بقلم/ زغلول النجار
الآيات السبع من خواتيم سورة يس تستدل على قدرة الله تعالى في الخلق بتلك القدرة المذهلة التي وضعها في الشجر الأخضر ومكنه من استخدام طاقة الشمس في تثبيت ذرات الكربون الموجودة في غاز ثاني أكسيد الكربون المكون للغلاف الغازي للأرض على هيئة مركبات عضوية تكوّن أهم مصادر الوقود على الأرض، حتى يمكن لكل من الإنسان والحيوان الاستفادة بها. واستخدمت الآيات هذا المثل في الاستدلال أيضا على أن الله تعالى الذي خلق هذا الكون قادر على إفنائه وعلى إعادة خلقه من جديد (أي بعثه). وفي ذلك تقول الآيات في ختام سورة يس: (أَوَلَمْ يَرَ اْلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ اْلأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس:77-83).
حقيقة علمية مبهرة
وهذه الآيات المباركات تشير إلى حقيقة علمية مبهرة، وواحدة من أهم العمليات الحيوية الأساسية، ألا وهي عملية البناء الحيوي التي يقوم بها النبات الأخضر والتي عرفت باسم عملية “التمثيل الضَّوئي” أو “عملية البناء الضوئي”.
والنباتات الخضراء قد خصها الخالق سبحانه وتعالى بصبغ اليخضور (الكلوروفيل) الملوّن لأوراق وأنسجة النباتات ذاتية الاغتذاء باللون الأخضر؛ وأعطى هذا الصبغ وغيره من الأصباغ النباتية القدرة على اصطياد وتخزين جزء من طاقة الشمس التي تصل إلى الأرض، وهي طاقة كهرومغناطيسية تتركب من موجات ذات أطوال متعددة تتحرك من أشعة جاما، إلى الأشعة السينية، إلى الأشعة فوق البنفسجية، إلى الأطياف المرئية (أو أطياف النور الأبيض)، إلى الأشعة تحت الحمراء، إلى المَوجات الراديوية بمختلف أطوالها.
وهناك ثمانية أنواع من هذه الأصباغ الخضراء التي تشبه في تركيبها الكيميائي جزيء الهيموجلوبين (الذي يعطي لدم الإنسان ولدماء كثير من الحيوانات لونها الأحمر القاني) تماما، فيما عدا استبدال ذرة الحديد المركزية في جزيء »الهيموجلوبين« بذرة مغنيسيوم في جزيء اليخضور؛ ويشير ذلك إلى وحدة البِناء كما يشير إلى وحدة الباني سبحانه وتعالى.
وتوجد الأصباغ الخضراء مادة الكلوروفيل في داخل جسَيمات دقيقة للغاية تعرف باسم البلاستيدات، ويوجد منها ثلاثة أنواع مميزة هي الخضراء والملونة بألوان أخرى والبيضاء. ويبدأ تكون كل منها من أجزاء أبسط وأدق كثيرا في الحجم تعرف باسم “البلاستيدات الأولية”.
و”البلاستيدات” هي جسيمات متناهية الضآلة في الحجم توجد في داخل الخلايا العمادية الطولية العمودية على جدار الأوراق النباتية، ولها حرية التحرك داخل الخلية لزيادة قدرتها على اصطياد أشعّة الشمس من أية زاوية تسقط بها على ورقة الشجر. والبلاستيدات جُسَيمات بوَيضية الشكل عادة، يحاط كل منها بغِشاءَين رقيقين، الخارجي منهما أملس، والداخلي متعرج على هيئة ثنيات داخلية تفصلها صفائح رقيقة جدّاً؛ وتحتوي الثنيات على الأصباغ الخضراء، بينما تفتقر إليها الصفائح الفاصلة بينها، وتحتوي البلاستيدات بالإضافة إلى الأصباغ النباتية على العديد من الأحماض الأمينية، والمركبات البروتينية الأخرى كالدهون المفسفرة وغيرها.
ويقوم الصبغ الأخضر (اليخضور) في هذه “البلاستيدات” بالْتقاط الطاقة القادمة من الشمس واستخدامها في تأيين الماء إلى “الأوكسيجين” الذي ينطلق عبر ثغور ورقة النبات إلى الغلاف الغازي للأرض، و”الإيدروجين” الذي يتفاعل مع غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو لتكوين السكريات والنشويات وغيرهما من الكربوهيدرات؛ وغاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض لا تكاد نسبته تتعدي 30%.
عملية التركيب الضوئي
وتتم عملية البناء الضَّوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء على مرحلتين؛ الأولى منهما تحدث في الضوء، والثانية تحدث في الظلام. والمرحلة الضوئية يتم فيها تأيين الماء إلى مكوناته من الأوكسيجين، ونوى ذرات الإيدروجين، وأعداد من الإليكترونات، وينطلق غاز الأوكسيجين فيها إلى الجو. وتستخدم كل من نوى ذرات الإيدروجين والإليكترونات الطليقة في المرحلة الثانية التي تتم في الظلام والتي من نتائجها تحويل غاز ثاني أكسيد الكربون إلى السكّريات والنشويات وغير ذلك من المواد الكربوهيدراتية. وعلى العكس من ذلك فإذا أحرق السكر أو أية مواد كربوهيدراتية في وجود الأوكسيجين فإنه يتحول إلى ثاني أكسيد الكربون والماء، وتنطلق الطاقة، وكأن عملية التمثيل الضَّوئي هي عملية تكوين السكر بخلط ستة جزيئات من الماء مع ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون في وجود الطاقة الشمسية ومادة اليخضور، فينتج عن ذلك جزيء واحد من السكر وستة جزيئات من الأوكسجين.
وكما يأخذ النبات من طاقة الشمس بالقدر اللازم لنموه، فيحوّل تلك الطاقة الضوئية الحرارية إلى عدد من الروابط الكيميائية بتفاعلها مع كل من الماء وثاني أكسيد الكربون فيكون مختلف المواد الكربوهيدراتية (أي المكونة من الكربون والإيدروجين) التي يستخدمها النبات في بناء مختلف خلاياه وأنسجته، ويختزن الفائض عن حاجته على هيئة النشويات البسيطة والمركبة، والسكريات المتنوعة؛ فإن النبات يأخذ كذلك العديد من عناصر الأرض والماء الصاعدين مع العصارة الغذائية التي يمتصها النبات من التربة بواسطة جذوره، وتنتقل هذه العصارة الغذائية إلى كل من الساق والفروع والأوراق عبر أوعية خاصة تعرف باسم الأوعية الخشبية التي تمتد في كل ورقة من أوراق النبات على هيئة عرق وسطي له تفرعاته العديدة التي تنقل تلك العصارة الغذائية إلى كل خلايا الورقة الخضراء، حيث يعاد تشكيلها على هيئة العديد من المركبات العضوية التي يحتاجها النبات؛ وتعود المركبات المصنعة في الأوراق الخضراء عبر أوعية خاصة تعرف باسم أوعية اللحاء لتقوم بتوزيعها على جميع خلايا وأنسجة النبات حسب احتياج كل واحد منها.
ومن المركّبات العضوية التي تنتجها النباتات الخضراء البروتينات من مثل الزيوت والدهون النباتية، والأحماض الأمينية، والإنزيمات، والهرمونات، والفيتامينات التي تسهم في بناء مختلف الخلايا والأنسجة المتخصصة من مثل الألياف والأخشاب والزهور والثمار والبذور، والإفرازات النباتية المتعددة كالمواد الصمغية والراتنجية وغيرها.
وباستمرار عملية التمثيل الضوئي تركز بلايين البلايين من ذرات الكربون المكونة لثاني أكسيد الكربون الجوي في داخل خلايا النباتات الخضراء خاصة الأوراق. وبذلك فإننا نجد أن وزن المادة الحية النباتية في تزايد مستمر. ولما كان كل من الإنسان وأعداد من الأنواع في مملكة الحيوان يتغذي على المواد النباتية ومنتجاتها، ويستخدم تلك الطاقة الكيميائية المختزنة فيها في تكوين مركبات كيميائية أخرى تختزن أجزاء من تلك الطاقة، وتحول أجزاء منها إلى طاقة حرارية وحركية وكهربائية؛ ولما كان كل من الإنسان وبعض أنواع الحيوان يأكل كلا من النبات والحيوان، فإن جزءً من طاقة الشمس ينتقل إلى هؤلاء الآكلين، وبذلك يزداد كم المادة الحية بتكرار تلك العمليات الحياتية والتي يلعب النبات الأخضر فيها دورا أساسيا، ويصل معدل الإنتاج السنوي من المواد العضوية النباتية إلى أكثر من أربعة آلاف تريليون طنّ.
وتقوم النباتات الخضراء بتثبيت أربعمائة مليار طن من الكربون المستخلص من غاز ثاني أكسيد الكربون الجوي في أجساد النباتات سنويا في المتوسط. وقد لعبت هذه العملية دورا مهما في تكوين بلايين الأطنان من الفحم الحجري عبر تاريخ الأرض الطويل خاصة في صخور العصر الفحمي (الكربوني).
والمنتجات النباتية هي مصدر الطاقة الحيوية في أجساد بني الإنسان وفي أجساد الحيوانات من آكلات الأعشاب. ومن فضلات كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون جميع أنواع المحروقات، وذلك بعد تجفيفها أو دفنها وتحللها بمعزل عن الهواء.
فالمادة العضوية في كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون أصلا من عناصر الأرض الأساسية، والماء والأوكسجين، والنيتروجين، وثاني أكسـيد الكربون.
والنبات الأخضر بعملية التمثيل الضوئي يعطي الأوكسجين لكل من الإنسان والحيوان ببثه في جو الأرض، ويأخذ منهما ثاني أكسيد الكربون الذي يبثّانه إلى جوّ الأرض، وكل من النبات والحيوان يعطي الإنسان الغذاء والطاقة ويأخذ منه فضلاته.
الدورة في الطبيعة ومساهمة النباتات فيها
والأرض تعطي كل صور الحياة مختلف العناصر التي تحتاجها، والماءَ الذي يعين على إتمام كل العمليات الحيوية. والشمس تعطي كل هذه الصور الحياتية -من نباتية وحيوانية وبَشرية- كلّ صور الطاقة التي تحتاجها، والله يهب ذلك كله من فضله وكرمه وجوده ومنّه وعطائه وبديع صنعه وعظيم حكمته. فمركبات اليخضور تختزن الطاقة في خلايا الشجر الأخضر، ويقابلها في الخلايا الحيوانية جسيمات الميتوكوندريا التي تستهلك الطاقة المأخوذة من أي من النبات أو الحيوان أو منهما معا.
وعند جفاف الشجر الأخضر وغيره من النباتات الخضراء فإنها تتحول إلى أغلب مصادر الطاقة الطبيعية تقريبا ماعدا الطاقة النووية، وطاقة الرياح، وطاقة المدّ والجزر، والحرارة الأرضية، والطاقة الشمسية المباشرة. والطاقة في الشجر الأخضر أصلها من طاقة الشمس. فعند جفاف النباتات الخضراء تتحول بقاياها إلى الحطب أو القش، أو التِّبن، أو الخشب، أو الفحم النباتي إذا أحرق ذلك بواسطة الإنسان في معزل عن الهواء.
وإذا دفنت البقايا النباتية في البحيرات الداخلية أو في دالات الأنهار أو في الشواطئ الضحلة للبحار دفنا طبيعيا فإنها تتفحم بمعزل عن الهواء متحولة إلى الفحم الحجري. وإذا زاد الضغط والحرارة على الفحم الحجري في باطن قشرة الأرض فإنه يتحول إلى غاز الفحم الطبيعي.
وعندما تتغذى الحيوانات البحرية، خاصة الدقيقة منها، على النباتات الدقيقة أو على فتات النباتات الكبيرة ومنتجاتها الدقيقة فإن طاقة الشمس المختزنة في تلك النباتات وفتاتها تتحول في أجساد الحيوانات إلى مواد بروتينية من الزيوت والدهون الحيوانية التي تتحلل بمعزل عن الهواء إلى النفط والغاز الطبيعي المصاحب له. وكلما زادت الحرارة والضغط على النفط المخزون في قلب قشرة الأرض تحول بالكامل إلى الغاز الطبيعي. وكل هذه المواد من مصادر الوقود الذي يحرق طلبا للطاقة الحرارية الكامنة فيه، فيتحد أوكسجين الجو مع الكربون المتجمع في تلك المصادر من مصادر ا لوقود محولا إياه إلى غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق عائدا مرة أخرى إلى الغلاف الغازي للأرض.
وبذلك فإن الطاقة التي استمدها الشجر الأخضر من أشعة الشمس الواصلة إلى كوكب الأرض، فانتزع بها ذرة الكربون من جزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض، هي نفس الطاقة التي تنطلق على هيئة اللهب الحار الناتج عن احتراق أي من مصادر الطاقة تلك في أوكسجين الغلاف الغازي للأرض (من مثل الخشب، أو الحطب، أو القش أو التبن أو الفحم النباتي أو الحجري أو الغاز الفحمي أو النفط أو الغاز الطبيعي، أو غاز الميثين الناتج عن تحلل الفضلات بصفة عامة) وبذلك تتحد ذرات الكربون المختزنة في تلك المصادر المتعددة للطاقة بذرات الأوكسجين الموجودة في الغلاف الغازي للأرض لتعود إليه على هيئة جزيئات ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى وتنطلق الطاقة.
وعلى ذلك فإن عمليات الاحتراق على سطح الأرض هي عمليات أكسدة لذرات الكربون المختزنة في المواد العضوية لمختلف أشكال الوقود لتعود مرة أخرى على هيئة ثاني أكسيد الكربون الجوي كما كانت في أول الأمر؛ وهي تشبه عملية التنفس في كل من الإنسان والحيوان، حيث يستفاد بالأوكسجين الموجود في الغلاف الغازي للأرض في أكسدة ذرات الكربون الموجودة في المواد الغذائية لتتحول إلى ثاني أكسيد الكربون الذي انتزع أصلا من الغلاف الغازي للأرض بواسطة النباتات الخضراء.
مما سبق يتضح المضمون العلمي للآية الكريمة التي فهمها أهل البادية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخشب أو الحطب، أو بكل من المرخ والعفار؛ ونفهمها اليوم في إطار كل صور الطاقة ذات الأصل العضوي من النفط والغاز المصاحب له، إلى الفحم الحجري والغازات المصاحبة له، إلى الفحم النباتي، والخشب والحطب والقش والتبن وغير ذلك من الفضلات النباتية والحيوانية التي يلعب الدور الرئيسي في تكوينها الشجر الأخضر وما وهبه الله تعالى من قدرة فائقة على احتباس جزء من طاقة الشمس يعينه على تأيين الماء، ثم اقتناص ذرات الكربون من غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود بنِسب ضئيلة جدّا في الغلاف الغازي للأرض لا تتعدي 30%، وذلك بواسطة أيون الإيدروجين الناتج عن تحلل الماء، وإطلاق الأوكسجين إلى الغلاف الغازي للأرض، وكأن حركة الطاقة على الأرض، أو بالأحرى حركة الحياة تتلخص في تبادل ذرة الكربون بين النبات والحيوان والإنسان؛ يأخذها النبات من الغلاف الغازي للأرض بعملية التمثيل الضوئي ويهبها لكل من الإنسان والحيوان والأرض، ثم يطلقها كل من الإنسان والحيوان إلى الغلاف الغازي للأرض بعملية التنفس. وبين العمليتين يختزن لنا ربُّنا عز وجل كمّا هائلا من مختلف مصادر الطاقة تختزن فيه ذرات الكربون التي أخذها الشجر الأخضر من الجو وأعطاها للأرض إما مباشرة أو عن طريق راقات هائلة من الفحم أو مخزونا ضخما من النفط والغاز حتى يحرقه الإنسان فيرده مرة أخري إلى الغلاف الغازي للأرض.
فسبحان القائل: (اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يس:80)، والقائل: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِحْ بِاسْمِ رَبِكَ الْعَظِيمِ)(الواقعة:17-47).