بقلم: صالح القاضي
القاهرة (زمان التركية) – في البدء كانت الكلمة، وبقوة الكلمة خلقت المخلوقات، ثم كان الإنسان وقدرته على الانفعال والتفاعل بالكلمة، ولهذا كانت الكلمة مسؤولية.
إن حرية الرأي والتعبير أحد أهم تجليات إنسانية الإنسان، ولأن المسألة تعد من الأهمية بمكان؛ فقد حاول الإنسان دائما أن ينال تلك الحرية، ويعبر عن رأيه، ويحاول أن يوصل فكره واعتقاده للآخرين باعتبار أن هذه العملية تمثل تجليا للذات الإنسانية الفاعلة في الوجود. وعلى مدار عقود وعقود حاول الضمير الإنساني أن يفسح المجال أكثر لحرية التعبير حتى يستطيع كل صاحب فكر أن يعبر عما يرى فيه مصلحة ونفعًا للإنسانية على مستواها الفردي والاجتماعي والعالمي. وكان دائما هناك زمرة تريد أن تسيطر على الكلمة وتقيدها وتوجهها، بل وفي بعض الأحيان كانت الكلمة هي السبب الرئيس للتحريض على كل ما لا يتوافق مع حق الإنسان في إنسانيته.
ولكن من جانب آخر، كان هناك تلك الزمرة التي تريد أن تجبر الآخرين على الاعتقاد فيما تعتقد وفيما تؤمن دون اعتبار لحرية الآخرين على تكوين رأي وفكر خاص بهم. فهذه الزمرة دائما ترى أنها أعلى من الجميع، وكأنها تقول (ما أريكم إلا ما أرى)! ورغم أن محاولات تقييد الكلمة والفكرة باءت في أغلب الأحيان بالفشل الذريع، بل كانت النتيجة هي تكريم هؤلاء الذين أخلصوا لإنسانيتهم وعبروا عن آرائهم، وكانوا دائما مخلصين لرسالتهم رغم التهديدات التي كانوا يتلقونها. وفي هذا السياق، نستطيع أن ننظر إلى الأنبياء بأنهم اضطهدوا وهجروا وقتلوا في بعض الأحيان بسبب تمسكهم بحرية الرأي والاعتقاد، وبالطبع التاريخ الإنساني يحتفظ بسجل زاخر من شهداء الرأي.
إننا اليوم نعيش في عصر وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، حيث يستطيع كل إنسان أن يعبر عن رأيه دون حد أو شرط أو هكذا يظن أغلب البشر. نعم فوسائل التواصل الاجتماعي تعطي للشخص مساحة للرأي مقابل أن تتجسس على كل تحركاته! والأمر ليس مجازيا، فهي لا تكتفي بالتجسس على الأفراد مجردةً إياهم من حقهم في الخصوصية، بل إنها تقوم ببيع معلوماتهم لشركات أخرى لا يعلم أغراضها سوى الله. والعجيب أن يرضى الإنسان أن تصبح خصوصيته سلعة تباع وتشترى. الأمر لا يقتصر على هذا، فهذه الوسائل تخلق وعيا وأفكارًا قد تضر بالمجتمع الإنساني ودون حساب أو مراقبة، إذ يرى جميعنا تأثير هذا التوجيه للأفكار على الجيل الحالي من الشباب ذوي علاقة الإدمانية بوسائل التواصل الاجتماعي. ورغم أن العديد من الدراسات السيكولوجية والاجتماعية تحذر من كثرة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه الدراسات تظل حبيسة الأوراق، لعدم وجود إرادة جمعية تطالب بعقد ميثاق شرف لعمل وسائل التواصل الاجتماعي.
نعم إننا اليوم نستطيع أن نعبر عن أفكارنا بحرية على وسائل التواصل، ونستطيع انتقاد سياساتها، ولكن يوما بعد يوم وإن تركت تلك الوسائل بإجبارنا نحن البشر على شروطها دون قيد أو شرط أو وسيلة بديلة عادلة في شروط وأحكام استخدامها، فلن يجد صاحب الرأي مكانا لرأيه إن كان يخالف رأي أصحاب تلك الشركات، بل لن يستطيع أن يوصل رأيه للآخرين. إننا في حاجة ماسة للتخلص من ابتزاز وسائل التواصل الاجتماعي، فماذا سيكون شعورك، عزيزي القارئ، إن استيقظت صباحا ووجدت أن حسابك الشخصي على وسائل التواصل قامت الشركة بحجبه، وقد سرقت كل بياناته الشخصية، بما فيها حساباته البنكية؟ أو دعوني أوجه سؤالا سيطرح في المستقبل: كيف يمكن لنا أن نثق في برلماني يمكن أن يتعرض للابتزاز الفكري من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؟
هذه التساؤلات وغيرها تراود الفكر، وفي نفس الوقت أشعر ببالغ الأمل في ظهور حركة عالمية تنادي بوضع قوانين حاكمة لشركات وسائل التواصل الاجتماعي وعدم السماح لها بالتلاعب بالبشر.