هذا نراه كذلك في قصص سورة القمر، التي تبدأ جميعها باستباق يحدد موضوع القصة، الذي كان دائما تكذيب قوم نبي من الأنبياء.
والاستباق المختلط في القصص القرآني له خصوصيته التي تتمثل في انفتاحه على المستقبل البعيد المتمثل في القيامة، كما في قصة آدم عليه السلام: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾(طه:124-126). أو كما نرى في قصة ذي القرنين: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾(الكهف:98-99).
والاسترجاع كذلك يقابلنا في القصص القرآني، ولكن بصورة أقلّ من الاستباق الذي يبدأ به أكثر القصص؛ فنجد الاسترجاع مثلا مختلطا باستباق العليم في قصة هود عليه السلام: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾(هود:60) وهذا الاستباق خاص بالقصة القرآنية؛ وهذا راجع أولا لطبيعة صاحب الخطاب عز وجل عالِم الغيب والشهادة؛ وثانيا لطبيعة القصة القرآنية التي هي وسيلة رئيسية من وسائل الدعوة. وربما تركّز الاسترجاع في قصص نبي من الأنبياء، كما في قصص لوط عليه السلام من سور القمر والشعراء والحجر والعنكبوت؛ ففي سورة القمر يأتي الاسترجاع للتذكير بأن ما حل بقومه إنما كان جزاء وفاقا لما قابلوا به دعوته لهم وإنذاره من تجاهل وتكذيب. ومثل ذلك في سورة الشعراء؛ بينما في سورتَي الحجر والعنكبوت، يأتي استرجاع جانب من قصص إبراهيم عليه السلام. وفي قصة موسى والعبد الصالح نجد الاسترجاع أربع مرات متتالية.
وتجدر الإشارة إلى أن القصة القرآنية، لوجودها في فضاء النص القرآني، تخضع لزمنيتين مختلفتين: الأولى تتعلق بزمن القصة القرآنية، وتتعلق الثانية بزمن النص القرآني. زمن القصة يبدأ مع الدخول الفعلي في عالمها، وزمن النص القرآني يحيط بزمن القصة، ويحتويه. ويمكن أن نعده زمنا حاضرا للسرد، أو زمنا أولا تقاس المفارقات الزمنية الكبرى بالنسبة إليه. فالقصة بكاملها تكون استرجاعا أو استباقا حين تتعلق بهذا الحاضر الزمني للنص، كما نرى مثلا في قصة أصحاب الجنة: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾(القلم:17)، أو في قصص سورة القمر: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾(القمر:9) وفي غيرها.
خصائص الصيغة السردية في القرآن الكريم
في القصص القرآني يتجلى من صيغ الخطاب صيغة المنقول المباشر التي تهيمن على الحكي، وتطبعه من ثم بطابع أمانة النقل للقول الوارد، وبهذه الصيغة ترد الوظائف المهمة في القصص. ففي قصص آدم عليه السلام، تأتي الوحدة السردية الأولى -وهي إخبار الله تعالى الملائكة بخلق آدم- دائما في صيغة الخطاب المنقول المباشر، التي تحمل إلينا حوار الله والملائكة في هذا الشأن ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:30). ودائما يأتي الإخبار عن الخلق بضمير المفرد الغائب، ودائما بصيغة واحدة لا تتغير ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ في سور (ص:71) و(الحجر:28) و(البقرة:30).
يلي هذا الوحدة الثانية “سجود الملائكة وامتناع إبليس” التي تأتى بالصيغة نفسها، ودائما بضمير الجماعة الدال على العظمة، ودائما بالصيغة الواحدة التي لا تتغير: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ في سور (طه:116) و(الكهف:50) و(الإسراء:61) و(البقرة:34). وتكتمل الوحدة بالصيغة ذاتها، لتعرض لطاعة الملائكة، واستكبار إبليس، وامتناعه عن السجود، ومن ثم ذلك الحوار الطويل بينه وبين الله، الذي يأتي في صيغة المنقول المباشر لأهميته الشديدة، لا في قصة آدم فحسب، وإنما -كما قلنا من قبل- في قصة الحياة بصفة عامة.
وفي قصص الأنبياء، نجد دائما وظيفتَي الدعوة والتكذيب تأتيان بهذه الصيغة (المنقول المباشر) بعد أن يتم التحضير لهما بصيغة الخطاب المسرود. ففي سورة الأعراف ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(الأعراف:59)، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(الأعراف:65)، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(الأعراف:73)، ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(الأعراف:85).. الصيغة دائما واحدة، والدعوة أيضا واحدة.
وهذا أيضا ما نجده في سورة هود وفي سورة الشعراء ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الشعراء:105-107)؛ ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الشعراء:123-125)؛ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الشعراء:141-143)؛ ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الشعراء:160-162)؛ ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾(الشعراء:176-178). هذا الاتحاد في الصيغة الكلية للدعوة، بل في كلمات الدعوة، يجعلنا وكأننا أمام نبي واحد، ورسالة واحدة. وإنها لكذلك، وما يزال قول الله تعالى لدى هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:38) يتردد ما دامت السماوات والأرض، وما زال الهدى يأتي من الله، فمن تبعه نَجا وسلم.
خصائص الرؤية السردية في القرآن الكريم
من خلال تتبع تقنيات الرؤية السردية في القصص القرآني نعاين هيمنة الرؤية المحايدة على الحكي. وفي هذه التقنية يتم تنظيم الحكي من موقع خارجي، بينما تُترك شخصيات السرد تتحدث بأصواتها دون تدخل، مما يعطي انطباعا للمتلقي بصدق ما يتلقى، حين يجد نفسه مشاركا في الحكي بوصفه مشاهدا حاضرا ومستمعا لما يجرى من حوار. تتجلى هذه الرؤية في وظيفة الدعوة، من قصص الأنبياء، وما يصاحبها من جدل التكذيب، حيث الحاجة إلى معرفة التفاصيل المتلبسة بالدعوة، كعلاقة الرسول بقومه، ومنهجه في دعوتهم، وهدفه منها… وكل هذا يجري أمام عينَي المتلقي من خلال الرؤية المحايدة، فيرى بموضوعية، وعليه من ثم أن يحكم بعقله على ما رأى، وأن يجنب كل حكم للهوى، أو للعادة.
ويظهر كذلك، وإن بصورة أقلّ، تقنية الرؤية الذاتية، التي تُلحق دائما بنا الفاعلية الدالة على العظمة، ومن خلالها يتم حكي الأحداث الفاصلة في القصص، تلك التي تحتاج إلى قوة قاهرة متصرفة، مثل عملية الخلق، وإرسال الرسل، وإنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين. فنحن نرى قصص الأنبياء في سورة القمر، تبدأ كلها بالرؤية الذاتية؛ تعرض نماذج لأمم كذبت قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف كان عذاب الله لهؤلاء المكذبين في الدنيا قبل الآخرة، فلتحذر أمة محمد أن تكذب هي الأخرى بالنذير، فهي أمة كالأمم التي توالى سرد ما حاق بها من عذاب. ولعرض صور العذاب من خلال الرؤية الذاتية أثره البيّن في النفس. فالمتكلم هو الفاعل، ولن يكلفه الأمر شيئا ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾(القمر:9)، وعاد وثمود وقوم لوط، وآل فرعون، ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾(القمر:11)، ﴿وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾(القمر:12)، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾(القمر:19)، ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾(القمر:20)، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾(القمر:31)، ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾(القمر:38)، ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾(القمر:42)، ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾(القمر:43).
يبقى بعد ذلك الرؤية الذاتية المحايدة، وهي تتخلل القصص القرآني. ومن اسمها فهي تجمع بين الرؤيتين السابقتين، مع غلبة الرؤية الذاتية فيها، وشكلها الأمثل، حيث يأتي قول الحق سبحانه وتعالى من خلال ضمير العظمة الذي يأتي فاعلا في القصة والسرد على السواء ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾(الإسراء:61) وهي قليلة وتأتي غالبا تمهيدا للرؤية المحايدة أو في أعقابها.
والرؤية المحايدة الذاتية، وهي على عكس السابقة، تغلب فيها الرؤية المحايدة، وتتمثل في نقل معنى الكلام لا نصه كما في قوله تعالى في قصص لوط عليه السلام ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾(الحجر:66).
وثم ملاحظة نلفت إليها، تتمثل في تداخل الرؤيات الذي نجده في بعض المواضع في القصص القرآني، مثل ذلك القسم الخاص ببني إسرائيل في قصص موسى عليه السلام من سورتَي (الأعراف:138-168) و(طه:80-98). فلعل هذا التداخل يأتي بقصد التوجيه النفسي للمتلقي مما يناسب ما يؤديه هذا القسم من عرض لانحراف بني إسرائيل وفساد طبيعتهم.