منى سليمان*
القاهرة (زمان التركية)ـــ يمر حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأزمة بنيوية وانقسام كبير بين أعضائه إثر إعلان فرنسا مطلع يوليو 2020 انسحابها من مهمة “الحارس” التابعة للحلف والمعنية بمراقبة السواحل الليبية حيث أرسلت باريس خطابًا للناتو يفيد بأنها ستعلق مشاركتها في العملية “بشكل مؤقت”. وذلك بعد مواجهة عسكرية بين فرقاطة فرنسية وتركية في حادثة نادرة بين أعضاء حلف الناتو ما دفع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لتجديد إنتقاداته لحلف “الناتو” الذي وصفه من قبل بأنه بحالة “موت سريري”، كما أن الحادثة كشفت عن عمق الخلافات بين باريس وأنقرة حول الملف الليبي، وكذلك كشفت عن أزمة مستترة حول مدى فاعلية حلف “الناتو” في تنفيذ مهامه وحماية أعضائه في ظل استمرار الخلافات والإنقسامات بينهم حول النفوذ داخل الحلف ونسب المشاركة في الموازنة العامة له، مما يثير التساؤلات حول مستقبل عضوية باريس وأنقرة داخل الحلف بعد تصاعد الأصوات الفرنسية المطالبة بالخروج من الحلف، والتشكيك في جدوى وجود أنقرة داخل حلف عسكري لا تلتزم ببنوده، الأمر الذي يهدد استمرارية وفاعلية حلف الناتو كأكبر وأهم حلف عسكري معاصر.
أولا: أبعاد المواجهة الفرنسية التركية حول ليبيا:
يمثل الصراع في ليبيا “أزمة بنيوية” لحلف “الناتو” لأنه يشكك في المبدأ الأساسي القائم عليه وهو “أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض وهو ما يضمن الأمن الجماعي لأعضائه”، بيد أن الصدام المسلح أمر وارد في أي وقت بين تركيا وفرنسا بشكل مباشر أو من خلال وكلائهما في ليبيا والدولتين أعضاء بالحلف. ففي 10 يونيو 2020 حاولت الفرقاطة الفرنسية “لو كوربيه” العاملة ضمن عملية “الحارس” تفتيش سفينة مدنية تركية قبالة سواحل ليبيا للتأكد من عدم نقلها أسلحة مهربة بيد أن قائد السفينة التركية رفض وحدثت مصادمة بين الطرفين. الأمر الذي اعترضت عليه باريس انتقدته الخارجية الفرنسية في 2 يوليو 2020 وأكدت أن ما قاله السفير التركي عن حادث الفرقاطات الفرنسية والتركية في البحر المتوسط قبالة السواحل الليبية وأكدت أنه تضمن معلومات منحازة، ثم توالت بعد ذلك ردود الفعل الفرنسية المنددة بالحادث بينما استمرت تركيا بالفرض وطالبت باريس بالاعتذار في ظل تصاعد حدة المواجهة بين تركيا وفرنسا التي ربما تصل حد الصدام العسكري او الحرب بالوكالة في ليبيا. حيث تدعم باريس الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر” المسيطر على 80% من مساحة ليبيا بدءًا من الحدود الشرقية حتى سرت، بينما تدعم أنقرة حكومة الوفاق الليبية والميليشيات الداعمة لها، وتنتظر الأوساط السياسية داخل وخارج ليبيا بدأ معركة بين الطرفين في ليبيا حول مدينة سرت النفطية الاستراتيجية.
1-الموقف الفرنسي .. تصعيد مستمر:
منذ عامين تشهد العلاقات الفرنسية التركية توترًا متصاعد لاسيما بعد التلاسن اللفظي والانتقادات المستمرة التي يوجهها كل من الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيره الفرنسي “ماكرون” لبعضهما البعض في أي مناسبة. كما أن التناقض الواضح في مواقف كلا من أنقرة وباريس بعدد من ملفات السياسة الخارجية ومنها .. الملف الليبي، التنقيب التركي غير القانوني بشرق المتوسط، الإحتلال التركي لمدن كردية بشمال سوريا، اتساع النفوذ التركي في شمال ووسط أفريقيا وهي مناطق نفوذ تاريخي فرنسي، الدعم الفرنسي للتنظيمات السياسية والعسكرية للأكراد في العراق وسوريا المصنفة في أنقرة كتنظيمات إرهابية، النفوذ التركي داخل الجاليات المسلمة في فرنسا وأوروبا، والنفوذ التركي في شرق ووسط أوروبا كوسوفو ودول البلقان الذي يهدد النفوذ الفرنسي والألماني في تلك الدول.
وبالنظر إلي الخلاف الفرنسي التركي بشأن ليبيا فإنه بدأ مع بداية الأزمة، ففي نهاية 2011 وبعد سقوط النظام الليبي السابق قام الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” ورئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون” بزيارة ليبيا ليعلن الأول الإنتصار لأنه كان مقدم طلبا للناتو بالتدخل العسكري لإسقاط النظام السابق، وبعد ذلك بيوم واحد قام “أردوغان” رئيس الوزراء التركي آنذاك بزيارة ليبيا. وبدأت التنافس الفرنسي التركي للسيطرة على مجريات الأحداث بليبيا. وتبلور العداء بينهما بعد عام 2014 وإعلان قائد الجيش الليبي المشير “خليفة حفتر” المدعوم من قبل باريس بدء معركة الكرامة لتحرير الأراضي الليبية من سيطرة الميليشيات المسلحة والإرهابية التي تتلق دعما تركيا واضحا. ثم استمرت الخلافات والصدامات العلنية بين باريس وأنقرة .. حيث اعترضت الأولى على اتفاق التعاون الأمني والعسكري وترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق في 27 نوفمبر 2019.
وفي 24 يناير 2020 قامت أنقرة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة سواحل قبرص، ثم إنتقلت سفينة شحن من تركيا إلى ليبيا وتم الإستيلاء عليها من قِبل البحرية الفرنسية، وتَبيَّن أنها تحمل على متنها أسلحةً غير قانونية. رغم مشاركة أنقرة في “مؤتمر برلين” بألمانيا في 19 من الشهر نفسه وتوقيعها على البيان الختامي الذي يمنع تصدير الاسلحة لاي من طرفي النزاع في ليبيا وهما الجيش الوطني الليبي في الشرق وحكومة الوفاق في الغرب. ثم كانت حادثة الفرقاطة العسكرية الفرنسية “لو كوربيه” التي تعرضت لمضايقات من قِبل السفن العسكرية التركية في 10 يونيو 2020 ما أدى إلى عطل راداراتها ثلاث مرات.
وقد أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية “فلورانس بارلي” في 2 يوليو 2020 أن باريس علقت مشاركتها في عملية “حارس البحر” (المعروفة باسم إيريني) التي يقوم بها تحالف شمال الأطلسي (الناتو) قبالة ليبيا “في انتظار رد الحلف على أربعة شروط” تفرضها فرنسا للمساهمة بالمهمة. ودعت باريس الحلف لضرورة “وجوب احترام الحلفاء حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا”. وأكدت أن “سلوك الفرقاطة التركية إزاء نظيرتها الفرنسية كان عدائياً وغير مقبول، وطالبت فرنسا بحظر استخدام تركيا إحداثيات الناتو في عملياتها خارج مهمات الحلف، وأكدت أن الفرقاطة الفرنسية تحركت بطلب من قيادة عملية “حارس البحر”، وأكدت أن “حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا قضية مركزية في الخلاف مع تركيا”، مضيفةً أنه “يجب حل الخلافات القائمة بالوسائل السياسية داخل الناتو”. واعتبرت “بارلي” أن “قوتين غير عربيتين تفرضان إرادتهما في ليبيا وهو أمر غير مقبول وحذرت من أن النزاع في ليبيا يشهد مرحلة التحول إلى سوريا جديدة وآلاف السوريين يقاتلون في ليبيا”. والقوتين المشار اليهم هما (روسيا وتركيا). واعتبرت “بارلي” في انتقادات غير مباشرة لانقرة “أن أوروبا تواجه الحروب واستعراضاً للقوة في عتباتها، لأن القوى العسكرية تتصاعد على حساب النظام الدولي المتعدد الأطراف”. وجددت دعم باريس لجهود الأمم المتحدة لحل الأزمة الليبية، إستناداً إلى مخرجات مؤتمر “برلين”.
بدوره ندد الرئيس الفرنسي “ماكرون” بأداء تركيا داخل منظومة الحلف الأطلسي وطالب بتوضيح سياسة أنقرة في ليبيا المرفوضة لباريس. وأكد “ماكرون” أن تركيا تتحمل “مسؤولية تاريخية وإجرامية وعقابية” لتدخلها في ليبيا كدولة عضو في حلف “الناتو” في تلويح منه لفرض عقوبات على أنقرة لسياساتها في ليبيا وشرق المتوسط، كما وصف “ماكرون” الوجود التركي في ليبيا بأنه لا يمكن القبول به لأنه يشكل تهديداً لأفريقيا ولأصدقاء باريس في تونس والنيجر وتشاد ومصر، كما أنه تهديد لأوروبا وفرنسا في المقدمة. وما يريده “ماكرون” من شركائه داخل الاتحاد الأوروبي والناتو هو “مراجعة جدية” للدور التركي في المنظومتين. لاسيما بعد التحركات التركية المنفردة التي تشكل تهديدا مباشرا للدول الأوروبية.
وبناء على مطالب فرنسية عقد وزراء دفاع “الناتو” إجتماع يومي 17 – 18 يونيو 2020. أعربت خلاله باريس عن تخوفها من “سورنة” ليبيا بمعنى تنفيذ السيناريو السوري في ليبيا، من خلال تفكيكها بين مناطق نفوذ تركية في الغرب وروسية في الشرق، مما يشكل تهديد للأمن القومي لدول جنوب أوروبا، وطالبت باريس الدول الأوروبية بفتح حوار مع موسكو حول ليبيا وسوريا وأوكرانيا وأمن أوروبا. ودعا “ماكرون” لربط روسيا “بالعربة الأوروبية” للضرورات الاستراتيجية، ولأن روسيا تنتمي إلى أوروبا والغرب، وقرر “الناتو” فتح تحقيق في حادثة الفرقاطة الفرنسية، وكشفت مصادر بباريس أن نتائج التحقيق “سرية” وليست مرضية ولا شاملة لباريس ولم توجه أي لوم للجانب التركي. ولذا وجهت باريس خطابًا “للناتو” ورهنت عودتها لعملية “الحارس” بالبحر المتوسط بأربعة شروط وهي ..
- إعادة تأكيد تمسك الحلف بتطبيق حظر إيصال الأسلحة إلى ليبيا، وهو ما تخالفه تركيا جهارًا نهارًا من خلال دفعها بالأسلحة والعتاد والمرتزقة إلى ليبيا
- منع تركيا من استخدام «إحداثيات» الحلف الأطلسي في العمليات غير المتعلقة بالحلف.
- قيام تعاون بين الأطلسي وبين العملية الأوروبية المسماة «إيريني» الخاصة بحظر السلاح إلى ليبيا.
- باريس تدعو “الناتو” بتحدي «بروتوكول» يمنع التصادم بين قطعه في مياه المتوسط تلافيا لتكرار حادثة الفرقاطة الفرنسية “لو كوربيه”.
وكذلك صعدت باريس موقفها ضد أنقرة في أروقة الإتحاد الأوروبي، وعقد الاتحاد بناء على طلب فرنسي اجتماعا يوم 13 يوليو 2020 حول آفاق العلاقة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة، وعضوية أنقرة في الاتحاد، وفي ختام الإجتماع لوح الاتحاد بفرض عقوبات على تركيا حال استمر سلوكها المعادي في شرق المتوسط وليبيا. ولذا فإن الصعوبة التي تواجه باريس في خلافها العلني مع أنقرة، تكمن في أن أكثرية الدول الأوروبية لا ترى خطورة الدور التركي لبعدها الجغرافي عن مناطق النفوذ التركي في جنوب أوروبا ولضآلة مصالحها في ليبيا وسوريا من جهة أخرى، وهو ليس حال باريس وروما أو وأثينا ونيقوسيا وبرلين ومدريد. ولم يدعم الموقف الفرنسي من أنقرة سوى ثمانية أعضاء أوروبيين من الحلف المؤلف من 30 عضوا، وكذلك كان الدعم الألماني شفهيا فقط حيث وصفت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” الحادثة التي وقعت بين سفينتين للشريكتين (باريس وأنقرة) في الناتو “بأنها خطيرة للغاية”.
ولذا تسعى باريس لصوغ تحالف للدول التي ترفض التواجد العسكري التركي على الحدود الأوروبية. لأن ما تقوم به تركيا هو السعي لإعادة الخلافة العثمانية إلى مياه غرب المتوسط من خلال التواجد بليبيا. مما يمثل تهديد لدول جنوب أوروبا حيث تهددهم أنقرة بتصدير الهجرة غير الشرعية من الشواطئ الليبية باتجاه أوروبا التي 200 كم عن طرابلس. كما ترفض باريس التأييد الأمريكي للدور التركي في ليبيا لأنه وسيلة لاحتواء التمدد الروسي في ليبيا وسوريا ومياه جنوب المتوسط، ولذا سعى “ماكرون” لتحسين علاقاته مع روما بعد عامين من التوتر لإحتواء التمدد التركي الروسي في ليبيا، وكذلك كثف من اتصالاته مع دول الجوار الافريقي والعربي الليبي، فقد أتصل هاتفيًا مع الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” أكثر من مرة ووصف مخاوف القاهرة مما يحصل في ليبيا بأنها “مشروعة”، وكذلك استقبل نظيره التونسي “قيس سعيد” الذي طالب بإجراء إنتخابات عاجلة في ليبيا، وهاتف نظيره الجزائري “عبد المجيد تبون”.
2-الموقف التركي .. تعنت مستمر:
يتسم الموقف التركي من الملف الليبي بالتعنت المستمر والإصرار علي الحل العسكري كحل وحيد للأزمة عبر استمرار الدعم العسكري واللوجيستي التركي لحكومة الوفاق الليبية بغرب البلاد والتي لا تمثل كافة الشعب الليبي وتتقاسم سيطرتها على مدن الغرب مع 40 من الميليشيات المسلحة والمرتزقة. والموقف التركي بذلك يتعارض مع كافة القرارات الاممية الخاصة بليبيا ومخرجات مؤتمر”برلين”.
وفي أول رد فعل تركي علي الاتهامات الفرنسية لأنقرة، اتهم وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” فرنسا بأنها ترتكب جرائم في ليبيا وتدعم قائد الجيش الوطني الليبي المشير “خليفة حفتر”. بينما نفى وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” حدوث تجاوزات من سفن حربية تركية بأخرى فرنسية في البحر المتوسط وأكد أن بلاده شاركت ما لديها من معلومات وصور وأدلة مع حلفائها ومع المسؤولين في حلف الناتو. وأكد “أكار” إن ما يحدث “ليس أمرًا عسكريًا، وإنما هي مؤامرات تجري من أجل تخليص حسابات سياسية، لذلك فإن فرنسا مجبرة على تقديم الاعتذار لتركيا”. كما اتهم “أوغلو” “ماكرون” بالسعى لتعزيز نفوذ روسيا في ليبيا مما يهدد دول حلف “الناتو”، بيد أن “أوغلو” قد تجاهل أن أنقرة وهي دولة عضو بالحلف لها علاقات عسكرية قوية جدا بروسيا” وحصلت منها على صفقة صورايخ (اس 400) التي اعترض عليها الحلف وواشنطن. ولعل المبرر الوحيد لاستمرار التعنت التركي في الملف الليبي تحديدًا ورفضها كافة دعوات دول الناتو لها لوقف الدعم العسكري لحكومة الوفاق، أن أنقرة لديها عدد من أوراق الضغط على الناتو والدول الأوروبية المتوسطية، ومنها ..
– تصدير الإرهابيين لدول الناتو الأوروبية: أعلنت أنقرة في 2 يوليو 2020 ترحيل 9 إرهابيين من عناصر تنظيم “داعش” يحملون الجنسية البلجيكية إلى بلدهم، بعد استئناف عمليات الترحيل، بعد توقف لأكثر من 3 أشهر بسبب تفشي فيروس «كورونا»، ووقف رحلات الطيران الدولي. ليرتفع بذلك عدد المقاتلين الأجانب المرحلين من تركيا للخارج الى 338، في عام ونصف بينهم 113 إرهابياً من أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا. كما كشفت دراسة حديثة عن وجود 10 آلاف عنصر من تنظيم “داعش” بتركيا ستقوم بترحيلهم للدول الأوروبية في أي وقت.
– فتح الحدود للاجئين السوريين: تستضيف تركيا أكثر من 3ونصف مليون لاجىء سوري منذ بدء الأزمة في 2011، ورغم أن أنقرة قد وقعت في 2016 إتفاق لوقف تدفق اللاجئين لدول الإتحاد الأوروبي وضبط الحدود تحصل بموجبه أنقرة على دعم يبلغ ملياري دولار، إلا أن أنقرة تعمدت فتح الحدود في أكتوبر 2019 ومطلع عام 2020 لعبور اللاجئين والضغط على دول الإتحاد الأوروبي التي اعترضت علي تدخلها العسكري عبر عملية نبع السلام في سوريا ودعمها العسكري لحكومة الوفاق بطرابلس.
– الأهمية الاستراتيجية لتركيا: تدرك أنقرة أهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي المثالي الذي تتمتع به وحاجة دول الناتو والدول الأوروبية الجيواستراتيجية لها، فتركيا على الحدود الإيرانية وقريبة من الحدود الروسية، وعززت نفوذها خلال العقد الماضي في عدة أقاليم بالشرق الاوسط ووسط آسيا وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي. وقد أكد ذلك السفير التركي بباريس “إسماعيل حقي موسى” خلال استجوابه أمام مجلس الشيوخ الفرنسي بيونيو 2020 بعد حادثة الفرقاطة الفرنسية، حيث دافع “حقي” عن تصرفات بلاده في ليبيا وشرق المتوسط واعتبرها “سلمية ومهمة لإستعادة الاستقرار في ليبيا”. وتهكم من بعض الدعوات التي تطالب بمعاقبة أنقرة أو طردها من الحلف، بقوله .. “تصوروا ناتو بلا تركيا! لن يكون هناك ناتو بلا تركيا! لن تعرفوا كيف تتعاملون مع طهران والعراق وسوريا وجنوب المتوسط والقوقاز وليبيا ومصر، أن تركيا ليست أي بلد في الحلف، تركيا لها وزنها السكاني والعسكري وحرست الجانب الجنوبي والشرقي خلال الحرب الباردة بجهود كبيرة وفي بعض الأحيان على حساب ازدهار امتنا وشعبنا”. لهذا يحرص الناتو على بقاء تركيا في الحلف لأنها تقدم له خدمات أمنية فعلية لاسيما وأنها تمثل اكبر ثاني جيش بالحلف بعد الجيش الأمريكي.
كما نشرت الرئاسة التركية قبيل قمة “الناتو” الأخيرة في 4 ديسمبر 2019 انفوجرافيك بـ 4 لغات (التركية، الإنجليزية، الألمانية والفرنسية) بعنوان “لماذا تركيا مهمة لحلف الناتو”. وأوضح الانفوجراف أن تركيا عضو بالحلف منذ 67 عاما، وتملك ثاني أضخم جيش في الحلف بعد الجيش الأمريكي. وكذلك هي عضو ينفذ مسؤولياته بدقة وضمن أكثر ثمانية حلفاء إسهاما في موازنة الحلف وتقدم إسهامات مهمة لعمليات ومهام الحلف في المناطق المختلف لدعم السلام والاستقرار الإقليمي والدولي وتأتي ضمن الدول الخمس الأولى في هذا المجال. وحدد التهديدات التي تتعرض لها أنقرة ويجب على الحلف دعمها للتصدي لها ومنها .. أن تركيا تقع في مركز خطر الهجرة غير الشرعية بسبب موقعها الجغرافي وتأتي في الصدارة في التصدي الحازم لهذا الأمر ولديها وجود عسكري نشط في حلف الناتو باعتبارها عنصرا يحقق الاستقرار ويقلل تأثير المشاكل المختلفة كتجارة المخدرات والبشر النابعة عن المناطق المضطربة على الأعضاء الآخرين في الحلف. وأكد أن تركيا عنصر أساسي في الموقف الدفاعي والردع المعزز لحلف الناتو بوجودها الجوي والبحري النشط في البحري الأسود والمتوسط وأحد الحلفاء القلائل القادرين على شن عمليات واسعة النطاق. وأصدرت وزارة الدفاع التركية بيانا تزامنا مع قمة حلف “الناتو” يؤكد علي أهمية الحلف الذي لايزال “تحالفا رادعا وقابلا للاستمرارية”، وأشار البيان لمشاركة تركيا في المناورات التي سيجريها الحلف وأكد أن أنقرة تقوم بواجباتها على أكمل وجه في الدفاع عن القيم المشتركة التي تتقاسمها مع باقي حلفائها في الناتو .. لقد شاركنا في 23 مناورة للناتو من خلال ألفين و414 عسكريا، خلال عام 2019، ونخطط للمشاركة في المناورات التي ستجري العام المقبل. الناتو لا يزال تحالفا رادعا وقابلا للاستمرارية.
-منع عرقلة خطط الناتو: أعلنت أنقرة في 1 يوليو 2020 موافقتها على خطة الدفاع السرية “للناتو” فيما يخص حماية دول شرق أوروبا ودول “البلطيق” من التهديدات الروسية وذلك بعد عرقلتها سابقًا. حيث رهنت تركيا موافقتها على الخطة بموافقة “الناتو” على تصنيف تنظيم “وحدات حماية الشعب الكردية” وحزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” في سوريا كتنظيمات إرهابية وهو ما رفضته فرنسا واعتبرت ان تلك التنظيمات ساهمت في الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي بسوريا. وتأتي موافقة تركيا لتخفيف حدة الضغط الفرنسي عليها داخل “الناتو” ولكسب أصوات دول البلطيق وشرق أوروبا لصالحها. وبعد الموافقة التركية تم التصديق على خطة “النسر المدافع” لدول البلطيق (إستونيا والتفيا وليتوانيا) وبولندا بشرق أوروبا التي تعد أحد الأعمدة الأساسية لسياسة الحلف الرادعة لروسيا. حيث تشكل موسكو ضغطا متزايدا على تلك الدول ومصدرا للتهديد منذ ضم جزيرة القرم في 2014 للسيادة الروسية. وتقترح خطة “الناتو” تحريك فرق التدخل السريع جدا التابعة للحلف في حال وقوع أوضاع طارئة، وهي قوة المهام المشتركة ذات الجاهزية العالية التابعة للحلف والتي قوامها 5000 فرد.
ثانيا: مستقبل “الناتو” في ظل إنقسام أعضائه:
تأسس حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أبريل 1949 من 12 دولة ارتفعت اليوم لـ30 دولة بعد الموافقة على عضوية شمال مقدونيا وقد عمل الحلف على مدى خمس عقود على حماية الأمن القومي الأوروبي من التهديدات الروسية خلال الحرب الباردة واستمر الحلف لضرورات أمنية بعد انهيار خصمه التقليدي حلف وارسو. بيد أنه منذ وصول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لمنصبه في يناير 2017، وهو يشكك في جدوى التنظيمات الدولية كالأمم المتحدة وحلف الناتو وسجلت سنوات حكمه خروج بلاده من عدد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية كان آخرها منظمة الصحة العالمية. وقد اتهم “ترامب” الدول الأوروبية بأنها لا تشارك كما يجب في ميزانية الحلف، بينما تتهم بعض الدول الأوروبية واشنطن بأن نحو 85 % من إنفاقها الدفاعي يذهب إلى مناطق ومهمات لا علاقة لها بالناتو أو الدفاع عن أوروبا. وقد أعادت حادثة الفرقاطة الفرنسية الحديث مرة أخرى عن استمرارية وفاعلية الحلف في ظل انقسام اعضائه حول مفهوم تهديدات الامن القومي لكلا منهم، حيث..
- توتر بقمة الحلف الاخيرة: خلال قمة حلف الناتو الاخيرة التي عقدت ببريطانيا في (3-4) ديسمبر 2019، استبعد “ماكرون” احتمال التوصل لتوافق مع تركيا على تعريف الإرهاب. وانتقد “ماكرون” قلة التنسيق بين الولايات المتحدة وأوروبا والسلوك الأحادي الذي اعتمدته تركيا، الحليفة الأطلسية، في سوريا. بعد شن أنقرة عملية “نبع السلام” يوم 17 أكتوبر في سوريا وكرر “ماكرون” وصف “الناتو” بأنه في حالة “موت سريري” نتيجة عجزه عن ردع التصرفات التركية العسكرية الاحادية التي تهدد بعض دول الحلف، وهو ما رد عليه “إردوغان” بقوله “أتوجه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عليك قبل أي شيء أن تفحص موتك الدماغي أنت نفسك. لا تناسب تصريحات من هذا النوع إلا أمثالك الذين في حالة موت دماغي”. كما اتهم “ماكرون” القوات التركية بالعمل أحيانا مع حلفاء لتنظيم “داعش” الإرهابي في عملياتها شمال سوريا.
ولذلك عقد على هامش القمة اجتماع بين قادة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مع الرئيس التركي “أردوغان” وتم الاتفاق على إجراء مزيد من المحادثات مع تركيا التي تتعرض لضغوط أمنية منها “اللاجئين والتهديد الإرهابي الحقيقي الممثل في حزب العمال الكردستاني المحظور (PKK). ولذلك سيتم عقد اجتماعات منتدى (إي 3 + تركيا). وسعى الاجتماع لمحاولة فهم خطط تركيا لمستقبل هذا الشريط في شمال سوريا. حيث تدافع الدول الأوربية عن المقاتلين الأكراد لدورهم في دحر تنظيم داعش الإرهابي بالتعاون من التحالف الدولي. وانتقد الناتو شراء تركيا منظومة (إس-400) الروسية وأكد أنها في حال تشغيلها في تركيا لن يتم دمجها في شبكة الناتو للدفاع الجوي العاملة بأنقرة. وقد عقد الاجتماع لاحتواء الدعوات التي سبقت انعقاد قمة حلف الناتو لإخراج تركيا منه، على خلفية عدة أزمات آخرها هجومها الأخير في شمال سوريا وعرقلتها خطة الناتو للدفاع عن دول البلطيق من أجل إجبار دول الحلف على إعلان وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا منظمة إرهابية، فضلا عن اقتناء أنقرة أنظمة الدفاع الروسية( S 400) التي يرى الحلف أنها لا تتفق مع نظام تسليحه. والحالة الوحيدة لخروج إحدى الدول من الحلف هو أن تقدم بنفسها طلبا للانسحاب وهذا لن يحدث في الحالة التركية لأنها حال خرجت من الحلف ستفقد الكثير من أوراق الضغط والاهمية الاستراتيجية في التعامل مع الدول الاوروبية وروسيا. حيث تناور أنقرة كلا الطرفين بالتقارب مع الطرف الآخر لتحقيق مصالحها. كما أن الإنسحاب التركي من الناتو سينشأ حالة من الفراغ الامني الاستراتيجي لن يشغلها ايا من اعضاء الحلف الحاليين.
-غياب الحليف الأمريكي: إحجام “ترامب” عن التدخل العسكري لحل الأزمات في العديد من الأقاليم التي تشهد توتر وتهدد الأمن الأوروبي، وأصر “ترامب” على دفع الدول الأوروبية 2% من دخلها القومي كمساهمة في ميزانية الحلف. كما كشفت مصادر أن “ترامب” أهان بإنتظام قادة دو حلف “الناتو” بأوروبا خلال محادثاتهم هاتفيا، خاصة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة “تيريزا ماي” والمستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، بعكس الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” والتركي “رجب طيب أردوغان” الذي يتحدث معهما بطريقة لائقة للغاية. وهو ما يؤكد توتر العلاقات بين أعضاء الحلف.
وفي يوم 26 يونيو 2020 اعتزامه سحب ما يقرب من 10 آلاف جندي من ألمانيا ليخفض بذلك الوجود الأمريكي هناك إلى أقل من 25000. ووصف المراقبون هذه الخطوة بالهدية المقدمة لروسيا لأنها ستضعف حلف (الناتو) بلا مقابل. وبرر “ترامب” خطوته هذه بأن ألمانيا تأخرت في سداد مساهمتها للحلف. وقد انتقد عدد من المراقبين الخطوة الأمريكية لأنها تّقوض الثقة بواشنطن، وتجعل أوروبا والولايات المتحدة أقل أماناً.
خلاصة القول، أن التهديدات الأمنية المحيطة بالدول الأوروبية الممثلة في .. نشاط التنظيمات الإرهابية وتدفق اللاجئين وصعود النفوذ الصيني والتواجد العسكري الروسي بالشرق الأوسط وجنوب المتوسط في ليبيا وسوريا وشرق أوروبا على حدود دول البلطيق، تمثل جميعها مبررات هامة لاستمرار حلف “الناتو”، بيد أن استمرار الخلافات والانقسامات بين أعضاء الحلف الرئيسيين لاسيما تركيا وفرنسا سيؤدي لضعف فاعلية الحلف ولن يتمكن من إتخاذ قرارات مؤثرة خاصة وأن القرار يتطلب إجماع كافة الأعضاء لتنفيذه. وهذا ما تدركه تركيا جيدًا حيث تتلاعب بصوتها داخل الحلف لعرقلة ما تريد من خطط دفاعية لمنع فرض عقوبات عليها أو تهميش دورها داخل الحلف، الأمر الذي يمثل تحديًا لدول جنوب المتوسط ويتطلب من واشنطن أكبر أعضاء الحلف والأكثر تمويلًا له اتخاذ موقف حازم لإنهاء الأزمة الليبية محور الخلاف التركي الفرنسي، حيث يمكن للموقف الأمريكي الضغط على أنقرة للقبول بوقف إطلاق النار في ليبيا وبدء المفاوضات السياسية وفق إعلان القاهرة ومخرجات “مؤتمر برلين”، وإلا فإن إحتمالية حدوث مواجهة أو حرب بالوكالة بين عضوين بالحلف هما فرنسا وتركيا في ليبيا ترتفع بشدة.
*باحثة دكتوراه في العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، متخصصة في الشأن التركي
–