أمين يهوذا / محاضر بقسم اللغة العربية جامعة ولاية كدونا، نيجيريا
نيجريا (زمان التركية) – منذ مُضِيّ والدي العزيزين عليّ لم أشعر بأن بعضي تساقط عني إلا مع وصول نعي الرجل الذي جمعني به الحظ السعيد لأتعرف على خدمة تنساب رقراقة في رئتي أفريقيا التي حوّلها بعض أبنائها مع مساعدة الغريب لتتنفس مختنقة، تشرفتْ يوما مدينة زاريا بهبوط قدميه الجولتين على تربتها العبقة، فحملقت عيناي من بعيد إلى بشرة بيضاء لتعكس لك كلما اقتربت إليها صفاء نفسه الطاهرة الأبيّة التي تواضعت منكسرة أمام أهداف ربانية سماوية ظلت تُهطل من غمائمها غيث التفاني في المشروع والتضحية في العمل والجودة في الصنع والدقة في الأداء والجمال في المنظر، وكأنما تتدلى فيها جلية لوحات المقولات الذهبية القائلة “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” و “إن الله جميل يحب الجمال”، وكلما وطأت قدماه تربة تحولت التربة طاهرة بعطور الخدمة الفواحة وليهاتف ساكنيها بجوالة روحه قبل جوالة هاتفه، فتهرع إليه منقادة سعيدة.
تعرفت عليه على ومضة، لكن التعرف تجدد بين جدران قاعة جماعة نصر الإسلام، كدونا في مؤتمر دار حول كتاب “النور الخالد” محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة للإنسانية، وتلقت قلوب الحاضرين عبارت نورانية بعَبَرات وجدانية فانفتحت القلوب بفتح الله وكان هو اللغز، وقبل أن تنقطع لواعج الشوق أشعلها من جديد بلقاء أبوجا، ومن خلاله تُوّجت بشرف إعداد لائحة مسابقة كتابة مقال عن “النور الخالد” من الأعمال التي أتقرب بها إلى رب العالمين معززا، فأعتبر هذا العمل قنطرة مدها “بيدار” على ضفاف الحب والود لأتعرف عليه عن كثب، من خلال هذه الفترة كأني أستطيع فك لغز فتح الله ولكن…. كمْ هو بعيد وعميق…. ولم أتمكن من فك اللغز من طلابه الذين أعايشهم فكيف هو.
ومن هذا السلم البهيج أخذت أتسلق إلى شجرة الخدمة وأقتات من ثمار كتبها اليانعة، ومن أحلى هذه الثمار ما سطره الدكتور فريد الأنصاري في كتابيه الذهبين، “آخر الفرسان” و “عودة الفرسان” حيث تجسدت فراسة الأنصاري على طلاب كولن قبله هو، وما زلت أتسلق من غصن إلى غصن أقتات منها حتى استطعت أن أقرأ الكثير عن الأستاذ خاصة وعن الخدمة عامة، وأدركت أنها استنفار جماعي يمشى متطفلا على مائدة تعاليم سيدنا رسول الله والسلف الصالح وفق التحديات التي تحيط بالمجتمعات المسلمة، بالإضافة إلى ذلك أنها خدمة تتفرع إلى ثلاثة أفرعة: الجانب التعليمي وجانب حوار الأديان وجانب العون الإنساني.
حتى لا أنْشَطّ بعيدا عن أيقونتي فإني تعلمت منه الكثير والكثير، تعلمت منه أن العمل الإسلامي بحاجة أكثر للإخلاص الصادق المنقطع النظير والتخطيط الدقيق الصادر من وحي الواقع بعيدا عن التكابر عليه، ومنه تحققت مقولة سيدنا رسول الله “المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا” ظل يعيش من أجل رسالته في سقيفة أهل الصُفّة بعيد حريمه وأولاده وأسرته الكبيرة دون أن يفقد الحنين إليهم من أجل يد الظلم تترصد به سنوات… يا له من بطل!!! فقد تحدى اللغات جميعها لأنه يتقن العمل وإيصال رسالته بها دون أن ينطقها في أدغال إفريقيا، ومن أعظم ما كرمه الله به أنه لايحسن الكلام كثيرا مع أنه مسكون بروح مرحة لكنه يحسن العمل ويتقنه إلى أبعد مدى، فقد عمت مؤتمراته وندواته ولقاءاته ربوع نيجيريا شمالا وجنوبا، وأرسل مجلة حراء على قدميها إلى كل المؤسسات لئلا يحرم نفوسا عطشى من مضامينها قبل عباراتها العذبة، ولا أنسى… ولن أنسى كيف وضع لبن أساس أكاديمية التلال الزمرية في كدونا طن بُوشِيَا وسقاها بماء إخلاصه حتى استوت واستغلظت على سوقها تُعجب كل الناظرين.
أيقونة الجمال… لو أملك عبارات حيال غيابك عني لأنفدتها في الثناء عليك وذكر خصالك ومنّك عليّ لاطلاعي على شيء من الخدمة، ولو أملك عَبراتٍ ترافقك مدى الحياة لأظل أبلّ تربة ضريحك الطاهرة، ولو أملك البقاء لأبقيتك طويلا حتى تتم حلقاتك البهية في الحياة، لكنك رحلت عنا كأن لسان حالك يقول حمّلت عنكم طغيان كورونا فلم يعتد على أحد بعدي. أيقونة الجمال… فلتعلم أنك بعض نفسي، لقد رحلت ببعضي وسأُبقي لك البعض الباقي مخلصا…
ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون…
فلتهنأ عينك بمجاورة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.