تقرير: ياوز أجار
أنقرة (زمان التركية) – استدعت نيابة أنقرة رئيس الأركان التركي الأسبق إيلكر باشبوغ، للحصول على إفادته على خلفية التصريحات التي أدلى بها خلال مشاركته في برنامج تلفزيوني واتهم فيها الرئيس أردوغان وحزبه بـ”الذراع السياسية لمنظمة فتح الله كولن”.
وبدأت نيابة أنقرة تحقيقات بحق باشبوغ على خلفية البلاغ الذي تقدم به قبل ستة أشهر من نواب حزب العدالة والتنمية، ثم أرسلت خطابًا إلى نيابة إسطنبول بطلب الحصول على إفادته في هذا الصدد.
نيابة أنقرة حصلت أولاً على تسجيلات البرنامج الذي شارك فيه باشبوغ من الهيئة العليا للإذاعة والتلفزيون وقامت بتفريغها بمساعدة خبير، ثم أرسلت خطابًا إلى نيابة إسطنبول تأمرها فيه بأخذ أقوال باشبوغ في التهم الموجهة إليه.
وكان رئيس هيئة الأركان الأسبق أكد “ضرورة البحث عن السياسيين الذين قدموا للبرلمان عام 2009 مقترحا قانونيا تم من خلاله إقصاء القضاء العسكري ومحاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية، فإذا أنكرتم وجود الذراع السياسية لمنظمة غولن فسوف يكون ذلك مخالفا للحقيقة”.
قال باشبوغ في فبراير/ شباط الماضي خلال برنامج على قناة (سي أن أن) التركية إن حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان دخل في “تحالف كامل” مع ما وصفه بـ”منظمة فتح الله كولن”، من عام 2007 إلى عام 2011، معيدًا للأذهان مقولة أردوغان: “قدمتُ لهذه الجماعة كل ما طلبت منّا”، على حد زعمه.
وبعد أن كانت حركة الخدمة حليفة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بدأ الرئيس التركي يشوه الحركة ومؤسسها المفكر الإسلامي فتح الله كولن، ووضعها على قائمة “الإرهاب” واتهمها بتدبير انقلاب 2016، وقيادة تحقيقيات الفساد والرشوة في 2013 التي تورط فيها وزراؤه.
وأضاف باشبوغ أن الرئيس أردوغان كافح بمفرده ضد حركة الخدمة من عام 2013 حتى عام 2016، ثم استدرك قائلاً: “لكن يجب علي أن أقول إن أردوغان هو المسؤول السياسي عما شهدتها تركيا بدءًا من عام 2007 حتى عام 2011″، في إشارة منه إلى التحقيقات التي استمرت خلال هذه الفترة ضد تنظيم أرجنكون الأوراسي (الموالي لروسيا والصين) المتهم بمحاولة الانقلاب ضد حكومات العدالة والتنمية منذ عام 2003 حتى تحالف أردوغان مع هذا التنظيم بعدما بات في موقف حرج عقب ظهور فضائح الفساد والرشوة في عام 2013.
تطرق باشبوغ إلى تاريخ انتشار حركة الخدمة في تركيا أيضًا قائلاً: “منظمة فتح الله كولن قويت شوكتها وزاد نفوذها أساسًا في عهد كل من طرغوت أوزال (رئيس تركيا الأسبق)، وبولند أجاويد (الزعيم اليساري ورئيس الوزراء الأسبق). فقد رفضا إغلاق مؤسسات الجماعة التعليمية. وكذلك الأمر بالنسبة للسيدة تانسو تشيلر (رئيسة الوزراء سابقًا)، إذ تعاطفت معها كذلك. أما الراحل نجم الدين أربكان (زعيم حزب الرفاه الإسلامي ورئيس الوزراء الأسبق) فكان يضع مسافة بينه وبين هذه الجماعة”.
بينما قسّم إيلكر باشبوغ، عهد أردوغان إلى ثلاثة فترات؛ الفترة الألى هي الفترة التي تمتد من عام 2002، حيث وصل إلى الحكم، حتى عام 2007، وأفاد أنه في هذه الفترة فضل نهج “سياسة قائمة على علاقات جيدة مع جماعة فتح الله كولن، وعدم الصراع مع المؤسسة العسكرية”، وتابع: “لكن حكومة حزب العدالة والتنمية (أردوغان) دخلت في تحالف كامل مع هذه الجماعة من 2007 حتى 2011، وبالتالي هي المسؤول السياسي من الأحداث التي شهدتها البلاد بين تلك الفترة الثانية”، في إشارة منه إلى تحقيقات تنظيم أرجنكون. أما الفترة الثالثة فهي فترة تحالف أردوغان معهم، أي مع تنظيم أرجنكون ضد الجماعة منذ 2013 حتى اليوم، على حد تعبيره.
بمعنى أن الجنرال باشبوغ، بوصفه أحد أبرز قادة تنظيم أرجنكون، طالب أردوغان بـ”دفع الثمن” باعتباره “الذراع السياسية لمنظمة فتح الله كولن”، التي وقفت وراء تحقيقات وقضية تنظيم أرجنكون، وذلك بعدما تمكن الطرفان (أردوغان وأرجنكون)من تصفية “ذراع المنظمة المدنية” (حركة الخدمة) من خلال عمليات الفصل والاعتقال التي نفذها وما زال ينفذها في أجهزة الدولة منذ تحقيقات الفساد والرشوة في عام 2013 والانقلاب الفاشل في 2016.
رفع دعوى قضائية ضد باشبوغ
وكان الرد الأول على اتهامات باشبوغ جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك، حيث دعا في 4 فبراير/ شباط 2020 إلى تقديم شكوى ضد باشبوغ للسلطات القضائية بتهمة الإساءة إلى البرلمان، ليأخذ الراية منه الرئيس أردوغان بعد يوم واحد ويهاجم بشكل مباشر باشبوغ قائلاً: “هناك شخص سبق أن شغل منصب رئيس هيئة الأركان يظهر من حين لآخر على الشاشات التلفزيونية ويدلي بتصريحات مضللة للرأي العام. إنني أعرفه جيدًا. فهو يتذرع بهذا المقترح القانوني ويدلي بتصريحات تضع مجلسنا الموقر البرلمان في مرمى الاتهامات. لذا من أجل حماية حقوق البرلمان ومكانته أدعوكم إلى رفع شكوى عن ذلك الرجل أمام المحكمة على وجه السرعة؛ لأنه لا يحق لأي شخص، مهما كان، أن يشوّه سمعة البرلمان من الخارج من خلال اتهامات لا أصل لها. إن السعي لإلقاء ظل منظمة فتح الله كولن على البرلمان انطلاقًا من تعديل قانوني سانده جميع الأحزاب السياسية قبل نحو 11 عامًا ليس إلا عدم احترام لهذا البرلمان بأخفّ العبارات”.
واعتبر الرئيس أردوغان تصريحات رئيس الأركان الأسبق إيلكر باشبوغ “هجومًا متعمدًا” على إرادة البرلمان وحصانة البرلمانيين على حد سواء، ووصفها بأنها نابعة من عقلية تشتاق إلى أيام “الوصاية العسكرية” في البلاد، وفق تعبيره.
بعد دعوة أردوغان هذه، نشر باشبوغ، في 6 فبراير/ شباط، عدة تغريدات، قال فيها إنه يرفض تصريحات أردوغان، وأضاف متحديًا: “لا يوجد أي شيء يمكنه أن يمنعنا عن قول الحقائق التي تمليها علينا ضمائرنا في إطار حبنا واحترامنا للقوات المسلحة التركية والشعب”.
واعترف باشبوغ في تغريداته بأنه بدأ يكافح ضد ما سماه “منظمة فتح الله كولن” منذ أن تسلم منصب رئاسة الأركان في 28 أغسطس/ آب 2008، وأن المقترح القانوني المذكور لو لم يتم سنّه لكان بالإمكان توجيه ضربة قاضية لهذه المنظمة في عام 2009، وذلك على الرغم من عدم وجود أي قرار قضائي في ذلك الوقت يصف حركة الخدمة بـ”المنظمة الإرهابية”.
وبعد يوم واحد من دعوة أردوغان ورد باشبوغ عليها، تقدم ستة نواب برلمانيين (في 7 فبراير/ شباط 2020) من حزب العدالة والتنمية بشكوى إلى النيابة العامة ضد باشبوغ والنائب البرلماني من صفوف حزب الشعب الجمهوري ورئيس شعبة الحرب النفسية في القوات المسلحة سابقًا دورسون جيجك، بتهمة “إهانة الموظف” و”الافتراء”.
وفي اليوم نفسه نشر موقع “أودا تي في” (Oda TV)، الذي يعتبر من أبرز المواقع الإلكترونية التابعة للجناح التجديدي لتنيظم أرجنكون، خبرًا بعنوان: “بدء تحقيقات بتهمة الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن تمتد إلى عائلة أردوغان”، بحق رجل الأعمال الأذري الحاصل على الجنسية التركية مانسموف قربان أوغلو الذي خطف الأضواء عليه بعلاقاته الوطيدة مع نجل أردوغان بلال، ولفت الموقع إلى أن السلطات القضائية فرضت حظرا على سفره خارج تركيا في إطار التحقيق، ثم اعتقلته السلطات في منتصف مارس المنصرم.
وفي ذلك الوقت ظهر أن أردوغان اتخذ خطوة مهمة للغاية أثناء زيارته لأوكرانيا في 4 شباط / فبراير، حيث طالب السلطات الأوكرانية بتسليم نوري جوكهان بوزكير، المزعوم بأنه “قاتل المثقف التركي نجيب حبلميت أوغلو” في عام 2002، مؤكدًا أن موضوع تسليمه مهم للغاية بالنسبة له، وهو الأمر الذي يعني أن أردوغان يخطط للهجوم على باشبوغ من خلال عملية الاغتيال هذه التي تقول ملفات المحكمة المعنية إن تنظيم أرجنكون من يقف وراءها.
ثم انضم إلى النقاش في 8 فبراير/ شباط نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، تونجاي أوزكان، المحكوم عليه سابقًا في إطار قضية أرجنكون أيضًا، ليتهم الرئيس أردوغان بشكل صارخ بأنه “الذراع السياسية لمنظمة فتح الله كولن”.
وفي 10 فبراير/ شباط الفائت تدخل في الموضوع وزير العدل الأسبق، سعد الله أرجون، ليرفض الاتهامات الموجهة إلى السياسيين الذين قدموا مشروع القانون الذي تحدث عنه باشبوغ إلى البرلمان، قائلاً: “هذا المقترح القانوني تمّ سنّه في إطار التعديلات القانونية التي كان يجب على تركيا بموجب مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد تم نقاشه في البرلمان وحظي بدعم جميع الأحزاب السياسية في ذلك الوقت، بما فيها حزب الشعب الجمهوري. لذا لا يمكن قبول تقديم عملية تشريعية جرت بصورة شفافة تحت سقف البرلمان وكأنها جريمة مرتبطة بالإرهاب”.
ومنذ بدء هذه الاتهامات المتبادلة بين أردوغان وباشبوغ الذي ينتمي إلى الجناح التجديدي لتنظيم أرجنكون تشهد تركيا حملة اعتقالات ضد الصحفيين والكتاب العاملين في موقع أودا تي في، في حين أن أردوغان يحتفظ بعلاقاته الوطيدة مع الجناح التقليدي لهذا التنظيم من خلال زعيم حزب الوطن اليساري المتطرف دوغو برينجك، حيث أعلن البرلماني السابق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، شامل طيار، استقالته بشكل مفاجئ من منصب نائب رئيس الدعاية والإعلام في حزبه في أعقاب هجوم شرس شنّه على برينجك، واصفًا إياه بـ”مرشد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان”، و”المحب للانقلابات العسكرية”، ثم قال عنه: “إن الذين يحبون روسيا والصين وإيران أكثر من تركيا والذين تحولوا إلى بيادق وأدوات للبؤر الظلامية.. عليكم أن تذهبوا إلى قمامتكم فلا يمكنكم أن يتقاطع طريقكم مع حزب العدالة والتنمية.. ويجب عليكم أن تعرفوا حدودكم”.
ومن ثم أعلن فرقان جوكشين، عضو حزب الوطن بقيادة برينجك، أنه تم تعيينه مستشارًا لـ”أوكتاي سارال” الذي يشغل منصب كبير المستشارين لرئيس جمهورية تركيا، عضو المجلس الرئاسي لسياسات الحكم المحلي، مما يدل على استمرار التحالف والتعاون بين أردوغان والجناح التقليدي لتنظيم أرجنكون.
باشبوغ سبق أن زج به في السجن لمدة 26 شهرا، إثر إدانته بالانتماء لتنظيم “أرجنكون” أو ما يعرف إعلاميا بـ”الدولة العميقة” قبل الإفراج عنه في مساومة مع نظام أردوغان إثر فضائح الفساد والرشوة في 2013.
وبدأت قضية أرجنكون بعد ضبط 27 قنبلة يدوية في إحدى الشقق بحي عمرانية في إسطنبول يوم 12 يونيو/حزيران 2007. واعتقل بسببها العشرات من الجنرالات ورجال الدولة بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة برئاسة أردوغان.
واستمرت القضية 6 أعوام وشهرين، وفي 5 أغسطس/آب 2013 العام الذي شهد لاحقا تحقيقات الرشوة والفساد التي تورط فيها وزراء بحكومة أردوغان آنذاك والتي أمر بصفته رئيس الوزراء بإغلاقها، قضت المحكمة بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة إضافة إلى السجن 99 عاما على اللواء المتقاعد “ولي كوجك”، وبالسجن المؤبد على باشبوغ، والمؤبد مع الأعمال الشاقة على رئيس حزب الوطن “دوغو برينجك”، إضافة إلى أحكام مختلفة بحق باقي المتهمين.
وكان رئيس تحرير موقع “خبردار”، المحلل السياسي سعيد صفاء قال إن جميع الأوراسيين (أعضاء تنظيم أرجنكون) يتبنون فيما بينهم الأيديولوجية والخطط والمشاريع ذاتها، لكنهم ينقسمون إلى تقليديين وتجديديين في صراعهم ضمن أجهزة الدولة، لافتًا إلى أن التقليديين تمحوروا حول صحيفة “أيدينليك” الموالية لبرينجك، في حين تحلق التجديديون حول موقع أودا تي في.
وقال صفاء إن الخلاف بين التجديديين والتقليديين للأوراسيين وصل إلى أوجه في 2005 بعدما أعلن موقع أودا تي في أن برينجك هو مشروع للمخابرات التركية، وأنه بفضل ذلك يضمن أن يكون “رجل كل فترة” مهما كانت السلطة الحاكمة، ونوه بأن جناحي الأوراسيين أجّلا الصراع على السلطة بينهما في أعقاب بدء تحقيقات تنظيم أرجنكون في 2007.
ومع تواصل اعتقال صحفيين من موقع “أودا تي في” التابع للجناح التجديدي للأوراسيين بتهمة الكشف عن “أسرار عسكرية” بعد نشرهم أخبارًا عن مقتل عناصر استخباراتية على الأراضي الليبية، إلا أن علاقة الرئيس أردوغان مع حزب الوطن وزعيمه دوغو برينجك الذي يمثل الجناح التقليدي لا تزال قوية وإن استمر الصراع بين الطرفين على السلطة.
_