القاهر ة (زمان التركية) – حصل طالب الدراسات العليا ريان أحمد من نيجيريا على المركز الثالث في مساقبة فنون الكتابة التي نظمها مركز تطوير تعليم الطلاب الوافدين والأجانب التابع لجامعة الأزهر الشريف في مصر، وذلك من خلال مقال حمل عنوان “هل تعلم علاج واقعنا…؟”
وقد حاول أحمد في مقاله التوصل إلى المنطلق الصحيح في تسوية مشاكل الأمة الحالية في ضوء القدوة النبوية صلى الله عليه وسلم، علمًا أنه يقدم الماجستير برسالة عنوانها “التراكيب النحوية في آيات العدل والمساواة في القرآن الكريم دراسة تحليلية”، إلى جانب أنه يتلقى دروسًا أكاديمية “شيريكوه” الخاصة للدراسات الإسلامية في مصر.
ونحن باعتبارنا موقع “زمان التركية” نقدم لقرائنا ومتابعينا مقال ريان أحمد كاملاً:
هل تعلم علاج واقعنا…؟
مشهورة تلك المقولة التي يرددها المحللون “التاريخ يكرر نفسه”. ونحن وإن كنا نوافقهم فيها إجمالا إلا أن لدينا نظرة أخرى مكملة، ذلك أن التاريخ تتشابه أحداثه ولا تتكرر أعيانه.
وانطلاقًا من هذا، نجزم بأن ما يحدث في أيامنا هذه، كان له مثيل في مرحلة من مراحل التاريخ، ولم يقف أصحاب البصيرة والقلوب الواعية إبانها موقف التفرج والإذعان، بل سعوا جاهدين لتشخيص الوضع، ثم انطلقوا بحثا عن سبل التخلص من معرقلات حياتهم بحذر ووعي كاملَين، ومن ثم استطاعوا إنشاء حياة متناغمة ومواكبة مع الواقع الذي يعيشون فيه.
وإذا كنا نحن -أبناء اليوم- في موقف التلقي لمعطيات أعمالهم، فإن ما يقع علينا كأمة(1) -ذات سوابق مشرقة- الاستفادةُ منهم؛ فإذا ما استنهضنا الواقع بمعطيات الماضي واستوثقنا الجديد من القديم، فحينها تنهمر علينا نفحات الانبعاث زخًا زخًا، والمهم هنا أن نستوعب الواقع جيدًا، ونبدي اهتمامًا تجاه أصول ثقافتنا..
أجل، إن لدينا أصولا وثقافة، والبشريةُ اليومَ متعطشة إلى الممثل الأعظم والنموذج المثالي – سواء فردا أو جماعة – الذي نجح بلا منازع في معالجة مشكلات الأمة، وفي صفحات التاريخ نماذج كثيرة تفردت أصولنا ثقافتنا بالزعامة، ولذلك فليس غريبا أن ننتظر الاستنهاض من الجيل الجديد.
وطبعي أن يكون عصر السعادة(2) هو نموذجا مثاليا للنجاح في معالجة قضايا الأمة، ذلك العصر الذي اتضحت فيه جميع معالم الإصلاح والفلاح، والذين عاشوا في تلك العصر يعد واحد منهم بأمة، ولا أعلم أحدا حتى الآن قام بالتنظير لهم ، ولا أقصد بهذا الكلام قطع الطريق على أصحاب الهمم العلى.
أجل،إن بداية الطريق بدأ بجيل مكة الذين يمثلون لنا مرحلة النشئ والبدء، واحتاجت تلك المرحلة إلى استراتيجية خاصة، وكانت الفكرة الأساسية وقتها محددة …توحيد العقيدة وإعادة النظر في العلاقات الثلاثة ( الإنسان ، الكون ، الله)لأن العقيدة هي بماثبة عامل معنوي ومحرك الحقيقي للإنسان.
نعم، إن العقيدة في دائرة الإصلاح هي بمثابة القلب في الجسم ، فالعقيدة هي نفسها التي تحرك المصلح وتدفعه إلى مقاومة العقبات العِظَام، وتدفعه إلى بذل النفس والنفيس، فمَا دَوَارن البعض في مكانهم وبَوؤُهم بالفشل في مساعيهم ؛ إلا نتيجة عدم ترسيخ الإيمان بالقضية في القلوب، وتَسرعهم المفاجئ إلى تحشيد الأجسام الخالية.
نعم إن المسألة الكبرى التي كرَّس الممثلُ الأعظمُ للحق والحقيقة جهدَه في حياة مكة هي توحيد العقيدة لا غير، وكان بيت الأرقم(3) ابن أبي الأرقم رضي الله عنه مركزا فعالا لتجديد الذات، يقف هذا المركز عقبةً أمام كل فكر غريب بجانب وظيفته الأساسية.
نستنتج من هذا: إن على رجل الهم والإصلاح في مرحلته الأولى أن يحدد قضيته ويستوعبها جيدا، وأن تكون من القضايا المشتركة بين الأمة، رُوعِيت فيها تجديد الصياغة بأسلوب يناسب العصر، ثم لا يبرح هذه المرحلة إلى غيرها ولو كلفت عمرَه كله، ولا ينتظر أيضا رؤية الثمرة ، فليمض وليأت غيره لِيبدأ حيث وقف هو….
ويجب أيضا على رجل الهم والدعوة تأسيس مركز لتجديد الذات؛ للمراجعة، والقراءة، والتفكرا، والاستشارة، فرجل الإصلاح والهم والدعوة إن لم يستوعب هذا الدرس جيدا وواكب حماس الوجدان ولم يوفٍّ للعقل حقَّه؛ فسوف تتوقف نبضات قلبه عند أول صدمة.
وكانت الاستراتيجة ستتغير والقضايا الجدد ستتنزل على حياة المدينة، فممارسات أحكام المعاملات هو السمة البارزة فيها، ولم تكن هناك مشكلة في تطبيقها، فقد سلمت مقدمات الدعوة في مكة إلى نتيجة مثمرة في مدينة، والسر في ذلك النجاح ؛هو استتباب أركان الإيمان بالقضية في القلوب.
لقد كانت نظرية البقاء للأقوى والفرقة والنزاع سمة سلبية تمتع به بعض قوم الذين عاشوا قبل جيل السعادة، فالرجل مثلا يتقوى على المرأة، وتلك القبيلة شريفة والأخرى وضيعة، بيئةٌ يئد رجالها بناتَها، ويقتل قويُّها ضعيفَها، وينهب صعلوكُها مالَها، ويُعد الظلم قوة، والعدل جبنا، يتقاتل أقوامٌ أربعين حِجَجًا في بعير، بيئةٌ انقلب موازين العقل رأسا على عقب.
فأولُ ما فعله مُنقِذ الإنسانية صلى الله عليه وسلم هو توحيد في العقيدة.
صحيحٌ أن الفطرة الإنسانية ما انفكت يوما عن العقيدة، والمهم توجيهها نحو الحق، فالممثل الأعظم للحق والحقيقة بدأ بتوحيد العقيدة؛ التي تعني توحيد قضاياهم بأنواعها، لأن العقيدة هي بمثابة المكوك الإنساني الذي يحركه الإيمان.
وقدم مفخرة الإنسانية صلى الله عليه سلم إجابة شافية عن الإنسان بأنه من الله وإلى الله ومع الله “إنا لله وإنا إليه راجعون ” {الأية 156 منسورة البقرة }ففي (إنا) إتشير إلى الإنسان والكون، و(لله) إشارة إلى أن الإنسان والكون من الله، وأما (إليه راجعون) فتفيد التخصيص،أي إنا إليه لاَ إلى غيره، كما أن الرجوع يستلزم المرجَع، والمرجَعُ هو الله.
لقد كانت تلك العناصر الثلاثة هي نقطة التقاء وانطلاق، فهي المسألة الوحيدة التي تشمل الكل ، ولا تحتمل التجزء أو التحزب،وحُقق نجاحا باهرا في تقديمها والإجابة عنها، فهرع الجميع نحو الحق والحقيقة.
والحقيقةُ أننا إذا نظرنا إلى كل الحوادث الموجودة في زماننا هذا وانعكسنا زمانه صلى الله عليه وسلم فسنرى أن كل هذه الكوارث والمشاهد المريرة قد حدثت بشكل مصغر في زمانه صلى الله عليه وسلم وهو بكل سهولة عالجها ، وكأنه أمام شاشة التلفاز وفي يده آلة التحكم(4) ينتقل من قناة إلى قناة بسهولة.
ومع ذلك فهو إنسان إذ لو لم يكن إنسانا لما استطاع الناس معايشته، وإنه فجر(5) السعادة، مستمسك بسبب يمتد إلى عرش الرحمن، بعَثَ روح الحياة من جديد في قوم تمزقوا إربا إربا، وأنعشهم بعد ما كاد الفساد يقتلهم ، فنزلت عليهم النفحات المنهمرة.
نعم؛ الآمال تتحقق إذا واطدتها قدرة وإرادة، وإن البؤس الحقيقي هو فقد الإرادة وجفاف الأمل في القلوب، والخير كل الخير يكمن في استزراع الأمل في القلوب وتقديم الأفكار القابلة للتطبيق، مدعمة بنماذج مثالية، فرجال تلك العصر استطاعوا مسايرة عصرهم وظروفهم بإقامة التوازن بين العقل والروح، وبهما وصلوا إلى أفق الكمال، وعلى الذين همُّهم التشبهُ بهم أن ينتهجو السبيل نفسه.
أجل؛ إن العيش في دائرة العقل والروح شيئان أساسيان لاستنهاض أمتنا، وبهما استطاع الماضون تجاوز العقبات وحل المشكلات؛ فأنجزوا بذلك أعمالا لا قبل للفلسفة المادية فهمها ولا تفسيرها، واندهاشُنا منهم نابعٌ من نظرتنا إلى النتائج الملموسة دون النظر إلى المقدمات والأسباب..
إن المغزى الحقيقي من سرد أمثال تلك الأنباء هي الاستفادة منها، فعلى رجال الإصلاح والهم والدعوة أن يقوموا بعملية البحث عن نقاط الالتقاء على مستوى الأفراد والمجتمعات، فإذا ما اتفقتْ أو تقاربتْ رؤانا فإننا سوف ننهض بمشروع شامل يحتضن الجميع ونجد ـ بإذن الله ـ استجابة لأفكارنا المطروحة في التغيير، وأما إذا تجزأنا وتجاهلنا النقاط التلاقي بيننا وامتطينا أيديولوجيات التحزب والتعصب فسنة الله في هذا معروفة {وكان أمر الله مفعولا}نُمسَحُ ونبدل ويأتي قوم أخرون سوانا، فعلى صاحب الهم العملاقة أن تكون همه الكلية الشاملة لا الجزئية الناقصة.
إننا نحن اليوم نعاني من مشكلات عديدة، ونعاني مشكلة في تحديد الهدف، كما نعاني مشكلة في تقريب المساعي، بل لقد اُمْتُحِمنَا بجفاف الفكر، وأوصلنا هذا الجفاف إلى نكبتنا العظمى وهي غياب الهدف، وأرى أن من أعظم الإنجازات التي يمكن أن يقدمها رجل الهم والإصلاح؛ إخراج جيل يحمل هموم الأمة، ويعيش أهدافا سامية نحو استنهاض الأمة.
والحق إن الأزهر الشريف تَحمَّل هموم هذه الأمة بكل جدارة ولباقة، وتشرفت الدنيا بانبعاثات(6) كثيرة في فترات متعددة على يد أبنائه، ولم تزل آمالنا معقودة عليه لانبعاثات جديدة.
وحمادى القول: إننا إذا أردنا النجاح فيما نسعى إليه يوما؛ فيجب علينا فهم القضايا المشتركة بيننا وتفضيلها على قضيانا الخاصة، فإذا ما تبنينا الفكرة المحددة أفرادا أو جماعة، واستوثقناها من أصول ثقافتنا، واطمأنا بها؛ فإننا سوف نصل يوما إلى ما كنا نبغي إليه ونحصل حينها على مباركة أسلافنا، فجيل عصر السعادة استوعبوا الواقع جيدا، واتحدوا في قضية واحدة، وترسخ في أذهانهم قضية واحدة ومحددة، وعرفوا أنَّ لكل مرحلة خاصية واستراتيجية متبعة، فوصلوا بذلك إلى هدفهم المنشود، وحققوا أهدافهم السامية.
ونتضرع إلى المولى عز وجل أن يجعلنا ممثلي الحق والحقيقة، وأن تكون أقوالنا وأفعالنا يوم القيامة لنا لا علينا ، وصلى الله على تاج الأصول ومرجع الكمال سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) المراد بالأمة الواردة في هذه المقالة هي الأمة الإسلامية أمة الإجابة.
(2) عصر السعادة أو جيل السعادة مصلحان أقصد بهما عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم جميعا.
(3) صحابي جليل رضي الله عنه.
(4) هناك مقولة لفيلسوف غربي مشهور يقول :
(5) ألفاظ : ممثل الحق والحقيقة، فجر السعادة، مفخرة الإنسانية؛ المقصود بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6) أقصد بانبعاث هنا نهضة الأمة، وسيأتي مقالة بعنوان ( الأزهر وهموم الأمة) إن شاء الله لنؤكد صحة دعوانا بأن الأزهر تحمل هموم هذه الأمة.
وصدري مفتوح لقبول النقد البناء والتصحيح وجزا الله من يفعل ذلك خيرا.
الطالب : ريان أحمد
الجنسية : نيجيريا