أنقرة (زمان التركية) – أصدرت السلطات في تركيا قرارات اعتقال بحق 44 قاضيا ومدعيا عاما، بتهمة استخدام تطبيق “باليلوك” للتراسل الفوري، والانتماء إلى حركة الخدمة.
وقال بيان صادر من مكتب المدعي العام في أنقرة، إن معظم المشتبه بهم يُعتقد أنهم ارتقوا إلى مناصبهم القضائية بعد استفادتهم من تسريب أسئلة امتحانات مهنية في عام 2011، على حد زعمه.
وأوضح البيان أن جهود المطلوبين مستمرة في 23 مدينة تركية.
كما زعم البيان ثبوت استخدام المشتبه بهم تطبيق “بايلوك” الذي تتهم الحكومة من يستخدمه بالانتماء لحركة الخدمة، وتزعم أن مخططي انقلاب 2016 استخدموه.
وتتهم السلطات التركية حركة الخدمة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا منتصف يوليو 2016، دون تقديم أي دليل مادي على هذا المدعى.
واستغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانقلاب، وفصل عشرات الآلاف من الموظفين العموميين تعسفيًا، من في القضاء والشرطة والجيش بجانب المعلمين.
وتقول المعارضة التركية إن الحكومة هي من دبرت انقلابا على ذاتها لخلق الذريعة المطلوبة لاستهداف مجموعة واسعة من المعارضين، كما سبق أن أحرق هتلر البرلمان الألماني من أجل الغرض ذاته.
وكان القاضي السابق كمال قرنفيل قد نشر مؤخرًا وثيقة تثبت أن عضو المحكمة العليا الـ16 يوسف حقي دوغان اعترض على هيئة القضاة الآخرين الذين وافقوا على الاعتقالات بتهمة استخدام تطبيق بايلوك الهاتفي، قائلا: “لو اعتبرنا تحميل بايلوك دليلا مستقلا للإدانة لوقعنا في مكيدة على الساحة الدولية حيث يقولون بأن بايلوك إحدى أنظمة تواصل ويمكن أن يستخدمه الجميع دون أي مشكلة”.
وفيما يلي القسم المتعلق بتطبيق بايلوك من كتاب “قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني” للكاتب التركي المخضرم والمحلل السياسي يافوز آجار:
يذكر أن الرئيس أردوغان خرج على الشارع المحلي والدولي معلنًا فتح الله كولن “العقل المدبر” للانقلاب الفاشل في وقت كانت أحداث الانقلاب الفاشل ساخنة، ليطلق في صبيحة تلك الليلة حركة تطهير وتصفية غير مسبوقة في أجهزة الدولة كافة، بل شملت القطاعات الخاصة أيضا، ولم تهدأ تلك العمليات على الرغم من مرور أكثر أربع سنوات.
ثم أقبل إعلام السلطة بنوعيه الرسمي والخاص على نشر وثائق نسبها إلى جهاز المخابرات التركي حول محتويات المراسلات والمكالمات السرية التي زعم أنها جرت بين الانقلابيين عبر تطبيق “بايلوك”، الوثائق التي قدمها أردوغان دليلا على وقوف حركة الخدمة وراء هذا الانقلاب. ورغم أنه كان مجرد تطبيق للتواصل مثل نظيراته من عشرات التطبيقات للمحادثات مثل “واتس آب” و”فيبر” و”لاين” و”وي تشات” و”سكايب” و”إيمو” و”بي بي إم” وغيرها، إلا أنه كان أحد الدليلين الرئيسيين اللذين اعتمد عليهما أردوغان في اتهامه لحركة الخدمة بتدبير المحاولة الانقلابية.
ثم ظهر العسكريون المتهمون بالمشاركة في الانقلاب على الشاشات التلفزيونية بعد إفشال الانقلاب وإلقاء القبض عليهم، بادية على وجوههم وأجسامهم علامات التعذيب، لينقل إعلام “السلطة” عن أفواههم اعترافاتهم بجريمتهم وانتسابهم إلى حركة الخدمة! بمعنى أن أدلة الرئيس أردوغان على وقوف الخدمة وراء الانقلاب اقتصرت على عنصرين أساسين لا غير وهما: مراسلات ومكالمات الانقلابيين على تطبيق بايلوك واعترافات المتهمين.
لكن هؤلاء المتهمين أعلنوا في أول مثول لهم أمام المحكمة انتسابهم إلى “التيار القومي الأتاتوركي”، وأنهم لاعلاقة لهم بحركة الخدمة، مؤكدين أن رئيس الأركان خلوصي أكار كان رأس المجلس العسكري الانقلابي، وأنهم لم يفعلوا شيئًا سوى تنفيذ الأوامر الصادرة من رئاسة هيئة الأركان العامة.
ومع أن أردوغان زعم أن تطبيق بايلوك كان “الوسيلة السرية لتواصل الانقلابيين”، و”لا يستخدمه إلا المنتمون إلى حركة الخدمة”، و”لا يمكن تحميله إلا من خلال واصلة أو بلوتوث”، وكل عمليات الاعتقال والفصل تجري بتهمة استخدام هذا التطبيق وإن لم تكن مشاركة فعلية في محاولة الانقلاب، إلا أن صحيفة “حريت” التركية نشرت في أكتوبر ٢٠١٦ حوارا في افتتاحيتها أجرته مع ديفيد كينز؛ صاحب برنامج وتطبيق بايلوك، حيث أكد أن التطبيق توقف تداوله وطرحه في كل من Google Play وAppstore منذ شهر يناير / كانون الثاني من عام ٢٠١٦، أي قبل ستة أشهر من وقوع الانقلاب الفاشل، وأن التطبيق نزله حوالي ٦٠٠ ألف شخص، وهو مفتوح للجميع، وليس مقتصرا على المنتمين إلى حركة الخدمة، كما زعم أردوغان.
ومن المثير أن السلطات القضائية بادرت بعد ظهور هذه الحقائق إلى فتح تحقيق مع صحيفة حريت بسبب نشرها هذا الخبر، وقد أوصل إعلام أردوغان الأمر إلى حد اتهام الصحيفة المعروفة بعلمانيتها طيلة تاريخ الجمهورية بالانتماء إلى منظمة فتح الله كولن.
ثم نشرت الصحف التركية تقريرا أعدته المخابرات التركية يتناقض مع أطروحات أردوغان حول تطبيق بايلوك. ومع أن التقرير أعد أصلا من أجل الدعاية السوداء ضد الخدمة، وتقديم أدلة جديدة تساند نظرية وقوفها وراء الانقلاب الفاشل، إلا أن “قراءة ما بين السطور” تكشف أن المخابرات التركية تعترف بشكل صارخ بأن التطبيق يمكن أن يحمله أي شخص من Google Play المفتوح للجميع. بمعنى أنها نفت مزاعمها السابقة التي ادعت فيها أنه لا يمكن تحميله إلا من خلال واصلة أو بلوتوث، وأنه خاص بأفراد حركة الخدمة، كما أقرت بأن هذا التطبيق قد بدأ عرضه على المستخدمين عبر Google Play منذ بداية عام ٢٠١٤ حتى مطلع عام ٢٠١٦، أي انتهى عرضه قبل ٦ أشهر من الانقلاب الفاشل، التقرير الذي أيد تصريحات صاحب التطبيق وأسقط مزاعم أردوغان.
وحتى لو افترضنا صحة مزاعم أردوغان حول تطبيق بايلوك، فإن جميع عمليات الاعتقال بتهمة استخدامه تعسفية وغير قانونية، ذلك أن هذه المزاعم مصدرها المخابرات التركية التي سبق أن أعلنت بشكل رسمي “أن الوثائق والتقارير الاستخباراتية التي نقدمها لمؤسسات الدولة الأخرى، والتي نعدها بعد تقييم وتفسير الوثائق والمعلومات التي تأتي إلى جهازنا من مصادر مختلفة، لا يمكن استخدامها كأدلة قانونية”.
وأضف إلى ذلك أن خطابًا أرسله جهاز الاستخبارات في ( 25/5/2017) إلى وزارة العدل اعترف بحدوث خطأ كبير في البيانات الخاصة بمستخدمي تطبيق بايلوك، محذرًا من أن القائمة الخاصة بمستخدمي التطبيق قد تكون غير دقيقة، بسبب إمكانية مشاركة الإنترنت مع الآخرين عن طريق الشبكات اللاسلكية “واي فاي”، إلا أن الوزارة اكتفت بإرسال نسخة من هذا الخطاب إلى محاكم الجنايات المختصة في تاريخ 13/7/2017 فقط، من دون تصحيح الأخطاء الواردة في هذا الصدد بشكل دقيق، وإزالة المظالم التي تعرض لها عشرات الآلاف من المواطنين وتعويضهم.
وبعد ظهور هذا “الخطأ” أقبلت المحاكم المشرفة على قضايا الانقلاب الفاشل على إصدار قرارات الإفراج عن آلاف المعتقلين والمعتقلات بتهمة استخدام هذا التطبيق، وأوضحت السلطات أن هناك حوالي ١٢ ألف شخص تم اعتقالهم بالخطأ!
من جانب آخر، كشف المحامي الشهير مراد آكّوتش عن مبادرة جهاز المخابرات إلى إخراج 278 ألف شخص من قائمة مستخدمي “بايلوك” البالغ عددهم 493ألف و512 شخصًا وفق قائمة المخابرات دون اتباع أي معيار موضوعي، وهو أمر يكشف أن الأسماء الواجب اعتقالهم أو فصلهم من مؤسسات الدولة تم تحديدهم من قبلُ طبقًا لقوائم التصنيفات الأيديولوجية المعدة مسبقًا على نحو لا يشمل الوزراء ونواب الحزب الحاكم وأنصارهم.
ومن ثم هناك عشرات من التقارير صدرت من مؤسسات دولية معنية بحقوق الإنسان أكدت مخالفة الاعتقالات القائمة على استخدام هذا التطبيق، نذكر منها القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة فقط.
الأمم المتحدة: استخدام بايلوك ليس بجريمة!
الأمم المتحدة أصدرت تعقيبًا في ١٨ أكتوبر ٢٠١٨ حول هذا التطبيق، بعد التدقيق والتحقيق في شكوى تقدم بها مواطن تركي يدعى مَسْتان يايمان، أكدت فيه أن كل الأحكام القضائية والإجراءات المتخذة من فصل واعتقال ومصادرة على أساس استخدام تطبيق بايلوك مخالفة للقانون، وأن مجرد استخدامه لا يمكن اعتباره دليل إدانة إن لم تكن هناك أدلة إدانة أخرى.
وعلى الرغم من أن السلطات التركية تصف بايلوك بـ”التطبيق المشفر للرسائل النصية”، وتضفي عليه أسرارا في نظر الرأي العام، بهدف توجيه الاتهامات العشوائية للمواطنين بكل سهولة، إلا أن الرأي الذي أصدره “فريق الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي” وصف التطبيق بأنه “تطبيق عادي للمحادثة”، وأن المراسلة وتبادل الأخبار والمعلومات والآراء من خلاله تقع ضمن “حرية التفكير والتعبير عن الآراء”، ولا يمكن اعتباره جريمة.
واعتبر الفريق الأممي الإدانة بسبب استخدام بايلوك مخالفًا للمادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان -التي تركيا طرف فيها- والذي ينص على أن “لكل إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقي وتقديم المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة، وبصرف النظر عن الحدود الدولية”.
ومع أن الحكومة التركية قدمت لفريق الأمم المتحدة في ٧ يونيو ٢٠١٨، الأسبابَ التي تقتضي قبول استخدام تطبيق بايلوك دليل إدانة، بحسب رأيها، والأحكامَ القضائية التي أصدرتها المحاكم التركية، لكن الفريق رفض كل هذه الحجج وقضى بأن استخدامه لا يشكل أي جريمة، ولا يمكن إجراء محاكمات بالاستناد إلى الادعاءات التي يتم الحصول عليها عن طريق الوصول إلى مراسلات المستخدمين عبر التطبيق.
ومن اللافت أن فريق الأمم المتحدة انتهى إلى أن استخدام بايلوك لا يمثل جريمة بمفرده، دون الشعور بالحاجة إلى التدقيق في موضوع حصول السلطات التركية على المعطيات الخاصة بتطبيق بايلوك عن طرق غير قانونية، وعدم إمكانية الوثوق في صحتها، بل قضى بأن إجراء المحاكمات استنادًا إلى بايلوك مخالف للقانون ولو كانت المعلومات المتحصلة صحيحة ما لم تثبت أدلة إدانة أخرى.
تعويضات كبيرة لضحايا أردوغان
لقد سجل الفريق الأممي من خلال هذا الرأي أن تركيا شهدت انتهاكات كثيرة في ظل حالة الطوارئ التي أعلنت بحجة التصدي للانقلاب الفاشل، ثم أصبحت وسيلة لإصدار قرارات مخالفة للدستور والقانون، وذلك بالاعتماد على أحكام “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي تبنته الأمم المتحدة في ١٠ ديسمبر ١٩٤٨، و”العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” (١٩٦٦) الذي تركيا طرف فيه أيضًا. (354)
وفي إطار تعليقه على قرار الأمم المتحدة، أشار المحامي التركي المعروف نور الله ألبايراق إلى أن المحكمة الدستورية، وكذلك المحاكم الأخرى في تركيا، بالإضافة إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ستضع هذا القرار نصب أعينها وستصدر أحكامًا تقرّ بحدوث انتهاكات في عمليات الاعتقال والفصل القائمة على أساس تطبيق بايلوك، لافتًا إلى أن المتضررين من هذه العمليات سيحصلون على تعويضات كبيرة في المستقبل.