تقرير: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – يحرض حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الإسلاميين على العلمانيين؛ بينما حليفه حزب الحركة القومية يسلط القوميين على الأقليات، بهدف إثارة صراع علماني إسلامي من جانب، وصراع بين الأتراك والقوميات الأخرى من جانب آخر، ومن ثم تحويل الطاقة المتولدة من ذلك إلى قوة سياسية.
فقد أعلنت مديرية الأمن العام في تركيا اليوم السبت إلقاء القبض على شخص يشتبه في توجيهه تهديدات بالقتل لجمعية “هرانت دينك” الأرمنية التي تأسست بعد اغتيال الصحفي التركي أرمني الأصل هرانت دينك في عام 2007.
وجاء في بيان لمديرية الأمن أن تتبع فرق الأمن التقني للعنوان البريدي الإلكتروني التابع للمشتبه به المدعو (هـ. أ) قادها إلى عنوان في مدينة قونيا وسط تركيا، مشيرًا إلى أن شعبة مكافحة الإرهاب في المدينة قامت باحتجاز المشتبه به لتبدأ بعده الإجراءات القضائية بحقه.
وكانت جمعية هرانت دينك قالت في بيان نشرته يوم الجمعة إنها تلقت تهديدًا بالقتل عبر البريد الإلكتروني، مفيدةً أن الرسالة الإلكترونية طالبت الجمعية بمغادرة تركيا، وهددت راكيل دينك، أرملة هرانت دينك، والمحامية في الجمعية، بالقتل، بالإضافة إلى اتهامها بـ”فبركة حكايات وقصص في الأخوة بين الأتراك والأرمن”.
وجاء هذا التهديد بالقتل بعد هجومين مختلفين على كنائس أرمينية في إسطنبول خلال هذا الشهر.
ومن اللافت أن رسالة التهديد تضمنت عبارة: “قد نباغتكم في أية ليلة حيث لا تتوقعون!”، وهو شعار تستخدمه الجماعات القومية المتطرفة بشكل متكرر، وهو نفس الشعار الذي اعتاد الرأي العام على سماعه قبل اغتيال هرانت دينك في وضح النهار في 19 يناير 2007، تحت علمِ ومعرفة الهيئات الرسمية، على حد تعبير بيان الجمعية.
الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي عقد تحالفًا مع حزب الحركة القومية منذ 2016، هو الآخر الذي استخدم عبارة “قد نباغتكم في أية ليلة حيث لا تتوقعون” قبل العمليات العسكرية في سوريا.
علي باباجان، زعيم حزب الديمقراطية والتقدم، علق على التهديدات الموجهة للجمعية الأرمنية عبر تويتر قائلا: “التهديدات ضد جمعية هرانت دينك هي نتاج طبيعي للمناخ السياسي السائد في البلاد الذي يشجع على التمييز. سوف ندافع عن الجميع ضد التمييز والعنصرية، ولن نتخلى عن راكيل دينك وزملائها في الجمعية”.
في حين قال مدحات سانجار، الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد على تويتر: “أولئك الذين قتلوا صديقنا العزيز هرانت دينك قبل 13 عامًا يرسلون الآن تهديدات بالقتل إلى جمعية هرانت دينك أيضًا! نحن نقف إلى جانب الجمعية ضد بؤر الشر هذه التي تغذي وتشجع عقلية تنشر خطاب الكراهية وتطبّع العنصرية”.
من حانبه اتصل زعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، الذي انفصل عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، بالسيدة براكيل دينك للتضامن معها ومع الجمعية. وقال الحزب في بيان صادر عنه: “إن القتال سويا من أجل بناء وترسيخ القانون والعدالة والسلام الاجتماعي سيكون الرسالة الأكثر أهمية وقوة لهذه القوى المظلمة”.
جدير بالذكر أن النظام الحاكم في تركيا اليوم يتكون من عنصرين أساسيين، وهما: القوميون المتطرفون الذين يمثلهم حزب الحركة القومية؛ والإسلاميون المتشددون الذين يمثلهم حزب العدالة والتنمية. ويحاول حزب الحركة القومية الحفاظ على دعم القوميين من خلال الهجوم على القوميات الأخرى في البلاد، مثل الأرمن والأكراد، في مسعى لإثارة مشاعر قومية وتحويلها إلى قوة ونفوذ سياسي. ومن جانب آخر يقوم بالأمر نفسه حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان في الشارع الإسلامي عن طريق الهجوم على العلمانيين.
يذكر أن هرانت دينك الراحل تعرض لمحاكمات عدة بتهمة “تشويه سمعة تركيا” و”إهانة الهوية التركية” قبل اغتياله، لمجرد أنه كان يتحدث بشكل متكرر عن ضرورة الاعتراف بحقوق الأرمن في تركيا.
الخلفية التاريخية لاغتيال هرانت دينك
وكانت تركيا اهتزت في 19 يناير 2007 بعملية اغتيال دينك إذ كان رئيس تحرير صحيفة “أغوس” الصادرة باللغتين الأرمنية والتركية، وذلك أمام مقر الصحيفة بمدينة إسطنبول على يد “شاب قومي تركي” يدعى “أوغون ساماست” لم يتجاوز عمره 17 عامًا.
تمكنت السلطات الأمنية من إلقاء القبض على ساماست في مدينة سامسون الواقعة على البحر الأسود إذ كان يركب حافلةً تتجه إلى طرابزون، وذلك بعد حوالي 32 ساعة من العملية.
رئيس الوزراء آنذاك (2007) أردوغان اعتبر عملية اغتيال دينك ضمن “المساعي الخائنة الرامية إلى إثارة الفتنة والعنف والإضرار بالحياة الديموقراطية في تركيا”، متعهدًا بأن حكومته ستبذل كل ما بوسعها للكشف عن ملابسات الجريمة في أقرب وقت وإزاحة الستار عن الحقيقة كاملة.
بينما اتهم رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض دنيز بايكال حكومة أردوغان بالتغاضي عن التهديدات التي وجهها القوميون الأتراك إلى دينك، وعدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع مقتله، على الرغم من وصول بلاغ إلى الأجهزة الأمنية يفيد بوجود مخطط لاغتيال دينك.
في حين رأت الأحزاب الكردية في اغتيال دينك فرصة جيدة لإعادة طرح قضية أو ملفّ “جنايات مجهولة الفاعل” التي ارتكبتها تنظيمات مسلحة ذات صلة بتنظيمي غلاديو وأرجنكون في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية بحجة مكافحة حزب العمال الكردستاني، لذا طالبت بتوسيع التحقيقات لتشمل كل الاغتيالات السابقة في البلاد.
أما رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي فزعم أن هدف العملية تقديم ذريعة للقوى الكبرى لمنع تركيا من التدخل العسكري في الشمال العراقي وتنفيذها عمليات خارجية ضد الانفصاليين الأكراد الراغبين في تأسيس دولة كردية في المنطقة. وهذا التصريح الأخير اعتبره الرأي العام سعيًا منه للتستر على الدور الذي لعبه بعض القوميين الأتراك في التحريض ضد الكاتب دينك.
حضر مراسم تشييع جنازة دينك أكثر من 50 ألف شخص، (يرفع بعض المصادر هذا الرقم إلى 100 ألف)، بينهم عدد كبير من الأتراك، الأمر الذي حمل إيزابيل كورتيان، التي تعد واحدة من الشخصيات البارزة للشتات الأرمني للقول: “مشاركة الأتراك في جنازة هرانت دينك بهذه الكثرة الكاثرة واحتضانهم له إلى هذه الدرجة أحدثت في أنفسنا تأثير هزة صادمة”.
أكد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه ليس نادمًا على اغتياله لدينك، بل تطاول في الأمر وأعلن أنه مستعد لتنفيذ عمليات مماثلة أخرى في سبيل “الدفاع عن الوطن”. ونفى وجود أي صلة له بأشخاص آخرين، زاعمًا أنه نفذ العملية من تلقاء نفسه بدون توجيه من أحد بعد أن شاهد في الصحف والمواقع الإلكترونية أخبارًا تتهم دينك بإهانة “الهوية التركية” التي تعتبرها المادة 301 من قانون العقوبات التركي جريمة.
على الرغم من نفي ساماست صلته بأي تنظيم أو جهة، إلا أن عديدًا من المواقع الإلكترونية نشرت لاحقا صورًا له برفقة رجال شرطة وهم يبتسمون أمام العلم التركي. فضلاً عن ذلك فإنه انتشرت على المواقع أيضًا صور التقطت في مركز الشرطة تجمع القاتل ساماست وعددًا من عناصر الأمن “الفرحين”، وتضمّ لافتةً تحمل قول أتاتورك “مصلحة الوطن أعلى من أن تترك للأقدار لتحدد مسارها”، على حد قوله. كل هذه الفضائح دفعت السلطات إلى فتح تحقيقات بحق الموظفين المعنيين وإبعادهم عن مناصبهم.
في حين لفت محامي هرانت دينك إلى أنّ “القاتل ساماست ليس إلا الإصبع الذي ضغط على الزناد”، مشيرًا إلى وجود أيادٍ مظلمة ذات أغراض مشئومة وراء عملية الاغتيال.
ويرى رئيس تحرير صحيفة “بوجون” سابقًا الكاتب الصحفي المخضرم “آدم يافوز أرسلان” الذي ألف كتابًا مستقلاً حول هذه الحادثة، أن اغتيال المثقف الأرمني هرانت دينك كان من أحد العمليات الصادمة التي ارتكبها أرجنكون / الدولة العميقة، الذي يقوم نهجه على توجيه دفة الحكومة والسياسة من خلال الفوضى والبلبلة، وتشكيل إدراك الرأي العام عبر عمليات غسيل الأدمغة واختراق العقول بصورة محترفة. فالمخططون للعملية أرادوا جني عديد من الثمرات، أهمها تحطيم الجسور بين الشعبين الأرمني والتركي، وإحراج حكومة أردوغان آنذاك في الساحة الدولية، والدفع بتركيا إلى الانغلاق على ذاتها مرة أخرى، ومنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان دينك تعرّض في الشهور السابقة لاغتياله لمضايقات كثيرة وتهديدات بالقتل من القوميين المتطرفين أيضًا عبر البريد العادي والإلكتروني ورسائل قصيرة على هاتفه الخلوي وسط نقاشات دارت حينها حول المادة 301 المتعلقة بحماية الهوية التركية. ولا شك أن مبادرة السلطات القضائية إلى إدانة دينك بإهانة “الهوية التركية” ومعاقبته بالحبس ستة أشهر في 2006، مع وقف التنفيذ، ساعدت أرجنكون في أن يجعل دينك هدفًا مفتوحًا للشباب القوميين المتحمسين. حتى إن الجنرال ولي كوتشوك الذي حكم عليه فيما بعد في إطار قضية أرجنكون حضر المحكمة أثناء إحدى جلسات محاكمة دينك بتهمة الإساءة إلى الهوية التركية ووجه له تهديدات.
وأفاد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه خطط لعملية الاغتيال بتعليمات من المدعو “ياسين خيال” المنتمي إلى التيار القومي أيضًا. وكان خيال قد تورط عام 2004 في حادثة إلقاء قنبلة على مطعم بمدينة طرابزون أسفر عن جرح ستة أشخاص. وكشفت التقارير أنه تواصل مع ساماست في 19 يناير 2007، وزرع في دماغه فكرة اغتيال دينك، وزوده بالسلاح والرصاص، وقدم له دعمًا ماليًّا. واعترف خيال بعد الاستجواب معه بأنه خطط للعملية بالتعاون مع “أرهان تونجيل” المعروف باسمه الحركي “محمد كورت”، والذي تبين أنه عمل “مخبرًا” لمديرية أمن إسطنبول فترة من الزمان.
بدأت قضية اغتيال دينك بمحاكمة 18 متهمًا في الوهلة الأولى، بينهم 12 شخصًا منهم خلف القضبان، وارتفع هذا الرقم إلى 20 شخصًا بعد إعداد مذكرات اتهام إضافية بين أعوام 2008 و2009.
بعد مرور حوالي 5 سنوات على بدء المحاكمة، أبدى “حكمت أوسطا”؛ المدعي العام المشرف على قضية اغتيال دينك رأيه في سبتمبر 2011 استنادًا إلى الأدلة المتوفرة لديه قائلاً: “لقد توصلنا إلى أن عملية اغتيال دينك ليست من عمل بضعة شباب قوميين متحمسين، بل يقف وراءها إحدى خلايا تنظيم أرجنكون الإرهابي في مدينة طرابزون بقيادة كل من أرهان تونجيل وياسين خيال الذين لفتا الانتباه بعملهما في سرية تامة ومراعاتهما لقواعد الخصوصية والتسلسل الهرمي التنظيمي”.
وعاقبت المحكمة في يوليو 2011 القاتل ساماست (17 عامًا) بالحبس لمدة 22 عامًا و10 أشهر فقط لعدم وصوله إلى السن القانوني للأهلية، بتهمة “القتل العمد” و”حيازة سلاح غير مرخص”، بينما لم ترَ المحكمة عملية الاغتيال “جريمة منظمة”، وقامت بتبرئة ساحة جميع المتهمين في إطار القضية من تهمة “عضوية تنظيم إرهابي”! وكذلك أنزلت المحكمة عقوبة الحبس المؤبد على ياسين خيال بتهمة “التحريض على القتل العمد”، في حين قضت بحبس أرهان تونجيل 10 سنوات و6 أشهر والإفراج عنه في الوقت ذاته آخذًا بنظر الاعتبار السنوات التي قضاها في السجن.
وعلى الرغم من أن أردوغان وعد بالتوسع في التحقيقات وكشف الستار عن المجرمين الحقيقيين في أقصر وقت ممكن، إلا أن قرار تبرئة المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي أصاب الرأي العام وعائلة دينك بالصدمة، وأثار المخاوف من إغلاق القضية وطمس الأدلة والخيوط التي تؤدى إلى تنظيم أرجنكون. لذا قالت محامية عائلة دينك فتحية تشاتين للصحفيين عقب هذا القرار: “لقد مر على عملية الاغتيال 5 سنوات، لو كان دينك حيًّا لقال: إنهم يستهزؤون بنا؟ يبدو أنهم أعدوا لنا المفاجئة الكبرى في نهاية القضية؛ إذ يزعمون أن هذه العملية ليست جريمة منظمة ولا يقف وراءها تنظيم بل ارتكبها بضعة من الشباب المتحمسين. فعلاً لم نكن نتوقع أن يوصلوا الأمر إلى هذا الحد”.
وكانت راكيل دينك؛ زوجة دينك قالت في خطاب ألقته في مراسم الجنازة: “القاتل يبلغ من العمر 17 عامًا.. مهما كان عمره أو هويته فإننا نعلم أنه كان طفلاً في وقت من الأوقات، لذا ينبغي علينا أن نحاسب هذا الظلام الذي يخرج من الأطفال قتلة”.
طعنت أسرة دينك في القرار لدى المحكمة العليا، ووافقت عليه الدائرة التاسعة للمحكمة في مايو 2013، وألغت حكم البراءة عن المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي، وطالبت بإعادة محاكمتهم مجددا بتهمة عضوية تنظيم “إجرامي” بدلا من تنظيم “إرهابي”، بالإضافة إلى توسيع دائرة التحقيقات. وتبين بعد التحقيقات الجديدة أن المخبر أرهان تونجيل أبلغ مديرية أمن طرابزون باستعداد وتخطيط ياسين خيال لاغتيال دينك، وأن أمن طرابزون زود بهذه المعلومة كلاً من مديرية الأمن العام ومديرية أمن إسطنبول. وعلى خلفية هذه التطورات وشكوى عائلة دينك أطلقت وزارة الداخلية تحقيقًا مباشرًا حول المسؤولين المقصرين في واجباتهم ليشمل التحقيقات 86 شخصًا، 30 منهم خلف القضبان، بما فيهم قائد قوات الدرك في طرابزون العقيد “علي أوز” والشرطيين الذين التقطوا صورًا مع القاتل ساماست أمام العلم التركي عندما ألقي القبض عليه في مدينة سامسون، إلا أن السلطات فشلت لفترة طويلة في استصدار تصريح بالتحقيق مع بعض كبار المسئولين. وتضمنت قائمة الأسماء المطلوبة معاقبتها في لائحة الاتهام أسماء كبار مسئولي الأمن في تلك الفترة بينهم: مدير أمن إسطنبول جلال الدين جراح، ومدير شعبة الاستخبارات أنجين دينج، ومدير أمن طرابزون رشاد آلتاي، ونائب مدير شعبة الاستخبارات حسن دورموش أوغلو وغيرهم. لكن المحكمة طالبت بإخلاء سبيل مجموعة من الموظفين الأمنيين المقصرين في واجباتهم عام 2017 لينخفض بعده عدد المتهمين في إطار القضية إلى 16 شخصًا فقط.
دينك: همزة وصل بين الأرمن والأتراك
يعتبر هرانت دينك من أهم المثقفين الأرمن الذين دافعوا عن ضرورة نقاش الخلافات التاريخية بين الأرمن والأتراك بعيدًا عن الأغراض السياسية، والالتئام حول قواسم إنسانية مشتركة عليا، والتعايش السلمي جنبًا إلى جنب. وهو انطلاقًا من هذه الرؤية بدأ يصدر صحيفة “آغوس” باللغتين الأرمنية والتركية اعتبارًا من 5 أبريل عام 1996، وأراد لها أن تكون “همزة وصل” بين الشعبين الذين عاشا في أمن وسلام طيلة قرون طويلة في ظل الدولة العثمانية بحيث وصف الأرمن بـ”الملة الصادقة”، أي الأمة الصادقة للدولة العثمانية. وكان دينك يهدف إلى تحطيم الأحكام المسبقة بين الشعبين بحق بعضهما البعض، ويشكو من انطواء المجتمع الأرمني على ذاته وانغلاقه على الأتراك.
ومع أن دينك كان يدعو تركيا إلى الاعتراف بالأعمال الإجرامية المرتكبة في فترة الانتقال من العهد العثماني إلى العهد الجمهوري، إلا أنه كان يعارض استغلال هذه القضية في تحقيق مصالح سياسية. ففي مقاله الذي نشره بـ”آغوس” في سبتمبر 2006 رفض دينك مشروع القانون الفرنسي الذي كان يقضي بفرض عقوبات على منكري المجازر في حق الأرمن، انطلاقًا من أن ذلك يتناقض مع مبدأ حرية التعبير عن الآراء من جانب، ومن جانب آخر يختزل قضية قومية كبيرة في ورقة ضغط سياسية تلوح بها الدول الغربية في وجه تركيا عند الحاجة لتبرير موقفها الرافض للانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
نظرة سريعة على تصريحات دينك حول هذه القضية تكفينا لفهم السبب الذي جعله هدفًا للقوى الظلامية، حيث يقول في مقطع فيديو نشرته القنوات التركية والمواقع الإلكترونية قبل وفاته: “نحن الأرمن والأتراك شعبان مريضان في علاقاتهما الثنائية. فالأرمن يعيشون حالة صدمة نفسية كبيرة، في حين أن الأتراك يعيشون حالة جنون الارتياب / البارانويا. وكلا الأمرين حالة مرضية لا بد من معالجتها. لكن من الذي سيعالج مرض هذين الشعبين؟ فهل قرار مجلس الشيوخ الفرنسي أم الأمريكي سيعالج مرضنا؟ ما هي الوصفة الطبية الناجعة لمرضنا؟ ومن هو الطبيب الذي سيعالجنا يا ترى؟ بحسب رأيي، الأرمن هم طبيب الأتراك؛ والأتراك هم طبيب الأرمن! فليس هناك أي طبيب آخر أو وصفة طبية أخرى لمرضنا! فالحوار بين الأتراك والأرمن هو العلاج الوحيد لهذا المرض. وأخاطب الشتات الأرمني وأقول لهم: لا تتوقفوا عند الإبادة التركية للأرمن في 1915، لا تربطوا أنفسكم بهذا التاريخ، ولا تطوقوا أنفسكم باعتراف العالم بهذه الإبادة أو رفضها. نعم إن هذه الظاهرة تراجيدية تاريخية عاشها أجدادنا. هناك مقولة جميلة في الأناضول -ونحن أبناء الأناضول- وهي: تحمّل الألم بشرف! من دون إثارة صخب وضجيج. وأنا أقول للعالم: إن اعترافك بالإبادة التي تعرض لها الأرمن أو رفضك لها ليس له أي قيمة في نظري. ألم يقتل الأرمن الأتراك أيضًا؟ بلى قد قتلوهم في عام 1918. إني أكره وألعن مفهوم الانتقام! لذا أطلب من الأتراك أن يتعاطفوا مع الأرمن قائلين: ’لماذا يا ترى يصر الأرمن على تعرضهم لإبادة جماعية‘؛ كما أطلب من الأرمن أن يتعاطفوا مع الأتراك ويلتمسوا عذرا لرفضهم الإبادة؛ لأنهم يقولون: ’أجدادي لا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا مثل هذه الجريمة البشعة، لأننا لا يمكننا أن نرتكب مثل هذه الجريمة”.
مثقفو تركيا من أمثال دينك كانوا يشكلون أكبر عائق أمام تحقق أهداف تنظيم أرجنكون الذي يستمد حياته من المشاكل. سِمة أرجنكون هذه تجعله يتخذ كل إنسان أو حركة تدعو إلى السلم والحوار والانفتاح عدوًا لنفسه يجب شيطنته والقضاء عليه بأي وسيلة كانت. وكان دينك يأتي في مقدمة الشخصيات المثقفة التي تنادي بتحكيم العقل والمنطق ولغة السلم والحوار بين الأتراك والأرمن، ما جعله هدفًا لهذا التنظيم. لذا نرى أن وسائل الإعلام المرتبطة بأرجنكون بدأت تثير الموجة القومية التركية / الطورانية – تمامًا كما يفعل في هذه الأيام – وتحرض القوميين الأتراك ضده ليجعله لقمة سائغة للشباب القوميين المثارة مشاعرهم الوطنية.
وعلى الرغم من أن أردوغان تعهد على نفسه التوسع في التحقيقات وكشف القناع عن بصمات البؤر العميقة التي تقف وراء مثل هذه العمليات المحرجة لتركيا في الداخل والخارج، إلا أن هذه القضية كسابقاتها من القضايا المتعلقة بأرجنكون تم تمويهها وتضليلها وتوجيهها إلى نقاط لا صلة لها بجوهر الموضوع. يشير الكاتب الصحفي آدم ياوز أرسلان، وهو الذي ألف أشمل كتاب في اغتيال دينك وكشف عن الملابسات السابقة واللاحقة للعملية، إلى نقطة مهمة، حيث قال في حوار تلفزيوني: “إن أيادي خفية سعت إلى حصر المجرمين في القاتل وصلاته المحدودة، ووجهت الرأي العام للتركيز على قصور بعض المسئولين الأمنيين في اتخاذ تدابير كفيلة بحماية دينك رغم البلاغ الذي وصلهم، وذلك للتكتم على المجرمين الحقيقيين وإحفاء بصمات تنظيم أرجنكون”.
في نهاية المطاف استطاع عناصر جناح أرجنكون القومي التركي الهروب من قبضة العدل رغم ارتكابهم أحد أكبر عمليات الاغتيال صدمةً طيلة العهد الجمهوري في وضح النهار. فمع أن المجرمين الذين قتلوا هرانت دينك كانوا معروفين بأسماءهم وهوياتهم، وأن السلطات تعهدت على نفسها بالاستمرار في التحقيقات مهما توسعت، إلا أن أيدي أرجنكون الطويلة عرقلت مرة أخرى تكلّل جهود جهاز القضاء الرامية إلى الكشف عن أبعاد هذا التنظيم بالنجاح.