بقلم: صالح القاضي
القاهرة (زمان التركية) – الإنسان مصدر المشاكل ومنبع الحلول، إن أكبر مشكلة تواجه إنسان هذا العصر هي عدم شعوره بمعنى لوجوده، الأمر الذي يجعله يتجرع العديد من الآلام، فمرة يحاول أن يشبع غرائزه المادية فيكتشف أنها تصبح بلا معنى، وتورثه الكثير من الألم المادي، فمع انتهاء كل لذة تتولد آلام فقدانها وتدور الدائرة بين لذة وألم، ويبحث عن معنى فلا يجد فيحاول أن ينغمس أكثر في تلبية غرائزه الفانية، فلا تنسيه، ويحاول أن يتتبع خيالاته وأوهامه في رغبة منه أن يجد هدفا يقيم به فراغه فيخلق من أوهامه وغرائزه ولهوه هدفا يدافع عنه تحت مسميات مختلفة.
تؤرقه ملذاته التي تشكل حياته أو التي يجري وراءها لاهثا أغلب الوقت طلبا في تحقيق أكبر كم منها، ثم ينظر تجاه الدين فإذا به يجده يرشد إلى الطريق الصائب ولكنه –للأسف- يأبى إلا أن يقف ضد الصواب، فنفسه تعودت أن تتبع هواها، ثم لا يكتفي بالاعتراض على الدين الذي يخبره بوجود حساب وعقاب، فإذا به يحاول أن يختلق أوهاما يتمسك بها لينفي وجود الخالق، ويمضي في طريق ملؤه الشهوات، تحت مسمى “الحرية” فينقلب عبدا لشهواته.
ثم إنه لا يجد الراحة ولا تعرف له طريقا، يعيش في خوف انتهاء اللذة وانتهاء الحياة، ويدخل في دوامة ملؤها الشرور والآثام، إن مشكلة إنسان هذا العصر أنه أصبح فريسة لرغباته الدنيوية، ثم أريد لتلك المأساة أن تعمم على جميع البشر حتى يذوقوا زقومها، ولتتجرع الإنسانية من كأس مرارتها، فإذا بتأصيلات فلسفية وأخرى اجتماعية وثالثة علمية، كلها تحط من معنى الإنسان بصورة أو أخرى، فتحت مسمى الحرية الجسدية يرتكب الإنسان في حق نفسه جرائم لا تصدق من تشويه للجسد برسم الأوشام حتى الانتحار بدعوى حق الحرية في الجسد، وتحت مسمى حرية الرأي يتم ترويج الأوهام والاعتداء على المقدسات بدعوى أنها أوهام، وتحت مسمى الحرية يتم إقناع الإنسان بأنه يجب أن يدافع عن صفاته السيئة بدعوى أنها طبيعة فيه، وماذا كانت الثمرة التي جنتها البشرية عبر الخمسين سنة الماضية؟
لقد صدق الاستاذ سعيد النورسي عندما قرر منذ قرابة ١٠٠ عام بأن كل خطيئة تفتح بابا على الكفر والعصيان، فالنتيجة التي نحياها بصورة عامة هي فقدان الإنسان لمكانته التي خلق لها أصلا، فبدلا من أن يصبح خليفة الخالق على المخلوقات، إذا به يصبح تهديدا للمخلوقات يستنزف الثروات، ويلوث الأرض والبحر والهواء بدعوى التقدم، يبيد الكائنات من أجل لذاته الثانوية، والنتيجة اختلال في كل توازن عرفته الأرض. أما عن الإنسان المجتمع فأصبح منقسما حتى في أصغر خلاياه، فالزواج فكرة مزعجة، فما الحاجة إليه، والأسرة أصبحت فكرة من الماضي، فازدادت حالات الطلاق، وأيضا زاد الانحلال الأخلاقي، زادت تلك الظواهر لتصبح هي القاعدة ويتحول الوضع الأصلي إلى شيء مستغرب، مع اختلاف بسيط في النسبة بين مجتمع وأخر.
إننا في حاجة ماسة للم شمل الإنسان بروحه وقلبه ووجدانه وهدفه الذي أضاعته الأوهام، نعم لقد مل الإنسان من تلك الدوامة وخرجت العقول المنصفة على مدار سنوات تنادي بأن ما نحياه يهدد معنى إنسانية الإنسان ومعنى وجوده الحقيقي، وأن الإنسان الذي لا يبحث عن معنى وجوده وغايته في الحياة يعيش ما يمكن أن يطلق عليه وجودا زائفا، وبينما كان هناك فريق من المفكرين في بداية القرن الماضي تتحدث بأن العلم هو خلاص الإنسانية، وأنه دين القرن الواحد والعشرين، وجدنا العلم والتكنولوجيا تستخدم كأداة لتجريد الإنسان من معناه. أما أنصار عبادة العلم فهم كل يوم في واد يهيمون بين نظريات تهدم بعضها بعضا، وتهدم معها ما تبقى من صرح الروح الإنساني، وما ذلك بهدف العلم الحقيقي ولا مكانه، بل هو يدرج تحت سوء استخدام العلم.
إن الإنسانية تحتاج إلى إعادة التفكير في كل شيء، وإلا سنستيقظ يوما على عالم يحكمه قانون الغابة، بل إن الغابة بقوانينها ستعد جنة بالنسبة لذلك العالم الذي ستحكمه القسوة وعصبيات مختلفة لا تبحث عن ذات الحقيقة بل عن ترسيخ الوهم والتربح من وراء معاناة سيعيشها كوكبنا وكل من يحيى عليه.
نحتاج إلى فهم غاية وجودنا لنحيا بوجود ذي معنى، نحتاج إلى فهم الغاية من وجودنا لنسعى إلى تحقيقها، نحتاج إلى فهم معنى الحرية، ونحتاج أن نعي مسؤلياتنا تجاه أنفسنا وتجاه خالقنا وتجاه المخلوقات، ونحتاج إلى إعادة ترتيب للعقل والوجدان. باختصار إننا في أشد الحاجة لنور ينبعث في وجداننا ليبدد ظلمات ما نحياه من ظلم لإنسانيتنا. أن تكون إنسانا يعني أن تكون مسؤولا عن إنسانيتك في كل اختيار تقوم به، وبعكس ذلك تسود الفوضى وتنقلب المعايير الواحد تلو الأخر .
نعم وسط تلك الصورة القاتمة يملأ قلبي الأمل في غد تشرق فيه شمس الإنسانية الحقة، الإنسانية التي تحكمها الرحمة ويسودها الترابط والشعور الحقيقي برابطة الأخوة مع كل المخلوقات، إنسانية تسارع في الخير وتستخدم في ذلك كل أداة ممكنة، إنسانية رغم أهوائها التي لا تنتهي تختار التعالي على تلك الرغبات الدنيا لأنها تشعر بكامل مسؤليتها تجاه إنسانيتها.