بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – أعتقد أن يوم الأحد الماضي الذي شهد رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استقالة وزير الداخلية سليمان صويلو يمثل ميلادًا جديدًا لتركيا من حيث تحول الصراع أو المعركة بين كيان أردوغان وتنظيم أرجنكون / الدولة العميقة من السرية إلى العلنية.
ومع أن معظم المراقبين يرون عملية “الجزر والمد” للوزير صويلو – إن صح التعبير- نتيجة طبيعية للصراع السائد بين الوزير وبرات ألبيراق، صهر أردوغان، إلا أننا إن علمنا خلفيات الأحداث التي تشهدها تركيا منذ عقدين فسنرى بوضوح أن صويلو ليس إلا “حصان طراودة” لتنظيم أرجنكون؛ كما أن ألبيراق هو الآخر “حصان طراودة” لأردوغان كذلك، بمعنى أن طرفي الصراع في الحقيقة هما أردوغان وأرجنكون.
مكونات النظام التركي
من المفيد أن نذكر هنا مكونات النظام الحالي في تركيا حتى نستطيع تحليل هذا المشهد المعقد بصورة صحيحة:
في إطار خطة وضعت في 2011 وبدأت تدخل حيز التنفيذ بصورتها الكاملة في 2015، نقض أردوغان غزله مع المجموعات الديمقراطية والليبرالية، بما فيها حركة الخدمة والمجموعات الكردية الرافضة للعنف والإرهاب، ليعقد قرانه مع ما يسمى في تركيا الدولة العميقة، المعروفة بأساليبها المارقة في إدارة الدولة والمجتمع منذ حوالي قرن، ومنذ ذلك الحين ما خرجت تركيا من دواهٍ إلا وسقطت في أخرى.
كيان أردوغان اتجه في البداية إلى الديمقراطيين والليبراليين عندما كانوا العملة الرائجة في العقد الأول من حكمه؛ ومع بدء العقد الثاني استبدلهم بالإسلاميين، وفي الوقت ذاته تحالف مع ممثلي الدولة العميقة. لكنه تخلى عن الإسلاميين أيضًا، وبات وجهًا لوجه مع أفراد عائلته أو سلالته فقط مع مرور الوقت.
أما الدولة العميقة فهناك جناحان أساسيان لها؛ أولهما: فلول أو مخلفات الأطلسيين الموالين للمحور الغربي الأمريكي؛ ويمثلهما في الجهاز البيراقراطي القوميون اليمينيون المتطرفون بقيادة وزير الداخلية الأسبق محمد آغار، وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي. ووزير الداخلية الحالي سليمان صويلو يمثل الجناح الأطلسي في نظام أردوغان. ويطلق على هذا الجناح أيضًا تنظيم غلاديو التركي، الجناح التركي للتنظيمات السرية التي أسسها حلف الناتو للتصدي للأطماع التوسعية السوفيتية أثناء الحرب الباردة، ثم قام بحلّها بعدما انتهى خطر مواجهة ساخنة بين المعسكرين الأطلسي والسوفيتي، لكن الجناح التركي قاوم الحل والتصفية لعدم رغبته في فقد القوة والنفوذ الذين كسبهما خلال نصف قرن.
ثانيهما: الأوراسيون الذين لجأوا إلى الحاضنة الروسية الصينية الإيرانية بعدما فقدوا الحاضنة الأطلسية، ويعتبر زعيم حزب الوطن دوغو برينجك من أبرز رجال هذا الجناج، وصحيفة “أيديليك” وموقع “أودا تي في” من أهم وسائل إعلامه. علمًا أن للدولة العميقة مجموعات صغيرة أخرى تتفرع عن هذين الجناحين، لا داعي لذكرها في هذا السياق.
ومع أن هذين الجناحين للدولة العميقة تصارعا فيما بينهما منذ التسعينات حتى بدايات الألفية الثالثة، إلا أنهما رأيا ضرورة التضامن تجاه الفريق الديمقراطي الليبرالي في البلاد، والتحالف “المؤقت” مع كيان أردوغان، الذي يمثل السلطة التنفيذية، من أجل استرداد مواقعهما السابقة في الدولة.
وعلى الرغم من أن الناس يظنون أن كل هذه الأجزاء المكونة للنظام التركي الحالي وحدة متكاملة إلا أن الأمر في الواقع كما تصوره الآية الكريمة: (تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى)، فكل من هذه الأجزاء يمكن أن يتخلى عن نظيره الآخر إذا واجه نقمة في التحالف أو نعمة في الانفصال.
التحالف للقضاء على الدولة المسؤولة
كيان أردوغان والدولة العميقة عقدا اتفاقًا “مؤقتًا” للقضاء على “الدولة المسؤولة” أو “الجهاز البيروقراطي الملتزم بالقانون والدستور”، من أجل استمرارهما في أعمالهما المارقة دون حسيب ورقيب، بعد خلق جريمة تحت مسمى “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن” واتهام كل من يخالفهما بهذه الجريمة. وبمجرد اكتمال مهمة تصفية كل من أجهزة الأمن والقضاء والجيش من خلال مؤامرات دنيئة بات الطرفان وجهًا لوجه في المحطة الأخيرة ليقوما بتصفية حسابات مؤجلة بينهما أو يحسما من سيتفرد منهما بالحكم في تركيا.
إن أردوغان اكتسب تجربة كبيرة بواقع بقائه في الحكم حوالي عقدين من الزمن، وأثبت أنه ليس لقمة سهلة. فمع أنه تحالف مع أعضاء الدولة العميقة وأخرجهم من السجون واستخدمهم في تصفية الجهاز البيروقراطي الملتزم الذي كشف عن فساده في 2013، بعدما أزاح الستار عن جرائم هذه الدولة في 1996 من خلال “قضية سوسورلوك”، وفي 2007 من خلال “قضية أرجنكون”، إلا أنه لم يسمح لهم بالعودة إلى مواقعهم السابقة في الدولة قدر الإمكان، بل توجه إلى تأسيس تشكيلاته الخاصة في جيمع أجهزة الدولة، وهو الأمر الذي أثار الصراع بين الطرفين مجددًا، حيث كانت الدولة العميقة تنتظر من نظام أردوغان أن يخلصها من ذلك الجهاز البيروقراطي بفضل “هويته الإسلامية والقومية” ثم ينسحب إلى زاويته ويترك الدولة لها كما كان سابقًا.
ومع أن هناك إرهاصات كثيرة لبدء الصراع الخفي بين أردوغان والدولة العميقة يمكن إرجاعها إلى ما بعد الانقلاب المدبر في 2016 مباشرة، إلا أن الشرارة الأولى للصراع العلني بينهما انطلقت مطلع هذا العام عندما اتهم رئيس الأركان العامة الأسبق إيلكر باشبوغ، باعتباره أحد أهم ممثلي الدولة العميقة، حزبَ العدالة والتنمية الحاكم بكونه “الجناح السياسي لمنظمة فتح الله كولن”، ورفع الأخير دعوى قضائية ضده بدعوة من أردوغان. ثم تلت ذلك عدة عمليات متبادلة بين الطرفين سبق أن تطرقتُ إليها في مقالاتي السابقة.
ما الذي حرك الدولة العميقة؟
هناك قضية تغيب عن معظم المحللين للشؤون التركية، وهي أن أردوغان مع أنه تمكن من فرض سيطرته على جميع مفاصل الدولة، وكذلك على ما يسمى في تركيا “نمور الأناضول” الاقتصادية المتكونة من الشركات المحافظة الإسلامية، إلا أنه لم يتمكن بعدُ من السيطرة على ما يمكن تسميته “رأس مال إسطنبول”، الذي يتألف من الشركات الكبرى “العلمانية”، التي تعتبر عجلة الاقتصاد التركي من جانب، و”العقل المدبر” و”الممول الاقتصادي” للدولة العميقة من جانب آخر.
وكذلك هناك قضية أخرى في الأزمة الأخيرة لم يتطرق إليها أحد من المحللين -بحسب ما أعلم- وهو أن مخادعة الاستقالة لوزير الداخلية سليمان صويلو جاءت بعدما تحدث أردوغان عن إمكانية مصادرة ممتلكات تعود للأشخاص والشركات من أجل استخدامها في مكافحة تداعيات أزمة فيروس كورونا، كما سبق أن فعل مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك في ظروف حرب الاستقلال.
لا شكّ أن حديث أردوغان عن هذه الاحتمالية أصاب أصحاب الشركات الكبرى بالجنون وألقت في قلوبهم الرعب على نحو لا يتصور، نظرًا لأنهم أحسن من يعرفون ماذا حل على نظرائهم من رجال الأعمال الآخرين، حيث استولى أردوغان على كبرى شركات تركيا بشتى الذرائع.
وهنا أفتح قوسين لأذكركم بأن الكاتب الصحفي فاروق أرسلان، المعروف بكتاباته في قضية الدولة العميقة في تركيا وصلاتها الدولية، يزعم أن مجلس العلاقات الخارجية (Council on Foreign Relations)، وهو منظمة أمريكية مستقلة في شكل خلية تفكير تهدف إلى تحليل السياسة الأمريكية والعالمية، هو الذي يسيطر على الدولة العميقة في تركيا من خلال فرعها الرسمي الذي يدعى “لجنة العلاقات العالمية”. ويصف الكاتب هذا المجلس بـ”أقوى وأعمق جماعات الضغط الصهيونية”، والمرتبط بما سماه “الدولة العميقة البريطانية اليهودية”، وينعت هذه الأخيرة بـ”بؤرة الفتنة العالمية”. ادعى أيضًا أن هذا المجلس الأمريكي البريطاني قسم كل تركيا بين أكبر 18 رجل أعمال في إسطنبول ينحدورن من “يهود الدونمة” الذين يقال إنهم يظهرون الإسلام ويحافظون على يهوديتهم ولعبوا دورا كبيرا في إسقاط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة على يد جمعية الاتحاد والترقي.
ومما ادعاه الكاتب أيضًا أن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هو المدير العام للدولة العميقة الأمريكية والعالمية؛ في حين زعم أن رحمي كوتش، وهو من أكبر وأغنى رجال الأعمال الأتراك وأول رئيس للجنة العلاقات العالمية، فرع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في تركيا، هو المدير العام للدولة العميقة في تركيا.
ومع أن كل ما سقنا أعلاه مجرد أطروحات تفتقر إلى أدلة موضوعية للتأكد من صحتها أو عدمها، لكن الذي ليس فيه شكّ هو أن هناك آراء مشابهة لذلك تسود بين ممثلي التيار الإسلامي في تركيا، وأردوغان يثير جوانب الاختلاف بين الإسلام واليهودية والمسيحية، ويتحدث دوما عن العنصرية اليهودية والصهيونية العالمية والحروب الصليبية، من أجل استخدام ذلك في حروبه الشخصية والفئوية. ولذلك لا أستبعد أن يوجه أردوغان حملاته القادمة ضد مجموعة شركات كوتش وأمثالها، ومصادرة ممتلكاتها من أجل مدّ طوق النجاة إلى اقتصاده المحتضر.
رغم أن أردوغان وتنظيم الدولة العميقة قاوما ضد حظر تجول شامل في تركيا لكي لا تتوقف عجلة الاقتصاد بالكامل، إذ هما من يسيطران عليها، إلا أن أردوغان اضطر للرضوخ أمام ضغوطات وزير الصحة والمجلس العلمي التابع لوزارته واتخذ أخيرًا قرارًا بفرض حظر التجول يوم الخميس، إلا أن وزير الداخلية، ممثل الدولة العميقة في الحكومة، تعمد – على ما يبدو – تأخير إرسال تعليمات أردوغان إلى السلطات المحلية المعنية بشأن الحظر يوما كاملا، وتسبب في ظهور مشاهد فضيحة من هروع المواطنين إلى المتاجر والمخابز لإعلانه للرأي العام قبل ساعتين من دخوله حيز التنفيذ.
وبحسب المعلومات التي نقلها الكاتب الصحفي ورئيس موقع “خبردار” التركي سعيد صفا، فإن أردوغان كان يستعد لإقالة وزير الداخلية صويلو وتعيين شخص قريب منه خلفًا له بعدما أعلن الأخير بطريقة ذكية أربع مرات أن أردوغان من أصدر تعليمات حظر التجول، ليحمله مسؤولية المشاهد الفضيحة بشكل غير مباشر. لكن في حركة استباقية سارع صويلو وأعلن استقالته، وتحمله الفشل في إدارة المرحلة، مدعيًا أنه أراد بذلك إراحة أردوغان، وفي الوقت ذاته شنّت لجانه الإلكترونية حملة قوية عبر الإعلام الاجتماعي دعت فيها أردوغان إلى رفض استقالة الوزير! بمعنى أن الوزير أو بأصح العبارة الدولة العميقة، أرادت أن تكشر عن أنيابها لأردوغان من خلال تلك المنشورات التي تجاوزت المليون خلال ساعتين. وفي النهاية خرج الوزير منتصرًا من هذه المخادعة وأطال عمره السياسي لعدة أشهر أخرى في صفوف الحزب الحاكم على أقل تقدير.
مستقبل صويلو بعد الأزمة
الواقع أن أردوغان يخطط منذ زمن طويل للتخلص من صويلو، وباتت أزمة حظر التجول الشامل المفاجئ القطرة الأخيرة التي أفاضت الكأس، حيث إنه يعلم جيدًا أن الدولة العميقة تريد لصويلو أن يسيطر على حزب العدالة والتنمية بعد رحيله، ليستمر حكمها في البلاد دون انقطاع، في حين أن الأخير يعد صهره برات ألبيراق خلفًا لنفسه.
للأسباب التي ذكرت أعلاه، فإنني أعتقد أن خطوة وزير الداخلية كانت ردة فعل مدروسة جيدًا من قبل العقل المدبر والممول الاقتصادي للدولة العميقة، أي من قبل أثرياء إسطنبول، لإحراج أردوغان، بعدما ألمح إلى إمكانية الاستيلاء على أموالهم، وأعتبرها ميلادًا جديدًا لتركيا من حيث تحول الصراع أو المعركة بينها وبين أردوغان من السرية إلى العلنية.
أما مستقبل صويلو فمن المرجح أنه لن يكون مختلفًا عن مصير أحمد داود أوغلو، حيث لما رفض أن يكون رئيس الوزراء منزوع السلطات أو هزيل الأداء – على حد تعبيره هو – أمر أردوغان لمجموعة البجع / باليكان التابعة له وصهره بالشروع في شنّ حملة قتل معنوي لم يجد داود أوغلو بدا من استقالته خلال مدة قصيرة.
يبدو أن صراعات العروش الداخلية في حزب العدالة والتنمية، إلى جانب أزمة فيروس كورونا، ستسرّع عملية سقوط نظام أردوغان.
وللحديث بقية..