القاهرة (زمان التركية)ــ يواجه الإقتصاد العالمى ركودًا جديدًا يعتبر الأكثر حدة منذ أزمة الكساد الكبير 1929-1933، وهو الركود الذى كان متوقعًا حدوثه خلال العام الحالى 2020، من قبل العديد من المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى نتيجة تباطؤ النمو الإقتصادى العالمى فى الفترة الأخيرة.
ولكن الركود الحالي فاق كافة التوقعات مع ظهور فيروس (كوفيد 19- المعروف باسم كورونا المستجد) فى نهاية عام 2019 بمدينة ووهان في إقليم هوبى بالصين، وسرعان ما إنتشر فى دول العالم بوصوله إلى 213 دولة ومنطقة، ولم يتوقف الأثر الواقع على الاقتصاد العالمى عند هذا الحد، وزيادة إنفاق الحكومات على قطاع الصحة وتضافر الجهود الدولية لمواجهة إنتشاره، بل أمتد الأمر إلى إتخاذ غالبية دول العالم إجراءات وقائية للحد من إنتشار الفيروس بتعليق حركة الطيران الدولية ومنع التجمعات وفرض حظر للتجوال كلى أو جزئى وحجر صحى على المواطنين، وهو ما ألقى بآثاره السلبية على النشاط الاقتصادى وطلب النفط وحركة التبادل التجارى بين الدول والسياحة العالمية. مما أعاد للأذهان الأزمة المالية العالمية 2008-2009، وكيفية نشأتها وتداعياتها وأوجه الشبه بينها وبين الركود العالمي الحالي الناجم عن تداعيات انتشار فيروس “كورونا”، وهو ما سيتم توضيحه فيما يلي ..
أولا: أبعاد نشأة الأزمتين:
جاءت حالة الركود التى يشهدها الاقتصاد العالمى حاليا وظهرت بشكل أكثر وضوحًا منذ شهر مارس 2020، لتختلف عما سبقها من أزمات إقتصادية ومالية على مر التاريخ، لاسيما مقارنة بالكساد العظيم (1929-1933) والأزمة المالية الكبرى (2008-2009)، واللتان تعتبران أكبر أزمات اقتصادية شهدها العالم خلال القرن الماضي، وتمثل هذا الاختلاف الرئيسى فى أن الأزمة الحالية لم تبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية وإنهيار سوق الأسهم بها، بل كانت جراء انتشار فيروس كورونا المستجد الذى بدأ ظهوره فى الصين ثم انتشر لسائر دول العالم وبلغ عدد المصابين به نحو 2 ونصف مليون نسمة، وبلغت الوفيات 167 ألف نسمة.
ولم يتوقف الأمر عند الخسائر البشرية جراء هذا الفيروس، بل تباطؤ وتراجع اقتصادات الدول، نتيجة تراجع النشاط الصناعى والضغط على الموازنات العامة بالدول والخسائر الضخمة للبورصات العالمية بتخارج المستثمرين منها من ناحية، ومن ناحية آخرى تراجع الاقتصادات نتيجة حظر التجوال وإجراءات العزل التى اتبعتها الدول للحد من انتشار الفيروس بين مواطنيها، مع تعليق رحلات الطيران الجوى، وبالتالى فإن استمرار هذا الركود العالمى سيؤدي لأزمة اقتصادية عالمية جديدة.
وكما اختلفت الأسباب المؤدية للأزمة الحالية عما سبقها من أزمات، فكيفية إنتهاء هذه الأزمة يختلف أيضًا عن الأزمات السابقة لها، وذلك لكون إنقضاء الأزمة الحالية مرتبط بتوقف إنتشار فيروس كورونا المستجد فى الدول وإنحساره بالشكل الذى يدفع لعودة النشاط الإقتصادى بالدول لما كان عليه قبل ظهور الوباء العالمى، وبالتالى يتوقف حجم التكلفة على مدة استمرار الأزمة، واستمرار توقف حركة النقل والسياحة عبر الحدود وغلق المصانع ومنع التجمعات.
ثانيا: مقارنة بين التداعيات السلبية للأزمتين:
يعتبر الركود العالمى الحالى 2020 أكثر حدة من الأزمة المالية العالمية 2008، وذلك من حيث الانخفاض فى أسعار النفط العالمى، وتراجع حجم التجارة العالمية ومعدلات البطالة وخسائر شركات النقل الجوى وتوقف العديد من المصانع حول العالم، كما امتدت هذه الخسائر إلى جميع دول العالم دفعة واحدة، بما فيها القارة الإفريقية التى كانت أقل تأثرًا بالأزمة المالية العالمية، لتعانى القارة من ركود للمرة الأولى خلال ربع قرن، بالإضافة إلى ما يواجهه العالم حاليًا من مجاعة عالمية محتملة، مع إغلاق معظم الدول لحدودها وصعوبة عمليات نقل الغذاء، حسب توقعات برنامج الغذاء العالمى فى 9 أبريل 2020، وهو ما سيتم توضيحه فى النقاط التالية:
- خسائر السياحة العالمية:
أصبحت السياحة العالمية أمام تحدى جديد يعتبر الأسوء من نوعه، جراء تفشى فيروس كورونا المستجد، ويعتبر هذا القطاع من أشد القطاعات تضرراً من تفشى الفيروس الذى شملت آثاره كل من جانبى العرض والطلب للسفر فى كافة دول العالم بدءًا من نهاية فبراير 2020، حتى قدرت منظمة السياحة العالمية فى بيان لها صدر يوم 13 مارس 2020، أن عدد السياح الدوليين في العالم قد ينخفض خلال العام الحالى 2020 بنسب تتراوح بين 20-30%، مقارنة بإنخفاض قدره 4% فى ظل الأزمة المالية العالمية.
- تراجع النمو الإقتصادى العالمى:
أدى الركود والانكماش المستمر خلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، إلى تراجع كبير فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وانخفض معدل نمو الناتج من 4.32% عام 2017 إلى 1.85% و-1.68% عامى 2008 و2009 على التوالى، فى المقابل من المتوقع أن يشهد فى النمو الاقتصادى انكماش بنسبة 3% خلال عام 2020، وفقا لتقرير صندوق النقد الدولى عن آفاق الاقتصاد العالمى الصادر فى 14 أبريل 2020، بدلا من 3.3% كانت متوقعة فى تقرير الصادر فى يناير 2020.
- تراجع أداء البورصات العالمية:
يعد مؤشر داو جونز الصناعي “DJIA” الأهم بالعالم حيث إنه يعبر عن أكبر 30 شركة صناعية أمريكية في بورصة نيويورك، كمثال لمقارنة أداء البورصات العالمية خلال الأزمة الحالية بالأزمة المالية العالمية 2008-2009، نجد أنه خلال الفترة (يوليو 2007-يناير 2009) تراجع هذا المؤشر بنحو 56.2%، وبالمقارنة بين يومى 20 فبراير و23 مارس للعام 2020، تراجع المؤشر بنسبة 36.4%.
وبالنظر إلى الأسهم الأوروبية، لمقارنة أداء مؤشر EUROStoxx 600، والذى يعكس تطور أسعار 600 سهم لشركات كبيرة ومتوسطة تمثل نحو 90% من قيمة سوق الأسهم فى 17 دولة أوروبية وهى (المملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، اسبانيا، البرتغال، النمسا، بلجيكا، هولندا، الدنمارك، فنلندا، أيرلندا، لوكسمبورج، النرويج، بولندا، السويد، سويسرا). ويعتبر الإنخفاض الذى يشهده هذا المؤشر خلال الأزمة الحالية أقل من مثيله خلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، ففى خلال الفترة (يوليو 2007-مارس 2009) بنسبة 55.3%، فى المقابل تراجع بنسبة 30% خلال الفترة (19 فبراير-24 مارس 2020).
- إرتفاع أعداد المتعطلين:
تعتبر خسائر أزمة كورونا المستجد على العمالة أشد حدة من خسائر الأزمة المالية العالمية، حيث قدرت منظمة العمل الدولية أن عدد العاطلين عن العمل في جميع أنحاء العالم جراء الأزمة المالية العالمية 2008-2009، بلغ حوالي 212 مليون في عام 2009، بزيادة قدرها 34 مليون مقارنة بعام 2007. فى حين قدرت المنظمة فى تقرير لها فى 7 أبريل 2020، أن إجراءات الإغلاق الكاملة أو الجزئية التى تطبقها الكثير من الدول تؤثر على سبل عيش ما يقرب من 2.7 مليار شخص حول العالم، وأن هذه الأزمة تشكل أكبر خطر على القطاعات الحيوية من خدمات الطعام والخدمات التجارية والإدارية والتصنيع وتجارة التجزئة، وهى القطاعات التى توظف مجتمعة 1.25 مليار عامل، بما يمثل 38% من القوى العاملة العالمية. وفى بيان لوزارة العمل الأمريكية فى 2 أبريل 2020، فإن أعلنت ما يعادل9.92 مليون أمريكى طلبوا دعم بطالة خلال النصف الثانى من مارس 2020، وهو ما يقترب من العدد الذى تم تسجيله خلال أول 6 أشهر ونصف من الركود الكبير 2007-2009.
- تراجع حاد لأسعار النفط:
كان تأثير الأزمة الحالية على أسعار النفط العالمية أكبر من مثيله فى الأزمة المالية العالمية 2008-2009 والتى دفعت إلى تراجع سعر برميل خام برنت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2002.
فمع بداية العام الحالى 2020، وتحديدًا منذ 6 يناير 2020، أخذ سعر برميل النفط فى التراجع، تزامنًا مع ذروة إنتشار فيروس كورونا المستجد داخل الصين بدءًا من نهاية ديسمبر 2019 وتباطؤ الإقتصاد الصينى، والتى تعتبر أكبر دولة مستوردة للنفط حول العالم، وإنتشاره فى العديد من البلدان الآخرى بما ألقى بظلاله السلبية على حركة السفر والنقل بعد تعليق معظم دول العالم لرحلاتها الجوية وفرض حظرا للتجول أو حجر صحى للمواطنين. وبالتالى إنخفاض النشاط الصناعي أيضًا. وحال المقارنة بين سعر خام برنت فى 6 يناير 2020 وهو 68.91 دولار للبرميل، وسعره فى 5 مارس لنفس العام 49.99 دولار للبرميل، نجد ان سعر البرميل قد شهد تراجعًا بنحو 27.4%، وفاقم من هذا التراجع فى الأسعار خوض المملكة العربية السعودية حرب أسعار للنفط ضد روسيا من خلال خفض أسعار البيع لديها إلى أدنى مستوياتها في 20 عاما، بعد فشل الاتفاق بين الدول الأعضاء بمنظمة الدولة المصدرة للنفط “أوبك” وروسيا فى اجتماع المنظمة 6 مارس 2020، ليشهد سعر برميل خام برنت تراجعا بنحو 56% حتى 19 أبريل بالمقارنة بين سعره فى 6 مارس 2020 وهو 45.27 دولار للبرميل، ليصل سعره إلى 19.88 دولار للبرميل، على الرغم من توصل “أوبك +” فى منتصف أبريل إلى اتفاق بخفض انتاج النفط بمقدار 9.7 برميل يوميا شهرى مايو ويونيو للحد من فائض العرض بالسوق.
فى المقابل شهد سعر برميل خام برنت تراجعًا بنحو 69.1% خلال الفترة (يناير 2008-يناير 2009).
رسم بياني يوضح الانخفاض الحاد بأسعار برميل خام برنت، المصدر: موقع macrotrend.
- تراجع التجارة العالمية:
ترجح منظمة التجارة العالمية أن يشهد نمو التجارة العالمى انخفاضا فى الازمة الحالية ليتجاوز الركود التجارى خلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، حيث أعلنت المنظمة توقعاتها ببيان لها فى 8 أبريل 2020، بتراجع التجارة العالمية خلال العام الحالى بنسبة تتراوح بين 13-32%، بدلا من توقعات بنمو قدره 2.5% بنهاية هذا العام، ووضعت المنظمة اثنين من السيناريوهات المستقبلية للتجارة العالمية، وهم؛ سيناريو متفائل يرجع أن يكون هناك انخفاض حاد في التجارة يتبعه انتعاش يبدأ في النصف الثاني من عام 2020، وسيناريو أكثر تشاؤما مع انحدار أولى أكثر حدة وانتعاش طويل الأمد وغير مكتمل، وترى المنظمة أن التجارة العالمية لم تعد حتى الان لاتجاهها السابق قبل الأزمة المالية 2008-2009، فى حين من من المرجح حدوث انتعاش قوي بعد الأزمة الحالية إذا كان الشركات والمستهلكون ينظرون إلى الوباء على أنه صدمة مؤقتة لمرة واحدة ولا يتكرر.
- خسائر شركات الطيران:
فى ظل الأزمة الحالية ونتيجة لتعليق دول العالم لرحلات الطيران أو وضع قيود عليها كإجراء لمواجهة انتقال فيروس كورونا المستجد، عدل الاتحاد الدولى للنقل الجوى “IATA” توقعاته بشأن خسائر شركات النقل الجوى أكثر من مرة، ففى نشرة صادرة عن الاتحاد فى 20 فبراير 2020 توقع الاتحاد أن يتم تسجيل خسائر فى إيرادات هذه الشركات بقيمة 29.3 مليار دولار حال اقتصر انتشار الفيروس فى الأسواق المرتبطة بالسوق الصينية، منهم 27.8 مليار خسائر فى منطقة آسيا والمحيط الهادى فقط، و100 مليون دولار فى منطقة الشرق الأوسط.
ولكن مع الانتشار السريع للفيروس وتأثيره على حجوزات الرحلات المستقبلية عبر المسارات الجوية خارج نطاق الصين، حدث الاتحاد من توقعاته فى نشرته الصادرة فى 7 مارس 2020، بأن خسائر إيرادات حركة المسافريين الدوليين ستتراوح بين 63-113 مليار دولار، ثم عدل الاتحاد من توقعاته مرة آخرى فى بيان صادر 7 أبريل 2020، بأن تشهد شركات الطيران انخفاضًا في عائدات الركاب للعام الحالى 2020 بمقدار 252 مليار دولار، وذلك بما نسبتة 44% مقارنة بعام ، لتتجاوز بذلك خسائر الأزمة المالية 2008-2009.
وختامًا، بات الاقتصاد العالمى أمام أزمة اقتصادية جديدة مرتقبة، ستتجاوز حدتها ما سبقها من أزمات اقتصادية ومالية، ستغير من التحالفات الدولية والعلاقات الاقتصادية بين الدول، وتعيد هيكلة النظام الاقتصادى الدولى بصعود جديد للاقتصاد الصينى، الذى تعافى سريعًا من الأزمة مع الانخفاض الشديد فى أعداد المصابين وارتفاع مؤشر مديرى المشتريات إلى 52 نقطة خلال شهر مارس 2020، مقارنة بـ 35.7 نقاط في فبراير لنفس العام واستئناف 98.6% من الشركات الصناعية الرئيسية بها عملها حتى 4 أبريل، مقابل الخسائر الكبيرة التى باتت تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر اقتصاد فى العالم يومًا بعد يوم، وذلك فى ظل وجود حالة من عدم اليقين حول حجم الآثار الاقتصادية المحتمل وقوعها فى كافة أنحاء العالم، بما يتطلب استمرار الإجراءات التى تتخذها الحكومات والمنظمات الدولية لجعل الاقتصاد العالمى أكثر قوة للتعامل مع أزمة اقتصادية جديدة، مرهونة بقدرة الدول على اكتشاف علاج لفيروس كورونا المستجد فى أقرب وقت ممكن، وعودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها مرة آخرى.
بقلم/قمر محمد
باحثة ماجستير اقتصاد
–