بقلم/ عبد العزيز برغوث
تضارب الرؤى حول العولمة
والعولمة، هذه الظاهرة الجديدة القديمة تحاول اليوم أن تضع أسئلة محرجة ومهمة وخطيرة على مصير الحضارة الإنسانية عامة ومصير حضارة الإسلام بصورة خاصة. ومما لا شك فيه أن المقولات حول العولمة متعددة، ومتنوعة، ومتغايرة، ومتمايزة بصورة كبيرة. فمن الموالين والذائدين عنها إلى الرافضين والمعارضين لها، ومن الإيجابيين حولها إلى السلبيين، ومن الموضوعيين في تصورها إلى الذاتيين في معالجتها، ومن المركزين على جوانبها المتعددة إلى الحاصرين لها في جانب واحد، ومن النابهين والمستفيدين من خيرها والتاركين لشرها إلى الغافلين والتائهين بين شرها وخيرها، ومن أهل الخبرة فيها إلى المتحدثين فيها بغير علم ولا وعي ولا منهج ولا نظام، ومن العارفين بمفهومها وحقائقها وآلياتها إلى الخالطين لها بين المفاهيم.
وقد يقال ما علاقة الأستاذ النورسي ورسائل النور بموضوع العولمة؟ فلا النورسي ولا رسائل النور تحدثت عن موضوع العولمة؟ وما عساه أن يقوله في موضوع جديد لم يُعهد بهذا المصطلح والمعنى في زمانه؟
ولكن قبل القيام بهذا التحليل ينبغي أن نجيب عن سؤال مبدئي أولي وهو “ما هو مفهوم العولمة في الأدبيات القائمة حاليا وما مخاطرها على العالم الإسلامي؟” حتى يتسنى لنا تمييز موقف ورأي ومقولة رسائل النور في الموضوع. فيتحصل من هذا الكلام أن نركز في موضوعات ثلاث هي:
أولا: مفهوم العولمة ومخاطرها على العالم الإسلامي المعاصر؟
ثانيا: كيف ينبغي أن نفهم العولمة في رسائل النور؟
ثالثا: الرد النوري على مخاطر العولمة والقيمة الحضارية للنسق الأخلاقي في رسائل النور.
الدور المستقبلي لرسائل النور
ومما تجدر الإشارة إليه قبل البدء بتحليل هذه النقاط الثلاثة فكرة مهمة جدا أوردها الإمام النورسي في رسائل النور عندما كان يتحدث عن القيم الحضارية والتاريخية والكونية العامة لرسائل النور، حيث يبدو وكأنه يتوقع دورا حضاريا ضخما وفعالا لرسائل النور في مستقبل الأيام، ويعتقد أن رسائل النور ستتحول إلى بؤرة تركيز عالمي تجذب العلماء والمفكرين والحكماء في زمن تعيش فيه الإنسانية أخطر مراحل تطورها وأعقد مشكلاتها. فيقول الإمام النورسي رحمه الله: “إن أجزاء رسائل النور قد حلّت أكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضحتها وكشفتها وألجمت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأثبتت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يظن بعيدًا عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج النبوي والحشر الجسماني.. أثبتتها لأشد المعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى حظيرة الإيمان. فرسائل هذا شأنها لا بد أن العالم -وما حوله- بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقة قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جل اهتمامه، وأنها سيف ماسيّ بتّار في قبضة أهل الإيمان”.(2)
إن هذا الكلام يبين لنا بما لا يدع مجالا للشك الدور الحاسم الذي ستؤديه رسائل النور في النقاش العالمي الذي يدور حول حاضر البشرية ومستقبلها، ويبين لنا كيف أن هذه الرسائل لها استيعاب خاص لواقعنا الحضاري المركب والمعقد. وسنحاول إبراز بعض ما تستطيع أن تقدمه الرسائل لإنقاذ إيمان الأمة في عصر العولمة التي يعبر عنها النورسي بقوله: “أما الآن فقد تطورت وسائل النقل إلى درجة كبيرة بحيث أصبح العالم كالمدينة الواحدة، وغدا أهله في مداولتهم الأمور كأنهم في مجلس واحد”.(3)
أولا: مفهوم العولمة ومخاطرها على العالم الإسلامي
ينبغي لنا أولا وقبل كل شيء أن نحدد ولو بصورة عامة مفهوم العولمة، لكي نتبين حقيقتها وأبعادها ومخاطرها على الفرد والمجتمع والحضارة والثقافة الإسلامية والإنسانية بصورة عامة. ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن تعاريف العولمة متعددة جدا، ومتنوعة بصورة تكاد لا تحصر. ويمكن أن تعرف العولمة بصورة عامة على أنها تلك الظاهرة التي برزت مع الأفكار الأساسية التي يبشر بها النظام العالمي الليبرالي الجديد، وتعني رفع الحواجز الجغرافية والثقافية والاجتماعية، وانفتاح الثقافات والحضارات الإنسانية على بعضها البعض بسبب تأثير الثورة التقنية والتكنولوجية والاتصالية والمعلوماتية؛ بحيث تزداد كثافة وسرعة وحجم الاتصالات والتعاملات والنشاطات الإنسانية بصورة تؤدي إلى عولمة الواقع البشري، وجعل البشرية كلها تعيش في ظروف نفسية وثقافية واجتماعية وحضارية توحد مصيرها وتعَولم مشكلاتها. ففي ظل هذا التعريف العام للعولمة ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والجغرافية والعمرانية يصبح المجتمع الإنساني وحدة واحدة أو كما يسمونه بـ”قرية الكرة الأرضية”.
فإذا كان هذا التحديد للعولمة سليما بصورة عامة، فإنه لا يستطيع أن يفسر لنا بعض الأبعاد والآفاق التوسعية الفوضوية الخطيرة التي كثيرا ما لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح وهموم الإنسان غير الغربي. وهذا الأمر يجعلنا نزيد في توضيح بعد مهم من أبعاد العولمة، وهو الذي يمكن نعته بالبعد الأيديولوجي الاستراتيجي التوسعي الذي يخدم مصالح دعاة العولمة بصورة خاصة.
فإذا ما أخذنا هذه التحديدات بعين الاعتبار فإننا نستطيع أن نرى الصورة الحقيقية للعولمة، ونستطيع أن نميز بين ما هو لا إنساني وسلبي فيها، وبين ما هو إنساني وإيجابي. ولكن يبقى الأمر الهام والذي ينبغي أن نؤكد عليه جيدا وهو أن العولمة في عمقها المعرفي والتاريخي والسوسيولوجي والأخلاقي والمادي هي بلا شك فعلٌ حضاري ثقافي غربي يحاول إعادة صياغة الكيان الحضاري للبشرية جميعا وصبغه بالصبغة الغربية، وجعل النموذج الحضاري الثقافي الاجتماعي الغربي قانونا يحكم حياة الإنسان، ويصوغ له أقداره ومصائره وتوجهاته، ويعيد ترتيب نظام القيم والعلاقات والمعرفة والسلوك على وفق الرؤية الكونية الغربية.
ثانيا: مدخل النورسي لفهم العولمة وإدراك مخاطرها
من الأهمية أن نكتشف مفهوم العولمة وحقيقتها ليس عن طريق البحث في صفحات رسائل النور عن هذه اللفظة أو المصطلح، ولكن عبر التحليل للوحدة المنهجية والعضوية للنص النوري في كليته. وعلى هذا الأساس سنحاول كشف أهم مدخل من مداخل فهم العولمة وأبعادها وأسبابها وآثارها ومخاطرها على الإنسان المعاصر عامة. ويمكن أن نختصر هذا المدخل فيما يسميه عالِمنا الجليل النورسي “المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ”. وبعد التعرف على هذين المفهومين يمكن تقديم صورة للعولمة كما تعبر عنها رسائل النور.
أ- المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ في فهم العولمة
يتحدث الأستاذ النورسي رحمه الله عن مسألة المعنى الاسميّ والمعنى الحرفي ويجعلهما من أهم الأفكار في رسائل النور. ونحن نستطيع أن نستخدم مفهومَي المعنى الاسمي والحرفي للدلالة على أهم وأخطر بعد من أبعاد العولمة باعتبارها منتوجا إنسانيا نابعا عن تطور الذهنية الإنسانية وتوجهها وجهة معينة أوصلتها إلى الوضع الحالي من التأزم والفوضى والاختلال العام. وقبل أن نربط بين مفهوم المعنى الحرفي والاسمي ومفهوم العولمة نحاول ذكر تعريف النورسي لهما.
فالمعنى الحرفي يعني النظر إلى الكون والأسباب، والمعجزات، والحوادث، والوقائع، والسنن، والآيات الإلهية الآفاقية والأنفسية “والموجودات التي -كل منها حرف ذو مغزى- بالمعنى الحرفي، أي من حيث دلالتها على الصانع. فيقول‘ما أحسن خلقه’، ‘ما أعظم دلالته’ على جمال المبدع. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمال الحقيقي للكائنات”.(4)
فالمعنى الحرفي إذن دال على غيره وليس على ذاته، وإنما ذاته ونفسه ما هي إلا مرآة عاكسة لشيء أعظم من النفس وأعظم من الوجود وأعظم من الدنيا “أي أنّ ‘أنا’ لا يحمل في ذاته معنى، بل يدل على معنى في غيره كالمرآة العاكسة، والوحدة القياسية، وآلة الانكشاف”.(5) فالإنسان والمجتمع الذي ينظر إلى الدنيا وإلى الحياة وإلى الحضارة بالمعنى الحرفي فإنه سيرى الأشياء والأمور على حقيقتها، وبالتالي تنسجم خطاه مع مراد الله، وتتناغم أعماله وأقواله مع سنن الله وقوانينه، لأنه ينظر إلى الوجود على أنه دليل على خالقه عز وجل.
وأما إذا نظرنا إلى الأمور وعالجنا المشكلات الإنسانية بمنظور ونسق المعنى الاسمي، فإننا نكون أمام وضع مختلف تماما عن وضع المعنى الحرفي. ففي المعنى الاسمي نؤلّه الأسباب، ونخلد إلى الدنيا، ونتثاقل إلى الأرض، ونعتبر أن الحياة الدنيا هي خلاصة كل شيء وأن التطور المادي والترقي العمراني هو غاية الوجود كله. وبهذا ننظر إلى أنفسنا (أنا) على أنها كل شيء ومصدر كل خير، ونجعل من العقل إلهًا نحكّمه ومن الفلسفة معارف عليا كلية توصلنا إلى كل ما نريد معرفته. فلا نرى وراء العقل ووراء الفلسفة شيئا مفيدا.
فإذا ما نظر الإنسان إلى الحياة والكون والوجود بالمعنى الاسمي، فإن نظرته وأفقه ينحصر في ذاته، ويدور حول أَنَاه مهما حققت من الرقي المادي، ومهما تفجرت أمامه من عيون الحضارة وخيراتها، وإنه يبقى دائما مسلوب الوعي الصحيح، فاقد الرشاد والهداية غارقا في الملذات والشهوات لا يكاد يرى وراءها شيئا. وبهذه الكيفية يجعل المعنى الاسميُّ الإنسانَ تائها في نفسه لا يكاد يدرك حقيقته وحقيقة رسالته الوجودية.
بـ- العولمة كنتاج للمعنى الاسمي
فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار فكرة المعنى الحرفي والمعنى الاسمي وأردنا تطبيقها على مسألة العولمة، فإننا سندرك حقيقتها وجوهرها بصورة جلية. فالعولمة في جوانبها السلبية ما هي إلا تجلٍّ لاستحكام المعنى الاسمي والفلسفة الاسمية والرؤية الكونية الاسمية في الثقافة، والنفسية، والعقلية الغربية التي تقود الحضارة المعاصرة. فعملية الاستبدال للمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في الواقع الإنساني هو الذي أدّى إلى نشوء هذه الثقافة والنفسية والشخصية التي تحمل راية العولمة وتتبنى مشروعها ونهجها في الهيمنة على البشرية. فعندما تبنّت المدنية الغربية هذا المنظور تشكلت ثقافتها، واصطبغت نفسيتها بعدة خصائص جعلت منها منبتا ومنشأً خصبا للفوضى والاختلال والظلم الذي تعانيه البشرية اليوم من جراء أفكار العولمة ومخاطرها.
يقول الأستاذ النورسي واصفا حقيقة المنظور الاسمي الذي تبنته الحضارة الغربية المعاصرة: “إن أسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي أسس خمسة، تدور عليها رحاها. فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة. هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية. دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة. رابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد، ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك. وخامستها: هي أن خدمتها الجذابة، تشجيع الأهواء والنوازع، وتذليل العقبات أمامها، وإشباع الشهوات والرغبات. وشأن الأهواء والنوازع دائما: مسخ الإنسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية وتمسخ مسخا معنويا”.(6)
فبهذا الوصف الدقيق للرؤية الكونية الغربية وخصائصها الثقافية نجد الأستاذ النورسي قد حدد المدخل الأصيل والصحيح كذلك لإدراك حقيقة العولمة باعتبارها منتوجا لهذه الثقافة والرؤية والحضارة. ومن هذه التحديدات يقدم لنا النورسي صورة عميقة ومعبرة عن حقيقة العولمة وطبيعة العقل الذي أنتجها ونوعية الثقافة التي تقف وراءها، كما يقدم لنا أمثلة واقعية لما تفرزه هذه الظاهرة وما تتركه في واقع الناس. يقول الأستاذ النورسي: “إن المدنية الغربية الحاضرة لم تلق السمع أبدا إلى الأديان السماوية، لذا أوقعت البشرية في فقر مدقع، وضاعفت من حاجاتها ومتطلباتها، وهي تتمادى في تهييج نار الإسراف والحرص والطمع عندها بعد أن قوضت أساس الاقتصاد والقناعة، وفتحت أمامها سبل الظلم وارتكاب المحرمات”.(7)
فما لم ندرك مسألة العولمة في إطار ما أسماه الأستاذ النورسي بالمعنى الاسمي فإننا سنبقى دائما ننظر إلى المسألة بصورة سطحية لا نرى من خلالها عمق الأزمة وعمق المشكلة الخطيرة التي تواجهها البشرية. فكل المآسي المشار إليها ما هي إلا نتاج مباشر للشخصية والعقلية التي تتبنى النظرة الاسمية للحياة والدنيا والعالم والحضارة. وفي هذا السياق نجد النورسي ينعى على هذا التوجه ويتوقع نهاياته وفساده لأنه لا ينسجم مع سنن الله ولا مع نواميس الكون. ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أنّ تحليل النورسي لأزمة الحضارة الإنسانية والمدنية الغربية بصورة خاصة إنما تتم ضمن ما أسماه بالنظرة الاسمية أو المعنى الاسمي للوجود. فبهذا العمق والنظرة إذن تقدم لنا رسائل النور المدخل الأصيل والصحيح ليس فقط لفهم العولمة ولكن كذلك لفهم مشكلات الإنسانية عموما.
وبعد أن بيّنّا بصورة مختصرة مدخل رسائل النور في النظر إلى مسألة العولمة، وأوضحنا ما لفكرة المعنى الاسمي والحرفي من فائدة في إدراك حقيقة المشكلة الإنسانية والأزمة الحضارية التي تواجهها البشرية في عصر العولمة يبقى لنا أن نبين ما هو المدخل الأساسي لعلاج هذه الأزمة والرد على تحدي العولمة الذي يكاد يطبق على البشرية جميعا بتياره المتعاظم.
والذي يقرأ جيدا رسائل النور ويتعمق فيها ويكتشف منهجها العام يستطيع أن يدرك أن أي مدخل لمواجهة مسألة العولمة أو غيرها من المشكلات التي تواجه الإنسانية ينبغي أن يدور حول “المسألة الأخلاقية”. فسؤال الأخلاق في نسق رسائل النور ووجهتها العامة هو المدخل الأساسي لمعالجة أدواء وأسقام الإنسان المعاصر. ولكن حين نتحدث عن المسألة الأخلاقية عند النورسي فإننا لا نتحدث عنها وفق منطق الفلسفة الوضعية أو المادية أو الطبيعية. ولكن نتحدث عن الأخلاق وفق ما أسماه النورسي بالمعنى الحرفي. وحين ننظر إلى المسألة الأخلاقية على وفق المعنى الحرفي فإننا نجدها وبدون منازع هي المدخل الصحيح لمعالجة المشكلات الإنسانية.
وفيما يأتي بيان لمفهوم ودور المسألة الأخلاقية في مواجهة تحدي العولمة والرد على تيارها السلبي المتعاظم الذي حوّل حياة الملايين إلى يأس، وأصبح الكثير من الناس لا يشعرون بالأمان أمام هذه الأوضاع المتردية. وقد عبر النورسي عن مثل هذه النتيجة الأخلاقية المؤسفة بقوله: “فلا جرم أننا نعاني نتيجة هذا الخطأ الفادح غلظة القلب وقسوته، وانقباض الروح وظلمتها، المؤدية بمجموعه إلى تعكير صفو الأخلاق، وتلوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتنا رتيبة مملة يائسة خاوية المعنى”.(8)
ثالثا: القيمة الحضارية للنسق الأخلاقي في رسائل النور
لا شك أن الذي يطلع على رسائل النور بقلب مخلص وعقل منفتح وبصيرة نافذة سيصل إلى حقيقة أساسية وجوهرية هي أن رسائل النور في مجملها وكليتها وشموليتها وجامعيتها “درس أخلاقي إيماني كوني استخلافي إنساني عميق”. وعندما يلج هذا القارئ المخلص والواعي مسالك رسائل النور، ومداخلها النورانية القرآنية المعنوية سيتأكد تماما أن “المسألة الأخلاقية” تمثل المحور المركزي والمركز المحوري للدرس النوري وخطابه بصورة عامة.
وليس من قبيل المصادفة أو الرجم بالغيب أو الارتجال الفوضوي أن تتموقع المسألة الأخلاقية في هذا الموضع الخطير والمتميز ضمن اهتمامات الخطاب النوري، ولكن طبيعة الدرس النوري، وصلته الوثيقة بالقرآن الكريم، وبالنموذج النبوي الأخلاقي العظيم قد فرضا على رسائل النور أن تتجه هذه الوجهة الأخلاقية، وأن ترفع بقوة ثقل المسألة الأخلاقية مبينة دورها في البناء الحضاري للبشرية، وفي الصيرورة العامة للحضارة الإنسانية.
فقد أكدت لنا الخبرة الإنسانية، والمعارف الحضارية البشرية أن المسألة الأخلاقية هي أس أساسات الأفعال الحضارية والتاريخية المتوازنة في المسيرة الإنسانية، التي كان قادتها الحقيقيون هم الأنبياء والمرسلون من أول نبي عليه الصلاة والسلام إلى آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت أعظم معجزاته المشهودة على المستوى التاريخي والحضاري والاجتماعي هو أخلاقه التي جعلت منه رحمة لعالمين. والذين يسيرون في مسار النبوة وأخلاقها، ويتبنون المعنى الحرفي في حياتهم إنما يرون أن للحياة غايات أخلاقية عظيمة، وأن الأخلاق هي أساس الحياة الصالحة، أو كما يقول النورسي: “بينما الذين هم في مسار النبوة، فقد حكموا حكما ملؤه العبودية لله وحده، وقضوا أن الغاية القصوى للإنسانية والوظيفة الأساسية للبشرية هي التخلق بالأخلاق الإلهية، أي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة التي يأمر بها الله سبحانه”.(9)
فإذن ليس من العبث أن تشغل المسألة الأخلاقية هذا الحيز والموقع في الدرس النوري. فالقيمة الخلقية، والبناء الأخلاقي، والتوجيه الأخلاقي أصبح مع رسائل النور لازمة جوهرية من لوازم الإنقاذ الحضاري لإيمان البشرية، ولخدمة الإيمان والدين والحقيقة القرآنية.
ومن هذا المنطلق نلفي رسائل النور ترسم لنا صورة أخاذة وعميقة وصادقة عن الحقيقة الأخلاقية للعالم الإسلامي، فتبرز لنا البعد الإيماني الإحساني للأخلاق الإسلامية ليس باعتبارها أخلاقا نظرية فلسفية مادية وضعية، ولكنها أخلاق إيمانية شرعية عملية اجتماعية مؤثرة في الصلة بين العبد وربه، وبين العبد وأخيه، وبين العبد والكون المحيط به.
ورسائل النور حين ترسم لنا الصورة الآخذة للجانب الأخلاقي في حياة الأمة والعالم الإسلامي لا تنـزع منـزعا فلسفيا نظريا، ولكنها تتوجه نحو القلب والبصيرة والوعي والسلوك والنفس لتحرك الوجدان كله والوعي كله لتلقي الحقيقة القرآنية الإيمانية النورانية كما هي في الخطاب القرآني. فالأمة الإسلامية الحقة أمة أخلاقية، لأنها تتبنى النظرة الحرفية في الحياة والاعتقاد والفكر والسلوك والعمل. وعلى هذا الأساس فإن الحضارة والمدنية التي تشكلها الشريعة المحمدية الحرفية هي مدنية متوازنة ومتناغمة مع طبائع الفطرة ومنسجمة مع سنن التاريخ.
وفي هذا السياق يصف لنا النورسي طبيعة المدنية التي تنشأ عن النظرة الحرفية الأخلاقية فيقول: “أما المدنية التي تتضمنها الشريعة الأحمدية وتأمر بها، فإن نقطة استنادها: الحق بدلا من القوة، والحق شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلا من المنفعة، والفضيلة شأنها: المودة والتجاذب. وجهة الوحدة فيها: الرابطة الدينية والوطنية والصنفية بدلا من العنصرية والقومية، وهذه الرابطة شأنها: الأخوة المخلصة والمسالمة الجادة والدفاع فقط عند الاعتداء الخارجي. ودستورها في الحياة: التعاون بدلا من الجدال والصراع، والتعاون شأنه: الاتحاد والتساند. وتضع الهدى بدلا من الهوى، والهدى شأنه: رفع الإنسان روحيا إلى مراقي الكمالات”.(10)
والأمة الإسلامية والعالم الإسلامي في عمقه الأخلاقي ينبغي أن يكون هو التجسيد العملي لهذا الدرس الأخلاقي الذي لخصته رسائل النور تلخيصا عميقا مستنبطا من الدرس الأخلاقي القرآني والدرس الأخلاقي التطبيقي النبوي؛ إذ تبين لنا رسائل النور أن المسألة الأخلاقية لا تأخذ حيزها وموقعها وموضعها ضمن الحياة الإنسانية إلا إذا عشناها وطبقناها وتذوقنا آثارها وثمراتها، حين تتحول الأخلاق إلى الطاقة والقوة التي تبني الإنسان والمجتمع والأمة والإنسانية التي تتصف بصفتي الإحسان والاستقامة باعتبارهما من أهم معايير الصلاح الإنساني.
فنحن إذن لا نستطيع أن نفهم ونعالج المسألة الأخلاقية ضمن نسق رسائل النور إلا إذا خلّصنا مناهج دراسة الأخلاق من الأطروحات الفلسفية والوضعية والمادية وربطناها بما يسميه الأستاذ النورسي بالمنظور الحرفي التوحيدي؛ إذ بهذا المنظور تصبح المسألة الأخلاقية جوهرية لارتباطها بالإيمان والتوحيد والشريعة والاستخلاف والكون والإنسان من جهة، وتجسدها في شخص النبي عليه الصلاة والسلام وظهورها في عمق معانيها في حياته وأعماله وأفعاله وأقواله ومنهجه وسنته وسائر أحواله.
وبهذا ينقذ المنهج النوري قضية دراسة الأخلاق من التجريد والفوضى المعرفية إلى العمل الصالح والارتقاء بالوعي والعقل إلى حقائق الإيمان وتجلياتها النفسية والكونية. وبهذا كذلك يقدم لنا النورسي الأخلاق باعتبارها الحل السليم والعميق لما تعانيه الإنسانية من مشكلات.