منى سليمان*
القاهرة (زمان التركية)ــ عقد في 9 أكتوبر 2020 أول اجتماع مباشر بين وزيري خارجية أرمينيا وأذربيجان برعاية روسية، وتم التوصل لوقف إطلاق النار وإعلان هدنة مبدئية بين الجانبين في إقليم كاراباخ دخلت حيز التنفيذ في منتصف ليل 10 أكتوبر 2020 وذلك بعد أٍسبوعين من اندلاع أعنف إشتباكات بين البلدين منذ 24 عام.
هناك الكثيرين الذين يعولون على الدور الروسي لتثبيت وقف إطلاق النار وعودة الهدوء للقوقاز، حيث دعت واشنطن وموسكو وباريس لذلك. بيد أن الموقف التركي كان مختلفا حيث أكد وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” أن الحرب لن تنته إلا إذا تم تحرير كافة الأراضي الأذرية التي تم احتلالها من قبل أرمينيا، مما يطرح تساؤلات حول دوافع تركيا لتأجيج الصراع بين العاصمة الأذرية باكو والأرمينية يريفان؟ وما هو مستقبل الصراع بين الجانبين.
أولا: التطور التاريخي للنزاع حول كاراباخ:
يقع إقليم كاراباخ في قلب الأراضي الأذربيجانية وعاصمته ستيباناكيرت نسبة للزعيم الأرميني البلشفي “ستيبان شوماهان”. وتبلغ مساحة الإقليم 4,800 كم2 ويبعد عن باكو عاصمة أذربيجان حوالي 270 كم غرباً. يغلب على الإقليم الطبيعة الجبلية كما توجد بعض الأنهار التي يستخدم ماءها في إنتاج الكهرباء والري. وهو إقليم فقير في موارده الاقتصادية، ويعتمد النشاط الاقتصادي على الزراعة وتربية الماشية وبعض الصناعات الغذائية. من المحاصيل المشهورة الحبوب والقطن والتبغ. ويقطنه حوالي 145 ألفا أغلبهم من الأرمن المسيحيين الأرثوذكس. ويعلن الإقليم نفسه على أنه جمهورية مستقلة ولكنها لا تلقى الإعتراف الدولي.
وتخوض أرمينيا (دولة فقيرة نسبيًا وسكانها من المسيحيين الأرثوذكس) وأذربيجان (دولة غنية نفطيًا وسكانها من المسلمين الشيعة) نزاعاً منذ نحو 30 عاماً للسيطرة على إقليم “ناغورنو كاراباخ” الإنفصالي. وتعود أصول القضية بين أذربيجان وأرمينيا إلى نحو قرن مضى، حينما ضم الاتحاد السوفيتي السابق عام 1921، منطقة ناخشيفان ذات الأغلبية السكانية الأرمنية، وكان الأرمن يشكلون 94% من سكانها إلى أذربيجان الدولة النفطية ذات الأغلبية المسلمة الشيعية.
1-بداية النزاع بالإقليم:
في فبراير 1988 قام المجلس السوفيتي الكاراباخي، وطلب من موسكو انضمام “ناجورنو كاراباخ” إلى أرمينيا لأن سكانها من الأرمن، وبالطبع اعترض القادة الأذريون لدى سلطة موسكو. وسرعان ما تشابك الأذريون مع الأرمن في “كاراباخ”، لتتحول الاشتباكات بسرعة فائقة إلى حرب أهلية تركت قتلى وجرحى ولاجئين على كلا الجانبين. وفي ديسمبر 1989 ازداد الموقف تعقداً بإعلان المجلس السوفيتي الأرمني توحيد إقليم “ناجورنو كاراباخ” مع جمهورية أرمينيا. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي 25 ديسمبر 1991- أعلن الانفصاليون في إقليم “كاراباخ” في مطلع 1992 الاستقلال عن أذربيجان، ورفض الانضمام إلى أرمينيا. ومدت أرمينيا مقاتلي “كاراباخ” بالسلاح والرجال، بل توغلت قواتها داخل أذربيجان، كما احتلت الشريط الأرضي الفاصل جغرافياً لقره باغ عن أرمينيا (ويسمى رواق لاچين) وكذلك أراضي 6 مقاطعات أخرى شرق وجنوب قرة باغ واحتلت 20% من إجمالي أراضيها في منتصف 1993. وكانت النتيجة أن فر مئات الآلاف من السكان الأذريين هرباً من القوات الأرمينية الغازية. وانتقل اللاجئون إلى معسكرات -كثير منها حول العاصمة الأذربيجانية باكو. وعقب صراعٍ مسلّح مع أذربيجان دام لنحو 5 سنوات (1989 – 1994). سيطرت أرمينيا على الإقليم (يتكون من 5 محافظات، وخمس محافظات أخرى غربي البلاد، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي “آغدام”، و”فضولي”، بإجمالي نحو 20% من الأراضي الأذرية). واستمر النزاع عامين أدى إلى مقتل 30 ألف شخص.
وفى مايو 1994 قبلت جميع الأطراف -بما فيها أذربيجان المحتلة أراضيها- اتفاقاً لوقف إطلاق النار، والاحتكام إلى المفاوضات السلمية؛ حقناً للدماء. وكان الوسيط الرئيسي في المفاوضات هو الاتحاد الأوربي الذي فوض مجموعة من الدول برئاسة فرنسا والولايات المتحدة وروسيا للاجتماع في مينسك -عاصمة بيلاروسيا- لبدء التفاوض ، أطلق عليها “مجموعة مينسك”، ومن جانبها أعلنت الميليشيات الأرمنية جمهورية ناجورنو قرة باغ التي لم تعترف بها أي دولة. إلا أن أرمينيا تعاملها كجزء منها. وقائد الميليشيات الأرمنية في تلك الحرب كان “روبرت كوتشاريان”، وهو الرئيس السابق لجمهورية أرمينيا. وبعد عام 1994 توقفت الوساطة. ووقعت اشتباكات دامية عامي 2016 و2017 ولكنها انتهت بعد أيام قليلة وتم احتواؤها. وفي مطلع أبريل 2020 تجددت الاشتباكات لمدة أربعة أيام ثم هدأت وساد الحدود على خط التماس بين الأطراف المتنازعة.
وفي 12 يوليو 2020 تجددت الإشتباكات في المناطق الحدودية بين أرمينيا وأذربيجان، وتبادلتا الاتهامات، وسط تحرك روسي في إطار منظمة “الأمن الجماعي” لمحاصرة الأزمة المتصاعدة، في حين برز تلويح تركي بالتدخل. وتبادلت وزارتا الدفاع في البلدين الاتهامات، وحملت الناطقة الصحفية لوزارة الدفاع الأرمنية “شوشا ستيبانيان” باكو المسؤولية عن استئناف الاشتباكات على الحدود. في حين قالت وزارة الدفاع الآذرية، إن المواجهات تجددت بعد قيام القوات المسلحة الأرمنية، “بمحاولة أخرى لمهاجمة مواقع الجيش الأذري، في منطقة توفوز على الحدود”. ووفقا للطرف الأذري فقد تم إطلاق النار على قرى أغدام ودوندار غوششو وفاهيدلي، من أسلحة من عيار كبير ومن مدافع الهاون. وفي 14 يوليو 2020 قتل تسعة جنود على الأقل في تجدد الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا لليوم الثالث على التوالي رغم دعوات دولية لضبط النفس. والاشتباكات المتواصلة بين العدوين اللدودين في جنوب القوقاز تعد هي الأعنف في سنوات وتثير القلق من تفجر نزاع كبير في المنطقة المضطربة.
2- اشتباكات سبتمبر 2020:
ثم تجددت يوم 27 سبتمبر 2020 ووفقًا لمكتب رئيس إقليم كاراباخ، شنت القوات المسلحة الأذربيجانية في الساعة 8 مساء قصفًا مدفعيًا وجويًا ضد الإقليم بما في ذلك العاصمة، ثم ذكرت باكو أن القوات المسلحة الأرمنية شنت قصفًا مكثفًا لمواقع الجيش الأذربيجاني على طول خط المواجهة بأكملها. واتهمت أرمينيا أنقرة بدعم باكو بأسلحةٍ متطوّرة مع خبراء عسكريين ونقل آلاف المرتزقة السوريين للمشاركة في الهجوم على كاراباخ، لكن أنقرة نفت على الفور هذه الاتهامات رغم أن وسائل إعلامٍ دولية نقلت أنباء عن مقتل عشرات المسلّحين السوريين على خطوط المواجهات الأذربيجانية مع المقاتلين الأرمن.
واتسعت يوم 4 أكتوبر 2020 نطاق المواجهات بين القوات الأذرية والأرمنية في اليوم الثامن من القتال، حيث تم قصف صاروخي عنيف من أذربيجان على عاصمة إقليم كاراباخ (ستِباناكيرت) ، وتواصلت الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا طوال الليل. وأشارت أحدث الإحصاءات إلى أن حصيلة القتلى منذ اندلاع الأزمة بلغت 18 قتيلا وأكثر من 200 جريح. وفي المقابل، شنّ جيش الإقليم هجوماً مدفعياً مضاداً استهدف مطاراً ومنشآت عسكرية في عمق الأراضي الأذرية. كما وقع هجوم صاروخي على مدينة (كنجة) ثاني كبرى المدن الأذرية مما أدى لمقتل مدنيين اثنين، وإصابة آخرين.
ولم تصدر منذ بدء المعارك في 27 سبتمبر 2020 ، سوى بيانات جزئية عن عدد الضحايا أفادت في حصيلة إجمالية عن سقوط 191 قتيلاً هم 158 جندياً من قوات قره باغ و14 مدنياً أرمنياً و19 مدنياً أذربيجانياً، إذ لا تعلن باكو خسائرها العسكرية. وفي المقابل، يعلن كل من الدولتين عن انتصارات ينفيها الآخر، ويفيد عن مقتل مئات الجنود من قوات العدو. فيؤكد الأرمن مقتل أكثر من ثلاثة آلاف جندي أذربيجاني منذ اندلاع المعارك، الأحد، فيما تعلن باكو مقتل 2300 عسكري أرمني. كما تجاهل طرفا النزاع دعوات الأسرة الدولية لوقف إطلاق النار، وآخرها مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” بوقف فوري للأعمال العدائية.
ويتخذ إقليم كاراباخ موقفًا جادًا من الأزمة الحالي، حيث دعا في 4 أكتوبر 2020 أذربيجان لوقف إطلاق النار، واعتبر أن كل من أرمينيا وإقليم كاراباخ أعلنا عن الرغبة في التوصل لحل بالطرق السلمية، لكن أذربيجان بدأت العمليات العسكرية وأعلنت رسميا أنها لا ترغب في حل المشكلة عبر المفاوضات، بل بإستخدام القوة، ودفعت بالمرتزقة للقتال ضد الإقليم، وتستهدف سكان الإقليم خلال عملياتها. واتهمت تركيا بدعم أذربيجان وأنها لن توقف الحرب حتى خروج الأرمن من الإقليم كما اتهمت أذربيجان بالدفع بالمرتزقة للقتال ضد أرمينيا.
ثانيا: تداخل وتشابك المواقف الإقليمية من النزاع :
1-تبادل الاتهامات لأنقرة بين أذربيجان وأرمينيا:
ثمن رئيس أذربيجان “إلهام علييف” دعم تركيا لبلاده في الأزمة الأخيرة، وأعلن يوم 4 أكتوبر 2020 أن بلاده قامت بالرد على الهجوم الذي بدأته أرمينيا، وأكد أنه مستعد لوقف إطلاق النار شريطة إنسحاب أرمينيا، كما نفى وجود مرتزقة يقاتلون إلى جانب الجيش الأذربيجاني (يتكون من 100 ألف مقاتل)، وأكد أن باكو في موقف هجومي وهدفها إستعادة أراضيها لأنه لا توجد دولة تعترف بإقليم “ناجورنو كاراباخ” كدولة. وأكد أرمينيا لم ترغب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولى، وأكد أن باكو قدمت مبادرة للحل وأرمينيا لم تستجب، وأكد أن الامتثال لقرارات مجلس الأمن أساس الحل. وأكد الرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف” يوم 5 أكتوبر 2020 ، أن الجيش الأذري حرر العديد من المناطق المحتلة في إقليم كاراباخ، مشيرًا إلى أن أذربيجان سعيدة بوجود حليف لها مثل تركيا، وأوضح أن الأخيرة قدمت دعمًا معنويًا، كبيرا لباكو وأكد امتلاك بلاده منظومات دفاعية تركية، وأكد أن تركيا دولة قوية ولها مكانة كبيرة في المجتمع الدولي، ويجب أن يكون لها دور في حل النزاع في إقليم كاراباخ.
بينما أوضحت الحكومة الآرمينية إن دعم تركيا العسكري لأذربيجان يوسّع الحرب، ويقوض الأمن الإقليمي. ونفت يريفان سيطرة قوات أذربيجانية على منطقة “جبرائل” في إقليم كاراباخ. وأكد رئيس وزراء أرمينيا “نيكول باشينيان” نقل المرتزقة السوريين والإرهابيين وقوات خاصة من الجيش التركي يشاركون في الأعمال العدائية، ويقودهم حوالي ١٥٠ من العسكريين الأتراك رفيعي المستوى من مراكز قيادة القوات المسلحة الأذرية. ووصف باشينيان هدف أذربيجان وتركيا “الإبادة الجماعية للأرمن”. وأكد أن أرمينيا لديها «أدلة» على أن تركيا تدعم عسكرياً القوات الأذربيجانية المشاركة في المعارك في ناغورني قره باغ. واتهم باشينيان تركيا بدعم الجيش الأذربيجاني بطائرات مقاتلة وطائرات من دون طيار ومعدات عسكرية أخرى، وبإرسال مستشارين عسكريين و«مرتزقة وإرهابيين» إلى منطقة ناغورني قره باغ. وأكد إنهم يستخدمون طائرات مسيرة وطائرات مقاتلة (إف-16) تركية لقصف مناطق مدنية في الإقليم.
2- التنافس الإقليمي والدولي على القوقاز:
أضافت الأزمة بأقليم كاراباخ ملفا جديدا للخلافات بين “فلاديمير بوتين” و”رجب طيب إردوغان” فضلا عن ملفي سوريا وليبيا، حيث تدعم موسكو أرمينيا التي تعد الحديقة الخلفية لموسكو وجزء من أمنها القومي وروسيا لها قاعدة عسكرية في أرمينيا هي قاعدة (غيومري). كما ترتبط موسكو وباكو بعلاقات وثيقة للغاية، وليس فقط اقتصادية. وهناك علاقات شخصية جيدة بين الرئيسين، فلاديمير بوتين وإلهام علييف. ويسعى “بوتين” لإرساء السلام في منطقة القوقاز المضطربة لكي يحفظ الأمن القومي لبلاده، بعكس “أردوغان” الذي يريد إِشعال النزاع أكثر ويحض أذربيجان على مواصلة حملتها إلى أن ينسحب الانفصاليون الأرمن من كل الأراضي الأذرية وهذا بالطبع لتحقيق التمدد الإقليمي التركي بالقوقاز. ولذا فإن العلاقة بين تركيا وروسيا يمكن وصفها بأنها تعاون تنافسي بمنطقة جنوب القوقاز لكي تحقق كل منهما أهدافهم في تلك المنطقة الاستراتيجية. حيث تمدّ روسيا بالأسلحة كلاً من أذربيجان وأرمينيا، علماً بأن الأخيرة، رغم أنها أفقر وأصغر من جارتها الشرقية الغنية بالموارد، هي أيضاً جزء من تحالف دفاعي تسيطر عليه موسكو وتستضيف قاعدة روسية. وفي غضون ذلك، تنظر تركيا إلى أذربيجان كدولة شقيقة من واجبها الدفاع عن مصالحها على الساحة العالمية. وفي حين أن خلافاتهما في القوقاز لم تكن حادة كما كانت في سوريا وليبيا.
ولذا دعا الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يوم 5 أكتوبر 2020 لوقف إطلاق النار الفوري للمعارك في إقليم كاراباخ، وذلك خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان”. وكان “بوتين” قد أعلن للمرة الأولى يوم 3 أكتوبر 2020 للمرة الأولى منذ تجدد الإشتباكات عن «قلق بالغ» إزاء تقارير تفيد بمشاركة مقاتلي جماعات مسلحة غير شرعية من الشرق الأوسط في القتال، أرسلتهم تركيا. وطرحت موسكو حلا للأزمة من خلال نشر قوات حفظ سلام روسية في الإقليم المتنازع عليه بموافقة طرفي النزاع أذربيجان وأرمينيا. وتعليقا على ذلك، أوضح رئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان” إنه يمكن مناقشة هذا الاقتراح في إطار مجموعة مينسك. كما أصدرت مجموعة مينسك المعنية بحل النزاع (تضم روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا) بيانًا، دعوا فيه أرمينيا وأذربيجان إلى “وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار” بعد قصف متبادل لمناطق سكنية، في تصعيد جديد للصراع. وجدد وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” تأكيده على ضرورة وقف إطلاق النار بشكل فوري.
ويتفق مع الموقف الروسي الموقف الإيراني الذي دوما يدعو لوقف إطلاق النار لاسيما بعد وقوع إصابات داخل الحدود الايرانية جراء إطلاق النار بالإقليم، وأكدت طهران أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة، وجددت “احترام سيادة أذربيجان على أراضيها، وعلى ضرورة خروج القوات العسكرية من المدن المحتلة، ودعت لإنهاء العمليات العسكرية والبدء بحوار سياسي شامل. وأوضحت أن إيران لا يمكن أن تتحمل وجود معارك عسكرية على حدودها، وبخاصة الاعتداء على أراضيها المجاورة لمنطقة النزاع. وكشفت طهران عن أنها أبلغت أذربيجان وأرمينيا بضرورة الحيطة والحذر، ودعت إلى عدم انتهاك الأراضي الإيرانية. بعد سقوط قذائف على أراضيها جراء المعارك بين البلدين في إقليم ناغورني كاراباخ، وجدير بالذكر أن إيران تضم نحو عشرة ملايين شخص من ذوي الأصول الآذرية، ونحو 100 آلف نسمة من الأرمن. بيد أنها تدعم أرمينيا رغم الحياد الظاهر في خطابها الرسمي لأنها تخشى من مطالبات الأقلية الأذرية بالانفصال عن إيران والانضمام لدولة أذربيجان.
كما أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيانًا أعربت فيه عن أسفها لقرار أرمينيا استدعاء سفيرها بيريفان، وأكدت أنها معنية بعلاقات جيدة مع أرمينيا، واستمرار التواصل معها لأنه بالغ الأهمية. هذا بعدما اتهمت وزارة الخارجية الأرمينيّة، إسرائيل بتزويد السلاح الأكثر تطوراً وحداثة لأذربيجان ومنها “قنابل عنقودية” وعدته أمر “غير مقبول”، في ظل الاعتداء الأذربيجاني على أرمينيا. وجدير بالذكر أن إسرائيل تربطها علاقات جيدة جدا مع أذربيجان نظرًا لأنها تستورد منها المنتجات النفطية.
وقد استغل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” تلك الأزمة لكيل الاتهامات لأنقرة نظرا لتصاعد حدة التوتر بين “ماكرون – أردوغان” مؤخرًا، واتهمت باريس أنقرة بنقل 300 مقاتل من “مجموعات متطرفة” في سوريا إلى أذربيجان، وحث الرئيس الفرنسي حلف شمال الأطلسي على «النظر مباشرة» لما تقوم به تركيا، بصفتها عضواً فيه. وقد سبق له أن ندد بالأداء التركي داخل الحلف، متهماً أنقره بأنها لا تتقيد بشروط العضوية فيه، وأنها تورطه في نزاعات لا علاقة له بها. ولذا فكل دولة تسعى لاستغلال الأزمة بالإقليم لتحقيق أهدافها أو “لتصفية حسابات” مع أنقرة تحديدًا.
3- الدوافع التركية من تأجيج النزاع:
تعد تركيا طرفًا فاعلًا أصيلًا في الأزمة الحالية بإقليم كاراباخ، وقد برز ذلك من خلال الإهتمام المبالغ فيه الذي أبدته القيادة السياسية التركية بالنزاع منذ بداية، والذي يرجح أن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” هو المحرض الأساسي لأذربيجان على تأجيج الصراع في الوقت الحالي لتحقيق عدة أهداف منها ..
-تنافس إقليمي للسيطرة على إقليم القوقاز: ثمة تنافس إقليمي بين روسيا وإيران وتركيا للسيطرة على دول منطقة القوقاز، وقد اتخذت أنقرة خطوات كبيرة في تحقيق ذلك من خلال تشكيل منتدى الدول الناطقة بالتركية الذي يضم (أذربيجان وجمهورية شمال قبرص التركية وتركمانستان وأوزبكستان وقرغيزيا وكازاخستان،). وتمتلك تلك الدول لغة وتاريخا وحضارة مشتركة، وفقاً للصحافة التركية. وفي أكتوبر عام 2009، تمّ تأسيس مجلس تعاون الدول الناطقة بالتركية “المجلس التركي”، وتشارك كل من أوزباكستان وتركمانستان، في قمم وفعاليات المجلس الذي تعتبر تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزيا، من أعضائه المؤسسين. كما تشارك المجر بصفة عضو مراقب. وتستخدم الحكومة التركية أتراك شبه جزيرة القرم كورقة ضغط في علاقاتها مع روسيا، وتسعى إلى إظهار رفضها للأمر الواقع الذي تحاول الحكومة الروسية فرضه في القرم بطرق شتى، يُساعدها في ذلك سائر الدول التي ما زالت تعترف بالقرم كجزء من أراضي أوكرانيا إحدى أبرز دول الاتحاد السوفييتي السابق، والتي انشقت تماماً منذ سنوات عن أيّ سيطرة للكرملين. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن تتار القرم، ينتمون إلى مجموعة عرقية تركية، وتعتبر شبه جزيرة القرم موطنهم الأصلي، وقد تعرضوا لعمليات تهجير قسرية نحو وسط روسيا وسيبيريا ودول آسيا الوسطى، إبان الحكم السوفياتي لأوكرانيا (1919-1991).
-السيطرة على مصادر الطاقة: تسعى تركيا للحصول على الغاز بسعر أرخص من نظيره العالمي من أذربيجان التي ترتبط معها بمشروع أنبوب الغاز الطبيعي العابر للأناضول الذي تبلغ كلفته 8.5 مليارات دولار وهو يرتبط بـأنبوب جنوب القوقاز الذي يضخ الغاز من حقل “شاه دنيز 2 ” الاذربيجاني في بحر قزوين عبر خط (باكو، تبليسي، جيهان) ، ويطلق على المشروع ككل تسمية ممر الغاز الجنوبي وتبلغ كلفته الإجمالية 40 مليار دولار. وحضر “أردوغان” حفل التدشين لانبوب الغاز الطبيعي العابر للأناضول وأكد “أنه ثمرة رؤية مشتركة”، ووصفه بأنه جزء من “طريق حرير للطاقة”. كما تطمح أنقرة للترويج وبيع الاسلحة التركية لباكو، لاسيما وأن الإنفاق العسكري الكبير لأذربيجان في السنوات الأخيرة – ما يقرب من 15 مليار دولار العام الماضي، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي الأرمني البالغ 12 مليار دولار .
-فتح جبهة قتال جديدة لنقل المرتزقة السوريين: بعد انحياز قادة الصراع في ليبيا للحل السلمي وانخراطهم في مباحثات بمدينة الغردقة المصرية وبرلين 2 وجنيف، مما ينذر بقرب التوصل لحل سلمي نهائي للأزمة. وهذا تزامن مع قرب حل الأزمة المؤجلة في إدلب السورية، يحتاج “أردوغان” لجبهة قتال جديدة ينقل إليها عناصر الميليشيات والمرتزقة الذين دربهم ولم يعد يرغب بتواجدهم في ليبيا وسوريا، وإقليم كاراباخ مكان مثالي حيث أنه منطقة نزاع بين دولتين مسيحية وهي أرمينيا ومسلمة هي أذربيجان، كما أن الأخيرة حليفة “لأردوغان” دولة غنية نفطيًا ويمكنها التكفل بنفقات تلك الميليشيات التي ستبقى تحت تصرف أنقرة . وللتدليل على ذلك قد أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 100 مقاتلاً سورياً على الأقل، من الفصائل الموالية لتركيا، منذ اندلاع الاشتباكات في إقليم كاراباخ، وأوضح المرصد أن هؤلاء القتلى من بين 1200 مقاتل من فصائل موالية لتركيا أُرسلوا للقتال إلى جانب أذربيجان، وذلك بالتزامن مع وصول وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” إلى أذربيجان صباح يوم 6 أكتوبر 2020، لبحث المواجهات الدائرة بين جيش باكو والانفصاليين الأرمن في الإقليم. والتقى رئيس أذربيجان “إلهام علييف”، ونظيره الأذري. غداة مطالبة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بانسحاب القوات الأرمينية من الأراضي الأذربيجانية التي وصفها بالمحتلة. ونقل المرتزقة لأذربيجان سيجعل منطقة القوقاز بؤرة لهم ومفرخة للإرهابيين فيما بعد في القوقاز ووسط آسيا، وهذا يصب في مصلحة تركيا التي ترتبط بعلاقات وطيدة مع تلك الجماعات والتنظيمات الإرهابية، ويمكنها من استخدامهم لتأجيج الصراعات وقتما تشاء.
– العداء التاريخي التركي الأرميني: أصبح الآن محدداً بواحدة من أحلك فترات زوال الإمبراطورية العثمانية بحيث مازال البلدان غير قادرين على التصالح جراء الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 ، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف أرمني على يد قوات الدولة العثمانية. ويتخذ “أردوغان” موقفًا متشددًا من الأرمن ومن الاعتراف بالإبادة الجماعية بحقهم، حيث إنه أعلن في 3 أكتوبر 2020، أن تركيا ستواصل إزعاج كافة الأطراف التي تكنّ العداء لها ولشعبها. وكافة الأطراف التي تلتزم الصمت إزاء التنظيمات الإرهابية والدول الداعمة لها تضع كافة المبادئ الأخلاقية والقانونية والحقوقية جانباً عندما يتعلق الأمر بتركيا، كما ستقف تركيا بجوار المقهورين في كل مكان من سوريا إلى ليبيا ومن شرق المتوسط إلى القوقاز.
– التعاون الاستراتيجي بين تركيا وأذربيجان: أكد وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” مواصلة دعم الإخوة في أذربيجان بكامل قوتنا، ضمن مبدأنا: أمة واحدة ودولتان”. وهذا يدلل على التعاون الاستراتيجي بين البلدين، حيث تعد أنقرة الشريك التجاري الأول لها وتستورد منها المنتجات النفطية وهناك توأمة ثقافية بينهم نظرًا لأن اللغة بأذربيجان اشتقت من اللغة التركية وهناك صلات مصاهرة تاريخية بين الدولتين كما ان أذربيجان عضو مؤسس في منتدى الدول الناطقة بالتركية الذي تقوده تركيا وتعمل من خلاله على بسط نفوذها علي الدول والجاليات الإسلامية بمنطقة القوقاز ووسط آسيا. فضلا عن علاقات اجتماعية وثقافية وثيقة وتاريخية بين الدولتين. وهذا التعاون التركي الأذري كما تقدم تركيا الدعم الاستخباراتي واللوجستي الواضح من أنقرة لباكو (عاصمة أذربيجان) بالمعدات العسكرية والمرتزقة السوريين الذين تم نقلهم بشكل منظم من سوريا لدعم الجيش الأذري وتم توثيق ذلك في تقارير مخابراتية دولية رغم نفي أنقرة وباكو. كما بلغت استثمارات رجال الأعمال الأتراك في أذربيجان أكثر من 10 مليارات دولارا.
– استقطاب القوميين الأتراك: نسج “أردوغان” تحالفات منذ عام 2016 مع حزبي “الحركة القومية” القومي المتشدد وحزب “الوطن” اليساري المتشدد، والحزبين يسعيان لسيادة القومية التركية ورفعة العرق التتري في أقاليم القوقاز والشرق الأوسط، وهذا الهدف سيحقق لأردوغان المزيد من الأصوات في أي انتخابات تركية مقبلة، وكذلك التمدد الإقليمي في تلك الأقاليم.
وهذا الموقف التركي الداعم لاستمرار النزاع ربما تدفع ثمنه أنقرة غالياً، حيث أعلن وزير الخارجية الكندي “فرنسوا-فيليب شامباني” يوم 5 أكتوبر 2020 ، أنّ بلاده قرّرت تعليق كلّ صادرات الأسلحة إلى تركيا بانتظار انتهاء تحقيق يرمي لتبيان ما إذا كانت أنقرة أرسلت بعضاً من عتادها العسكري الكندي الصنع إلى حليفتها باكو لدعم القوات الأذربيجانية في معاركها ضدّ الانفصاليين في إقليم كاراباخ. وفي أول رد فعل تركي، علي هذا القرار أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا ينتقد كندا ويؤكد أن القرار تعبير عن الكيل بمكيالين لتلك الدولة. وربما تحذو دول أوروبية أخرى حذو كندا وربما يتم فرض عقوبات على تركيا حال استمرت في تأجيج النزاعات بإقليم القوقاز.
ومما سبق، نجد أن السيناريو الأرجح لإنهاء النزاع حول إقليم كاراباخ هو تثبيت الهدنة برعاية روسية ثم إجراء استفتاء علي حق “تقرير المصير” بين سكان الإقليم، بيد أن إنهاء النزاع بالإقليم لن ينه التنافس بالقوقاز الذي تسعى أنقرة لجعله ساحة جديدة لتعزيز نفوذها وإتخاذه قاعدة لتوطين الإرهابيين هناك. لدرجة أنها تخاطر بعلاقاتها الوثيقة مع موسكو وتخلط الأوراق بين الأقاليم الثلاث الشرق الأوسط بتواجدها العسكري في ليبيا وسوريا، وشرق المتوسط، وإقليم القوقاز بدعمها لأذربيجان؟ مما يطرح تساؤلات حول كيف ستوازن أنقرة بين تواجدها العسكري في تلك الأقاليم وكيف ستحقق مصالحها عبر تأجيج تلك الملفات، مما يتطلب موقفًا دوليًا جادًا ضد التدخلات التركية لتأجيج الصراعات وخلط الأوراق بين الملفات الإقليمية المختلفة في أقاليم الشرق الأوسط والقوقاز وشرق المتوسط.
–