بقلم: ياوز أجار
انطلق خالد من البيت بسرعة مذهلة قاصدًا الحافلة، دون أن يخبر أهل البيت أنه ذاهب إلى المدرسة.
وصلت الحافلة وركبها والنعاس يغلبه، فوضع رأسه على النافذة ليأخذ قسطًا من النوم. ولما توقفت الحافلة بجانب المدرسة نزل منها واستقبل الباب الرئيسي، ثم بدأ يركض وكأنه يستنفد أنفاسه الأخيرة من شدة نبضات قلبه. وأخيراً فتح الباب، ومرّ بساحة المدرسة كالريح، والعلم يرفرف في الهواء بطلاقة.
جميع الطلاب، بمن فيهم الأساتذة، كانوا قد دخلوا إلى قاعاتهم، وبدأوا حصصهم؛ لذا أسرع وطرق باب فصله بلطف، ثم فتحه، وألقى إليهم السلام قائلاً:
– السلام عليكم، صباح الخير، هل أستطيع الدخول يا أستاذي؟
– ادخل خالد، واجلس مكانك، وافتح كتابك على الصفحة التاسعة والعشرين، وتابع الدرس بحذر! وأعر سمعك جيداً؛ لأننا انتصفنا الدرس، وفاتتك مواضيع كثيرة.
لم يهتمّ خالد بما قال أستاذه بالغ الاهتمام قائلاً في نفسه إنه سيتدارك ما فاته من مسائل من أصدقائه.
استفسر الأستاذ طلابه قائلاً:
هل فهمتم موضوع “الانفجار العظيم” الذي تحدَّثت لكم فيه من بداية الحصة حتى الآن؟
حرَّك الطلاَّب جميعاً رؤوسهم تحريكاً يدلّ على الموافقة ما عدا واحد منهم، وهو صاحبنا خالد المتأخِّر، فلم يفهم من الموضوع شيئاً. ولذك شرعت كل التوقعات تتزاحم في مخيلته، ومضى يفكّر: ما هذا الانفجار؟ أين وقع؟ ومن الذي فجَّر؟ وما النتائج التي تمخَّضت عنها؟ يا إلهي! ما هذه الألغاز التي يتفوَّه بها الأستاذ؟!
ولأنه لم يفهم من الموضوع شيئاً، فاستفسر أستاذه قائلاً:
– يا أستاذي! هلاّ أعدت شرحه، فأنا لم أفهم!
– انتبه للدرس يا خالد! فستمتحنون في هذا الموضوع يوم الاثنين القادم. عليك أن تدرس جيداً لتحصل على علامة عالية، وإلا سترسب أنت ومن مثلك في هذه المادة الفيزياء.
تفاجأ خالد بنبأ الامتحان، واستغرب كلَّ ما يحدث؛ لأنه يعرف التقويم السنوي للمدرسة جيداً، فليس هناك امتحان يوم الاثنين، فعمّا يتحدَّث الأستاذ يا ترى؟! يبدو أنَّ هناك أموراً غريبة تجري في هذا الصفّ.
وعندما كان خالد سابحًا في هذه الأفكار سأل الأستاذ:
– من يمسح اللوح، حتى أشرح الموضوع مرة أخرى؟
وعند ذلك بالضبط، رفع خالد يده ليقول:
– معذرة يا أستاذ! هل أستطيع الذهاب إلى الحمام؟
أخذ الجميع يتضاحكون فيما بينهم؛ لأنهم ظنوا أنه رفع يده للقيام بمسح اللوح، بينما خالد كان يخطِّط للهروب من الجوِّ الخانق للمحاضرة.
– هدوء من فضلكم.. اصمتوا.. لا تتكلَّموا بمكالمات جانبية.
ثم سمح الأستاذ له بالخروج، دون أن يفهم مرمى صنيعه هذا.
ولما اقترب من باب الصفّ للخروج، سمع خالد فجأة صوتاً قوياً مفزعاً من الفرملة جراء الوقوف المفاجئ، مما أدى إلى اصطدم رأسه بالكرسي أمامه اصطداماً أيقظه من حلمه الغريب.
وبعدما فكَّر مليًّا تيقَّن أنّ كلّ ما جرى من أحداث وحوارات عجيبة كان حلماً رآه في منامه بالحافلة، ولا يمتُّ إلى واقع الحياة بصلة.
وعندما اقتربت الحافلة من المدرسة ضغط خالد على زرِّ الوقوف، ثم نزل ليمشي بخطوات سريعة نحو الباب الرئيسي. وحينما مرَّ بساحة المدرسة لم ير أحداً سوى بعض الحراس الذين سدّدوا عيونهم على خالد، والموظَّفين الذين كانوا يقومون بتنظيف المدرسة، والعلم المرفرِف كما في منامه. ولم يعط خالدٌ دلالة للنظرات المحدّقة من الحراس والموظَّفين. ثم بدا له أن الجرس قد رنَّ، والجميع قد دخلوا إلى صفوفهم، وهو متأخر كعادته. وما مضى وقت حتى تذكّر أنه قد وعد أستاذه في الحصة السابقة أن لا يتأخّر بعد اليوم مرة أخرى. فماذا عليه أن يفعل الآن؟
أخذ خالد يفكِّر في إيجاد حلّ، متجوِّلاً في فناء المدرسة يمنة ويسرة، ولكن لم يستقر ذهنه على رأي. ثم تلفَّت إلى غرفة المدير المغلقة، وغرفة المعلِّمين الفارغة، وكذا ألقى نظرات مشتتة على الصور واللوحات المعلَّقة على الجدران، فلم ينتقل منها إلى سبيل للخروج من هذه المشكلة؛ لأنه لم يبق أي واردة ولا شاردة إلا أتى بها من المعاذير. فساور خالداً يأس قاتل، وخوف شديد، وقلق لا يتصوَّر، حيث إن الموقف حرج جدًّا. تُرى ماذا سيفعل؟
وأخيراً قرَّر أن يدخل الصفّ، ويتحمَّل العاقبة أو العقوبة مهما كانت. فاستجمع قواه وتوجَّه إلى الباب، وطرقه بلطف أولاً، ثم قرعه بشدة ثانياً، ثالثاً.. رابعاً.. فلم يصدر من الصفّ أي صوت يدلّ على الموافقة أو الرفض؛ لذا ساوره الشكّ في وجود أحد بداخله.
– خالد..! ماذا تفعل هناك، هل أنت مجنون، أم ماذا بك؟!
كأن خالدًا أصيب برصاص من دماغه من شدّة خوفه، لما سمع هذا الصوت الجَهْوَرِي، فتوجَّه فجأة نحو مصدر الصوت، فإذا بالحارس يحدّقه، ويمطر عليه وابلاً من الأسئلة.
دُهش خالد دهشة لا يمكن التعبير عنها، عندما اطلع – بتنبيه من الحارس – على أنّ هذا اليوم يوم الجمعة، يوم العطلة، لا دوام ولا محاضرة.
وبعدما اتصل خالد بزميله المفضل حمزة واطلع على ما جرى في المحاضرة السابقة التي غاب عنها، بدأ يدرك كل ما حدث رويداً رويداً. فالانفجار العظيم الذي تحدّث عنه أستاذه في منامه كان النظرية المعروفة في نشوء الكون. وقد كان أستاذ الفيزياء طلب –في غياب خالد- من طلابه أن يعدّوا أنفسهم جيدًا لمناقشة الموضوع في الحصة القادمة.
في الحقيقة، كان العلم المرفرف على العمود كافيًا للدلالة على أن اليوم عطلة، فضلاً عن خُلُوِّ الساحة عن أيِّ طالب، وغرفة المدير المغلقة، وغرفة المعلِّمين الفارغة. إلا إنه لم يفهم شيئاً من هذه الأمور، ولعلّ سبب ذلك يعود إلى تركيزه على عدم التأخّر، لأنه كان قطع على نفسه عهدًا بأنه لن يتأخّر بعد اليوم، ولن يهمل واجباته اليومية، وسوف يستعدّ للدروس استعداداً جيداً.
وعلى كلِّ حال، فخالد كان سعيداً جدًّا، لأنه لم يتأخر عن المدرسة، وأهم من ذلك، أنه لم يخلف وعده، وظلّ هناك متسعًا من الوقت حتى يعدّ نفسه للدرس القادم.
∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞
رجع خالد بهذه الملاحظات إلى بيته، ثم خاض في بحث جادّ عن قضية “الانفجار العظيم” بالكتب العلمية المتوفّرة في مكتبته ومواقع الإنترنت. وأخيراً خزّن في عقله معلومات عامة عن الموضوع، بحيث يمكن له أن يكوّن منها تصوّرًا منسجمًا مع الكشوف والفتوح العلمية الحديثة.
وأخيرًا اقتنع بأنه أعد نفسه للمناقشة كما ينبغي، لذا دخل في فراشه لينام وهو مستريح البال.
ذهب خالد يوم الاثنين إلى مدرسته مبكّراً جداً، مما أثار حيرة أصدقائه؛ فقد حضر حتى قبل الأستاذ، الأمر الذي لا يتوقع منه عادة!
ولما بدأت الحصة وجه الأستاذ لطلابه السؤال المألوف:
– من يشرح لنا موضوع اليوم “الانفجار العظيم”؟
لم يزد عدد الأصابع المرفوعة ثلاثة، لذا لاحظ الجميع بسهولة – وعلى رأسهم الأستاذ – أن خالداً هو الآخر رافع يده، الأمر الذي ضاعف من حيرتهم؛ إذ هو زعيم الكسالى في الصف! ولكن ملامح وجهه كانت تدل على أنه جادّ وحاسم في الأمر ولا يمزح.
قال الأستاذ:
– هات ما بجعبتك يا خالد! ها نحن مستمعون إليك!
– أريد أن أبدأ بحلم حلمته الليلة يا أستاذي، له صلة بموضوعنا. لقد حلمت أنني في مكان، وما عرفت أنه مكان؛ إذ ليس لبصرك أن يحدّ له حدودًا من شدة اتساع عرضه وعمقه. ولا يوجد فيه غير جرم صغير مستدير ذي دخان يدور حول نفسه. ومن شدة صغره يبدو وكأنه نقطة صغيرة. وعلى الرغم من أنه صغير جداً، ولكنّه يحوي في جوفه عددًا لا يحصى من الأشياء الصغيرة والكبيرة التي نرى بعضها حولنا في حياتنا اليومية ولا نرى معظمها. كأن كل شيء قد طُوي وجُمع في هذه النقطة بمقاييس مصغّرة جداً. وإذ كنت أشاهد هذا المشهد في حيرة ودهشة، فإذا بدوي انفجار كبير يخترق الآذان، ويملأ القلوب بالرعب والفزع. فقد تفجّر هذا الجرم الصغير بنفسه، وقذف أجزاءه المطوية بجوفه في فضاء هذا المكان خبط عشواء، ثم أخذت تلك الأجرام وأجزاؤها المتقاذفة في الفضاء الشاسع تتكبّر وتتوسّع كالبالون المنفوخ لتتشكّل بأشكال متنوّعة، وفي أحجام مختلفة، بعضها أكبر من دنيانا هذه بمئات المرات، وبمسافات متباينة. وبينما كان يجب أن يتمخّض عن هذا الانفجار المذهل فوضى عارمة ودمار شامل في كل مكان، إلا أنه انتظمت كل الأجرام وأحوالها بنظام يثير مشاعر العجب والحيرة للإنسان؛ إذ صارت مربوطة إلى المركز بخيوط دقيقة، وبموازين حساسة، وحسابات رياضية دقيقة بحيث لو اقترب جرم إلى آخر، أو ابتعد عنه، ولو واحداً في مليون، أو قلّ عددها أو كثر، لصار هناك انفجار عظيم أشدّ بكثير من سابقه، ولاختل التوازن والتناغم بين تلك الأجرام وأجزائها بحيث لا يرجى إصلاحها.
كان الجميع، بمن فيهم الأستاذ، يستمعون لخالد في صمت مطبق وكأنهم لا يتنفسون!
– ثم صار لكل جرم فلك يتحرك فيه بسرعات مختلفة، ولكن الأجرام الضخام التي لا تعدّ ولا تحصى لو اصطم أحدها بآخر لسببّ قيامة كبرى، وهي قابلة لذلك؛ إذ ليس هناك شيء في الظاهر يمنع ذلك.
– وبينما كنت أفكّر هكذا، فإذا بنجم مذنب كبير وسريع جداً مر أمامي، فساورني خوف شديد بحيث كدت أفقد وعيي من فزع الموقف، فبدأت أرتعش هلعًا حتى همست لنفسي في قلق: لا يرتطمْ ولا يصطدمْ هذا النجم بأرضنا، ويقضِ عليها وعلى جميع من فيها من الأحياء والجمادات؟ لا سمح الله!
– ثم استيقظت من نومي في منتصف الليل لأجد جسمي جميعه قد تفصّد عرقاً من هول ما رأيت في منامي. لذا قمت من الفراش واستحممت. وما مضى وقت حتى غلب علي النعاس مرة أخرى لأخوض في النوم كالغواص الذي يخوض في البحر ليشاهد ما لا يشاهده من كان على البر، وأحلم حلمًا آخر ما زالت آثاره على نفسي باقية حتى اللحظة.
– فقد رأيت في منامي هذه المرة رجلاً نورانياً أشد ضياءً من نور الشمس، يقرأ لي آيات وكأنني أسمع بها لأول مرة ويشرحها. فقال هذا الرجل الغريب لي:
– سأقصّ عليك قصة نشوء الكون كما يعرضها القرآن الكريم الذي هو مصدر الحقائق النهائية، حتى تكون على بصيرة من أمر ما يسمونه أنتم الانفجار العظيم!
– كما تعلم يا خالد، ما خلق الله الجنّ والإنس إلا ليعرفوه ويعبدوه. وهو الذي خلق الأرض، وجعل الجبال فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها بالمعادن المتنوّعة والمياه المختلفة، وقدّر فيها أقواتها. ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فسوّاهن سبع سموات، بعدما كانت السموات والأرض رتقاً ملتصقاً متصلاً، ففتقهما وفتحهما وفصّلهما بعلمه وإرادته وقدرته، وهو الفتّاح العليم؛ فانشقّت السماء، فكانت وردة كالدهان، ومملوءة بمئات الألوف من الأجرام، ومزيّنة بزينة الكواكب المتوقّدة بلا زيت ولا زوال، والجارية في أفلاكها بلا ضوضاء ولا اختلال، ومرفوعةً بلا عمد مرئي، ومحفوظةً بسقف قوي، ومشحونة برسائل إلهية من آيات الشمس السراج، والقمر المنير، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض، والرياح اللواقح، والرعد الصاعق، والبرق البارق، والمطر الغدق؛ ثم اندحت الأرض الدائرةُ حول الشمس بميزان دقيق دائرة تحصل بها الأيام بتعاقب ليلها ونهارها، والسنون والفصول، والمرسيةٌ بالجبال الأوتاد، والمتفجّرةُ عيونًا، وأنهارًا، وبحارًا، فصارت مهدًا للأنام، ومستودعًا لأرزاقهم، ومشهدًا لآيات الإبداع والإتقان، والإنشاء والخلق، والإحياء والإماتة. ولو لم يمسك الله السموات والأرض بإرادته وقدرته لزالتا، كما لا يمسك الطير في السماء إلا هو.
قدرة خالد على حفظ هذه العبارات الصعبة للرجل الغامض في رؤياه، وذكره إياها في المحاضرة وكأنه يقرأها من شاشة التلقين، أثارت دهشة الطلاب وكذلك أستاذهم.
بعد بضع ثوان من التوقف للتنفس عاد خالد لقصته مرة أخرى، ونقل عن ذلك الرجل الغامض قوله:
– أما الآية التي لها علاقة مباشرة بموضوع الانفجار العظيم فهي: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا…﴾ (الأنبياء: 30). “فتقنا” في الآية فعل، و”نا” ضمير رفع يعود على الله، وهو فاعل. ففاتق السموات والأرض، أي: فاتحهما ومفصّلهما هو الله سبحانه وتعالى. إذن فنشوء الكون أو بدايته ليست انفجارًا عشوائيًا، ولا فوضى مضطربة، كما يصوّره بعض الفيزيائيين الذين يفسّرون الظواهر الكونية حسب أهوائهم ومعارفهم المحدودة بجدار المادة، وإنما هو فتق وفتح للسموات والأرض من ربّ العالمين ليظهر لهم بدائع صنعته وعجائب خلقه!
وعلى الرغم من طول قصة خالد إلا أن أستاذه لم يرغب في قطعه وسمح له بالاستمرار دون أي تدخل قائلا في نفسه “نحسب ذلك عوضًا عن سكوته الدائم وعدم مشاركته في المحاضرات السابقة”.
استمر خالد في سرد رؤياه قائلاً:
– ثم بدأ ذلك الرجل النوراني يرسم الطريق الذي ينبغي علينا أن نسلكه في الوصول إلى الحقيقة بقوله:
– ونظرًا لما تقدّم يا خالد، عليك أن تتجرّد من بيئتك التي تعيش فيها، وتتحرر من قيود الأفكار السائدة غير الصائبة في المجتمع، وأحكامك المسبقة، حتى يتصفّى ذهنك من الأدران المعلوماتية، فيكون مستعداً للوصول إلى عرش الحقيقة الناصعة الذي أشار إليه القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً. لذلك أريد أن أنبّه لبعض الأمور:
أولاً: إن ما سمّيتموه أنتم والعلم الحديث “انفجارًا كبيرًا” ليس بانفجار؛ إذ لا يمكن أن يتمخّض من الفوضى العارمة ذلك النظامُ الرائع الذي نشاهده بأعيننا في أنحاء جميع الكون، وإنما هو “فتق” و”فتح” و”تفصيل” رباني.
ثانياً: هذا الفتق والفتح للسموات والأرض ليس حدثًا بدون فاعل لنقول عنه “تفجّر بنفسه… أو وقع خبط عشواء” وما شاكلها من العبارات؛ لأنه مستحيل أن تصادف صدفة في هذا الكون البديع. عليك أن تختار الكلمات بعناية للتعبير عن أفكارك ووصف الظواهر الكونية حتى يكون عقلك متناغمًا مع عقيدتك.
ثالثاً: خوفك من اصطدام الأجرام السماوية ببعضها البعض ليس في موضعه؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلقها لحكم كثيرة، فلا تتحرك إلا بأمره وإذنه وإرادته وقدرته. فحركاتها ليست حركات عشوائية لا معنى لها، كلٌّ في فلك يسبحون مسبّحين خالقهم. إذن كلّ ما يأتي علينا، فبإذنه وإرادته، وهو خير، فلا داعي للخوف.
∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞ ∞
وبعد الانتهاء من سرد قصته وما رآه في منامه، قال خالد لأصدقائه وأستاذه:
– ربما جميعكم تسألون في أنفسكم عن سبب التغيّر الذي حدث لي في الأيام الأخيرة؛ فليس هناك سبب معيّن، إلا إنني بدأت أنظر إلى العلوم الحديثة والقرآن الكريم من منظور مختلف، نتيجة قراءة بعض الكتب. لقد قرأت في كتابٍ يقول مؤلفه:
“إن ضياء القلب هو العلوم الدينية، وإن نور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما وانفصالهما تتولَّد الحيل والشبهات في الأولى، والتعصّب الذميم في الثانية”.
ثم أضاف خالد:
ولذلك أنا أرى ضرورة إعادة التوازن المفقود بين العلوم الحديثة التي انحازت كليًا إلى العقل وظلت بحاجة إلى النزعة الروحية لاكتساب التوازن، وبين العلوم الدينية التي لها طبيعة روحية، وهي بحاجة إلى النزعة العقلية لاكتساب التوازن أيضًا، وبهذا المنهج يمكن أن ننجح في مزاوجة عقولنا مع قلوبنا.
زملاء خالد احتاروا فيما يعقبون على الحقائق التي سردها والتي أحدثت منحىً جديدًا في نظرتهم، بل حتى نظرة الأستاذ، لكل من العلم والدين والعلاقة بينهما، لكن حمزة ناب عنهم وقال مازحًا:
– ماذا يمكن أن نقول؟ هنيئًا لك يا خلد على قيامك بتغيير ما في نفسك من شر إلى خير!
أما الأستاذ فتوجه لخالد وقال وهو يمشي بين المكاتب في الفصل:
– أنا تيقّنت -يا شباب- أن التغيّر الحاصل في نفس خالد ناتج عن مزاوجة عقله مع قلبه!