بين القديم والجديد
إذن، فالارتباط بالهوية الإنسانية، هو المنطلق والأساس. أما التوجه إلى التفسير والتطوير واستحداث الأنماط الجديدة للحياة، فيجب أن يتم داخل هذه الهوية، وأن يكون من أجل خدمتها وحمايتها.
غير أن مشكلة إنسان الحضارة الحديثة، أنه يتطلع دائمًا إلى أي جديد تركن إليه النفس، ولو تجاوز في سبيل ذلك ذاته وتنكر لهويته، فيقع من جراء ذلك في تشاكس مع إنسانيته، وفي ثنائية مهلكة ما بين مستلزمات هويته الثابتة وأهوائه المتجددة.
ولكي نعالج هذه المشكلة، لا بدّ أن نجعل أولى خطوات المنهج المرسوم لتجديد حياتنا وتطويرها، التعرف على هويتنا، ومن ثم تجديد الارتباط بها والتمسك بمقتضياتها.
الحداثة والأصالة
ونظرًا إلى أن ميزان حديثي عن علاقة الإنسان بقطبَي الحداثة والأصالة، إنما هو الإسلام، فالهوية التي ستكون محل اعتبار لي في معالجة هذا الأمر، إنما هي عبودية الإنسان لله.
غير أن ثمة جامعًا مشتركًا بين المسلمين وغيرهم، للتعاون في حلّ هذه المشكلة، ألا وهو الهوية الإنسانية. ذلك لأن الله لم يعرّف عباده على هذا الدين منذ فجر الوجود الإنساني ولم يلزمهم به، في أصوله الاعتقادية وأحكامه السلوكية، إلا ليكون وقاية للمعاني وللقيم الإنسانية التي تميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات.
ولو علم الله أن في الفلسفات والأنظمة الاجتماعية ما يغني عن التعليمات الإسلامية التي شرفنا الله بها، لحماية الإنسانية من العبث بها والظلم لها، إذن لأمَرنا بالتوجه إلى تلك الأنظمة والفلسفات.
إذن، فحديثي الآن عن الإسلام وما قد يكون فيه من ثوابت ومتغيرات، ليس إلا حديثًا عن السور الذي يحفظ المعاني الإنسانية من العبث بها ومحاولة القضاء عليها..
إنني لم أجد داخل بنيان الحقائق الإسلامية، التي تتألف من المعتقدات العلمية والأحكام السلوكية إلا الثوابت التي لا تتغير. ذلك لأن كل ما فيه حقائق، والحقائق لا تقبل -من حيث المنطق- أي تطور أو تغيير.
غير أن وظيفة هذه الحقائق الثابتة، أنها تبعث الإنسان المسلم على أن يمارس حياته الفكرية والحضارية والاقتصادية عمومًا بطريقة متجددة، طبق نظام ثابت معين تحكمه تلك الحقائق التي لا تقبل التغيير.
ومن المهم أن نعلم أن هذه المتغيرات الفكرية والحضارية ليست داخلة في شيء من تلك الحقائق، وإنما هي من آثارها وثمارها. ومن حِكَم الله الباهرة أن الإسلام لا يمكن أن يبعث المسلمين على التجدد المستمر في حياتهم، إلا إن كان هو بحدّ ذاته -أي متمثَّلاً في حقائقه- ثابتًا مستقرًّا يتسامى على التطوير والتغيير.
وإن هذا الموجز الذي أضعه أمام القارئ لا يتسع -في إيضاح هذه الحقيقة- إلا لطائفة يسيرة من الأمثلة التطبيقية، أرجو أن تكون وافية ببيان هذه الحقيقة الهامة.
إليكم أولاً هذا المثال: إن من أجلّ مبادئ الإسلام، دوران أحكامه على رعاية مصالح الناس على أن يراعي في ترتيبها سلّم الأولويات على الشكل التالي: رعاية مصلحة الدين أولاً، فالحياة ثانيًا، فالعقل ثالثًا، فالنسل أو الأسرة رابعًا، فالمال خامسًا.
إن مما لا ريب فيه أن هذا المبدأ ترجمة لحقيقة ثابتة تستعصي على أي تطوير أو تغيير له. غير أنه يبعث على سلسلة من التطورات لا نهاية لها في نطاق التعامل مع الحياة. إنه يتطلب منا رعاية مصلحة العقل كلما كان ذلك متّسقًا مع مصلحة الحياة، ولكن المبدأ ذاته يفرض علينا تجاوز مصلحة العقل إذا كان في ذلك تهديد لمصلحة الحياة.
وكذلك مصلحة المال؛ إن هذا المبدأ يتطلب منا رعاية المال كسبًا وتنمية وحفظًا، بكل الوسائل والوجوه الممكنة، ما دام التنسيق قائمًا بين متطلبات هذه الرعاية، ورعاية المصالح الأربع التي تسبقها في الأولوية والاهتمام. فإذا قام التعارض بين متطلبات رعاية المال، وأيٍّ من تلك المصالح الأخرى وجب علينا تجاوز مصلحة المال بالقدر الذي يحقق التنسيق بينها وبين ما عارضها من المصالح الأخرى.
إن هذا المبدأ الثابت، يبعث على حركة مستمرة في تجديد العلاقات التنسيقية بين هذه المصالح، كلما قام فيما بينها أي خلل أو اضطراب. ومن الواضح جدًّا أن هذا التحرك المطرد، إنما هو ظل لذلك المبدأ الثابت، وليس هو المبدأ ذاته كما قد يتوهم بعض السطحيين.
وإليكم مثالا آخر: من المبادئ والأحكام الثابتة حرمة الغش والخداع في المعاملات المالية، وحرمة التعاملات التي تؤدي إلى استيلاد النقود من النقود دون ربط لها بالمنافع (أي الربا). إن الانضباط بهذا المبدأ الثابت، من شأنه أن يفتح السبيل إلى بدائل متنوعة كثيرة في أوجه التعامل المالي، مثل عقد المرابحة، والمضاربة، وأنواع كثيرة من الشركات وكل ما قد يستجدّ من أوجه المعاملات المالية البعيدة عن المراباة والغش والخداع.
إنه مبدأ ثابت بحدّ ذاته، ولكنه يدفع إلى استحداث ألوان وأطوار جديدة من المعاملات الاقتصادية والمالية.
وإليكم مثالا آخر: من المبادئ الثابتة اشتراط العدالة في الأشخاص الذين يتولون المناصب الحساسة كالقضاء ونحوه، وفي الأشخاص الذين يدلون بشهاداتهم في المحاكم. والعدالة في الشخص أن لا يرتكب جهرًا ما قد يخلّ بالمروءة، ويثابرَ على ذلك.
ولكن ما هو الشيء الذي يخلّ بالمروءة؟ إنه المثابرة على ارتكاب أحد المحرَّمات، أو مخالفة المألوف والأعراف الدارجة بين الناس.
إنه مبدأ وحكم ثابت في الشرع لا يتبدل، ولكنه كما ترون مربوط بتقلبات الأعراف الاجتماعية. فقد كان من مقتضى هذا المبدأ أن تسقط مروءة من يرتدي مثلاً البنطال الضيق ويمشي حاسرًا بين الناس في الشوارع العامة قبل عدة قرون لمخالفته الأعراف الدارجة آنذاك. ولكن هذه الثياب نفسها منسجمة اليوم مع المروءة كل الانسجام، فلا تمنع من شهادة ولا مِن تولِّي منصب حساس. ويقول الإمام الشاطبي -وهو كما تعلمون من أبرز علماء غرناطة- إن خروج الشخصية الإسلامية إلى الشوارع والمحافل العامة في المشرق حاسر الرأس، يسقط المروءة ويردّ شهادته، ويمنع من تبوء مناصب القضاء ونحوها. ولكن ظهور هذه الشخصية الإسلامية عندنا في المغرب بهذا المظهر لا يسيء إلى المروءة ولا يؤثر في صحة شهادة ولا يمنع من تبوء منصب.
وهكذا فقد جعل الإسلام من العرف الاجتماعي الدارج ميزانًا للياقة التي يجب أن يتحلّى بها المسلم بل كل إنسان، والتي تكسبه المروءة حسب الاصطلاح الفقهي. على أن لا يتعارض العرف مع ثابت آخر من ثوابت المبادئ الإسلامية.
حاجات الإنسان والإسلام
إذن، فالمبادئ والأحكام الإسلامية كلها ثابتة لا تنسخها تيارات الحداثة. وسبب ثباتها أنها تتجاوب مع الحاجات الإنسانية الثابتة. ولو تطورت إنسانية الإنسان لتطورت هذه الأحكام والمبادئ معها. ولكن سبل تنفيذ هذه الأحكام والمبادئ تخضع -كما رأينا- للجدة وللتطور دائمًا. وللأعراف الاجتماعية السليمة سلطان مستمر على ذلك.
وحصيلة القول أن الأحكام التي يتضمنها الإسلام كلها ثوابت لا تتبدل. ولكن صدق التمسك بأحكامه، يبعث على التطور الدائم على أن يتم ذلك برقابة دائمة من تلك الأحكام.
والبرهان الجليّ على ذلك أن المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في عصر خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا مجموعات من قبائل البادية العربية، تطوروا خلال نصف قرن في معايشهم وأساليب حياتهم كلها، أكثر مما تطوره المسلمون المتنورون في هذه القرون الأربعة الأخيرة دون أن يدفعهم ذلك التطور السريع إلى تطوير حكم واحد من أحكام الإسلام، بل كان سرّ تطورهم شدّة ثباتهم واستمرار تمسكهم بتلك الأحكام.
إذن، فالمسلمون بمقدار ما يخلصون لمبادئ إسلامهم ويثابرون على التمسك بها، تفتح لهم تلك المبادئ آفاق التطور والحداثة وتدفعهم سريعًا إليها ضمن خطة ونظام.
أرأيتم إلى العربة التي نركبها، إن الإسلام كهذه العربة. بمقدار ما تحافظ على دخائلها ونظامها تنقلك وتوصلك إلى غاياتك، فإن تبرّمتَ بها ومللتَ من مظهرها ونظامها وأخذتَ تعبث بها، توقفت وأوقفتك وخلفتك عن بلوغ آمالك.