بقلم: منى سليمان
القاهرة (زمان التركية) – منذ الانقلاب العسكري الفاشل بتركيا في 15 يوليو 2016 يشن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” حربًا بلا هوادة ضد مؤسسات حركة الخدمة ومؤسسها المفكر الإسلامي التركي “فتح الله كولن” ومؤيديها وموظفيها داخل وخارج تركيا بذريعة التحريض على الانقلاب الذي راح ضحيته 250 شخصا. وقد أدعى “أردوغان” أن الحركة تنظيم إرهابي وانتهى عملها بتركيا، ومنذ ذلك الحين صدرت عدة دراسات ومقالات أوروبية وأمريكية حول الحركة، وطرحت أسئلة متعددة حول طبيعة عملها وملهمها “جولن”، وخلصت تلك الدراسات إلى أن حركة الخدمة أو حركة “جولن” كما يطلق عليها تمر بأزمة بنيوية وانتهت فعليا بعدما تمت محاصرتها داخل تركيا وخارجها، ورغم عدم صحة كافة الخلاصات العلمية بتلك الدراسات، إلا أنه من الضروري التعرف عليها قبل تفنيدها، ومن بين أبرزها ما يلي:
– صدرت دراسة أكاديمية مطولة بجامعة “غراتس” النمساوية حول حركة “الخدمة” بعام 2018، استغرقت عامين لإجرائها بعنوان “الخراب أو المرونة؟ مستقبل حركة جولن في المنفى السياسي العابر للحدود”(1)، ونشرت في عدد خاص من مجلة “السياسة والدين والإيديولوجيا”، وأهمية هذا العمل أنه أعد بشكل أكاديمي لموضوع يثير اهتمام الكثيرين سواء داخل تركيا أو خارجها، والدراسة استخدمت اسم “حركة جولن” وليس حركة “الخدمة” لتؤكد من وجهة نظرها على الارتباط الحيوي بين الحركة والاستاذ “جولن”، وقد وصفت الحركة على أنها ظاهرة سياسية اجتماعية، وتم تدعيم الدراسة بسلسلة من الأبحاث الإثنوغرافية. وتعرضت الدراسة إلى طبيعة عمل الحركة والأداء الداخلي للحركة، وفترة التحالف غير الرسمي كما أسمتها الدراسة بين الحركة وحزب العدالة والتنمية، كما تناولت مقالات بالدراسة أوضاع الحركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للحركة في عدة بلدان مثل السنغال، وأميركا الجنوبية، وإيطاليا، وفرنسا، وأستراليا، قبل المحاولة الانقلابية وبعدها، كما تطرقت إلى الصراعات التي خاضتها الحركة مع حزب العدالة والتنمية في المناطق الجغرافية العابرة للحدود.
وخلصت الدراسة إلى أن الحركة لها وجه “سياسي مالي”؛ لأن الحركة سعت للحصول على القوة السياسية قبل أن تدخل الحياة السياسية بشكل كامل. وهذا الأمر ما زال مثار جدل ونقاش. لإن الحركة عبارة عن مزيج من المراكز المصممة جيدًا في بعض الأماكن، والمرتبطة بمجموعة معينة من القواعد، والمعززة بشبكات مالية، وتستهدف الحركة ككيان له وجود الحصول على القوة الاجتماعية والإدراكية والسياسية والمالية على مستويات مختلفة. ولذا فإن الدين، والسياسة، والتمويل، والبيروقراطية داخل مراكز الحركة تشبه الحلقة المتداخلة في بعضها البعض. وهذا بالطبع لم يعد صالحا في تركيا، أما في الخارج فقد انتهى النفوذ السياسي للحركة. وأشارت الدراسة إلى أن هناك تصورا داخل تركيا بأن حركة “جولن” في طريقها للأفول والانقراض في الخارج.
وتؤكد الدراسة أن حركة “جولن” فقدت فرصة دراستها ككيان متكامل، وذلك منذ اللحظة التي باتت فيها غير مؤثرة فعليًا داخليًا، وبدأت تمارس أنشطتها في الخارج فحسب. وحددت مؤشرات ثابتة لذلك ومنها.. علاقات الدول مع تركيا، والتنمية الاقتصادية، والتصور الخاص بحركة “غولن”، والقوة المالية، والقيم الديمقراطية الليبرالية للدول، وحرية الصحافة ومستوياتها في القضايا الأخرى المماثلة. هذه المؤشرات تبرز في الواقع من خلال استغلال أنقرة لعلاقاتها المتميزة مع كوسوفو مما مكنها من إعادة المدرسين المنتسبين للحركة من كوسوفو، وهو كما تصفه الدراسة مستحيل يحدث في ألبانيا التي تتمتع فيها حركة “جولن” بنفوذ كبير اكتسبته من خلال مؤسساتها التعليمية بشقيها العلماني والديني على حد سواء. ونفس الوضع في الدول الإفريقية، فالحركة تجد مشكلات في العمل بالسنغال بينما وضعها في جمهورية جنوب إفريقيا ممتاز. أما الوضع في الدول الغربية وفق الدراسة مثل بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وفرنسا، معقد بعض الشيء. إذ من الممكن أن نقول إن أنشطة الحركة في تلك الدول قلت بشكل كبير. وذلك لأن الدعم المالي الذي كان يأتي للحركة من المهاجرين الأتراك قل بشكل كبير مقارنة بذي قبل. وادعت الدراسة ان المهاجرين الأتراك، أوقفوا الدعم المالي للحركة لأنهم باتوا يعتبرونها حركة إرهابية وخائنة لبلادهم. أما السبب الآخر فهو خوف هؤلاء المهاجرين من الضغوط التي قد يتعرضون لها من البلدان التي يعيشون فيها، ومن بلدهم الأم إذا ما استمروا في دعم الحركة ماديًا.
وللرد على تلك الدراسة والاتهامات التي وردت بها، نجد أنها بالغت للغاية في تصوير قوة الحركة داخل وخارج تركيا، وكافة الاتهامات الموجه لحركة “جولن” والتي تروج إلى أنها كانت تتمتع بنفوذ سياسي كبير داخل تركيا تعتمد على اتهامات “أردوغان” أو تصريحات لبعض الصحفيين والكتاب الذين ادعوا أنهم كانوا أعضاء منتمين بالحركة ثم تخلوا عنها بعد الانقلاب العسكري في 2016، أو باحثين وصحفيين أجروا دراسات حول الحركة أيضا بعد 2016 تصور “كولن” على أنه رئيس الظل الذي يحكم تركيا من بعيد وهو تصور مناف للمنطق. فما هي المخاوف التي يثيرها “كولن” بعد بلوغه 80 عاما وهو منفي بولاية أمريكية منذ 20 عاما ويعاني من عدة أمراض ويقيم على بعد أميال من تركيا كيف يهدد نظام حكم “أردوغان” الذي يحكم البلاد منذ 2002 بيد من حديد وينفذ كل ما يريده دون رادع وبكل قوة؟
هذه الاتهامات غير صحيحة جملة وتفصيلا وتأتي لأن كل من كتب عن الحركة كتب رأيه من خلال ما يسمعه من المؤسسات التركية ولم يعايش أيا من هؤلاء الكتاب مؤسسات الحركة أو العاملين فيها وأهدافها، فمن خلال التعامل المباشر مع عدد من المنتمين للحركة ومؤسساتها لم نرَ أيا من تلك الاستنتاجات فلا يوجد أى تصنيف هرمي للأعضاء ولا توجد عضوية ولا يوجد جدول أعمال مخصص لأعضاء الحركة، ولا يتجاوز عمل الحركة على أنه عمل خيري تطوعي في مؤسسات تعليمية وثقافية كالمواقع الإخبارية والأكاديمية فقط.
كما أن المعارضة التركية ممثلة في حزب “الشعب الجمهوري” والرئيس التركي “أردوغان” يكيل كل منهما الاتهامات للحركة بشكل متعمد ويعملون على تسييس عمل الحركة، ويتم تبادل الاتهامات بين “أردوغان” والمعارضة بالانضمام للحركة “كشماعة” لتبرير أخطاء الطرفين، فهل لا يكفيهم 4 سنوات من الاعتقال والاضطهاد بحق الحركة ومؤيديها وعناصرها؟ وإذا كانت الحركة بهذا النفوذ والقوة والأجندة الخفية لماذا تقبل 150 دولة بالعالم حاليا استمرار عمل مؤسسات ومدارس الخدمة فيها؟ أليس ذلك دليلا على صحة أهداف وعمل الحركة.
كما أن ثمة تساؤلا يطرح نفسه إذا كانت الحركة ومؤسسها “كولن” بمثل هذه القوة والنفوذ لماذا لم ينجح الانقلاب على “أردوغان”؟ ولماذا تأخر تنفيذ الانقلاب ست سنوات كاملة؛ لأن الخلافات العلنية بدأت في الظهور بين الطرفين في منتصف 2010 بعد انتقاد “كولن” موت 9 أتراك في سفينة مرمرة التي كانت تسعى لفك الحصار عن قطاع غزة، لماذا انتظر “كولن” ست سنوات لتنفيذ انقلاب يزيح “أردوغان” من الحكم، رجل بهذه القوة كان الأحرى به أن يخطط لانقلاب ناجح يقضي به على “أردوغان” فورا!
من جهة أخرى، ادعت إحدى المقالات أن حركة “الخدمة” كانت في تحالف وثيق مع حزب “العدالة والتنمية” منذ عام 2002 وكان هدفهم تقليص سطوة المؤسسة العسكرية التركية على سائر السلطات بالدولة، وسعت الحركة كما تدعى المقالة إلى إلحاق آلاف من أعضاءها للعمل في القضاء وقوات الشرطة والجيش في تركيا. والرد على تلك الادعاءات مباشر وواضح للغاية؛ فالتحالف المزعوم قد نفاه الأستاذ “كولن” أكثر من مرة، ومنذ عام 2010 بدأت الانتقادات العلنية “لأردوغان” من قبل المؤسسات الإعلامية التابعة للحركة، وكذلك نفى الأستاذ أكثر من مرة تورطه أو تورط الحركة في الانقلاب الفاشل بمنتصف 2016، وحتى حال تورط بعض من مؤيدي الأستاذ “جولن” في هذا الانقلاب سواء كانوا من المؤسسة العسكرية التركية أو أي مؤسسة أخرى. فكيف يمكن محاسبة الأستاذ على ذلك؟ الأستاذ “كولن” مفكر إسلامي له جمهور واسع بالملايين في 170 دولة بالعالم من المسلمين وغيرهم ويعد من أهم مفكري العالم حاليًا هل يمكن محاسبته على كل فعل يرتكبه مؤيدوه؟ هذا غير منطقي وغير قانوني لاسيما وأن أنقرة فشلت حتى اليوم في إيجاد أي دليل قانوني ملموس يمكن الاعتماد عليه يثبت تورط الأستاذ “كولن” بالتحريض أو تنفيذ الانقلاب الفاشل.
وبخلاف الدراسات المتعددة التي تروج لنهاية دور الحركة داخل وخارج تركيا كمنظمة مجتمع مدني فاعل في مجالي التعليم والثقافة، فهناك بعض الكتاب والمفكرين الذين يتذرعون بفشل الحركة من خلال فشل مؤيدي الحركة من الشخصيات العامة التركية، ومنهم على سبيل المثال “حقان شوكور” لاعب كرة القدم التركي المشهور وفي عام 2013، كان شوكور أيقونة الرياضة في تركيا، وكان نائباً في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم ومن أفضل لاعبي العالم. بيد أنه تعرض لحملة اضطهاد من قبل الحكومة التركية لأنه من مؤيدي حركة “كولن”، وفي منتصف يناير 2020 نشر عن “شاكور” خبر مفاده أنه اضطر للعمل كسائق أجرة في شركة أوبر وبائع كتب في الولايات المتحدة الأمريكية لتوفير لقمة عيشه بعدما سافر إليها من تركيا(3). بعدما أصدرت الشرطة التركية أمراً باعتقاله لارتباطه بحركة كولن، واستولت الحكومة التركية على ممتلكات له بملايين الدولارات، في إطار سلسلة من عمليات التطهير في أنحاء البلاد. ولهذا فقد تذرع خصوم حركة الخدمة بفشل الأخيرة استنادًا إلى فشل مؤيديها المشهورين من أمثال “شوكور”، بيد أنهم قد أغفلوا أمرًا هامًا أن التدهور في وضع “شوكور” ناجم عن ملاحقة السلطات التركية له، ولم يثبت فعليا بأي أدلة قانونية ارتكابه لأي جريمة يستوجب محاكمته، وهذا ليس دليل عليى فشل “شوكور” وإنما دليل على استبداد حكم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، كما أن أنجح الفترات في حياة “شوكور” هي الفترة التي كان مؤيدًا فيها للحركة ومتواجدًا في تركيا مما يؤكد أن الحركة تساهم معنويًا في نجاح مؤيديها ولا تسعى لاضطهادهم وإحباطهم كما تفعل الحكومة التركية الآن.
وخلاصة القول، إن حركة “الخدمة” بالفعل بحاجة إلى عملية تقييم ونقد ذاتي موضوعي يقوم به قيادات الحركة بإشراف الأستاذ “كولن” مع المزيد من الشفافية في شتى أعمال الحركة، وكشف للإعلام عن أهدافها بشكل عام لاسيما السياسية إن وجدت، ومؤسساتها التعليمية والثقافية والاجتماعية، ووضعها الحالي، وهذا عكس مبدأ الأستاذ “كولن” وهو العمل التطوعي في الخفاء بيد أنه بعد عمليات الاضطهاد المستمر التي يقوم بها “أردوغان” ضدها، والاتهامات المتعددة التي توجه للحركة يجب أن تقوم الحركة بإعادة الإعلان عن نفسها وتعريف الرأي العام الدولي والعربي والتركي بها مرة أخرى لنفي كل هذه الاتهامات. على أن يعتمد ذلك التقييم علي ..
– ينبغي على الحركة اتباع مبدأ الشفافية والرد على الاتهامات الموجهة للحركة، فعلى الأغلب يترفع الأستاذ “كولن” من الرد على الاتهامات الموجهة له والحركة. بيد أنه يجب الرد عليها والأخذ في الاعتبار أن الرأي العام التركي والعربي والعالمي يتأثر بالدعاية السلبية التي يروج لها إعلام أردوغان عن الحركة. فعلي سبيل المثال يتم اتهام الحركة بأنها استمرت في التعامل مع شخصيات بارزة متهمة بأنشطة إجرامية مثل “بارباروس كوكاكورت وجوْدت تركيولو” وسمح لهما بالبقاء في مناصبهما، وكان يجب اتخاذ موقف ضدهم بدلاً من ذلك. كما يجب الكشف عن الهيكل التنظيمي للحركة حال وجوده وعدد مؤسساتها وكيفية التمويل لتوضيح آليات عمل الحركة للرأي العام.
-التواصل مع كبار رجال الفكر التركي المعارضين للحركة وتوضيح أفكار ومبادئ الحركة لهم، مثل “جان دوندار” رئيس التحرير السابق لصحيفة (جمهوريت) التركية والمقيم حاليا في ألمانيا بعد توجيه اتهامات له بأنقرة. فموقع الزمان التركي التابع لحركة كولن كان من أكثر المواقع الإخبارية التركية التي ساهمت في نشر قضية “دوندار” ومساندته خلال أزمته مع الحكومة التركية، ولذا يجب توضيح أهداف الحركة له.
حيث يتهم الصحفيون العلمانيون المستقلون وخصومهم المؤيديون للحكومة التركية، حركة “جولن” بالاستبداد الشديد، والانحياز المستمر لأنصارها وعدم قبول الانتقاد أو المعارضة من الداخل أو الخارج، ونجاحات الحركة تنسب “لكولن” فقط وفشلها لا يتم الاعتراف به، بيد أن هذا غير صحيح بالمرة ويجب على الحركة وكتابها ومفكريها الرد على هذه الاتهامات وتفنيدها بشتى الطرق، من خلال شرح آليات عمل الحركة وإزالة أي غموض أو شكوك تنتاب من يتعامل مع الحركة أو يسمع عنها.
ومما سبق، نرى أن حركة “كولن” لم تنته رغم حملة القمع الممنهج ضدها من قبل “أردوغان”، وما زالت مستمرة بعملها في 150 دولة بالعالم عبر مؤسساتها الثقافية والخدمية والتعليمية الممثلة في المدارس الراقية التي يتنافس الطلاب للالتحاق بها، بيد أن الحركة تواجه تحديا هاما منذ 2016 وهو ضرورة نفي كافة الاتهامات التي توجه إليها بالتورط في الانقلاب الفاشل، ولذا على الحركة إعادة تقديم نفسها للرأي العام التركي والعربي والعالمي مرة أخرى كحركة مجتمع مدني عابرة للحدود لها العديد من الأنشطة التطوعية والخدمية.
المصادر:
1- أحمد أردي أوزتورك، هل لحركة “فتح الله غولن” مستقبل في المنفى السياسي؟، موقع أحوال تركية، 30 مايو 2020
https://ahvalnews.com/ar/هل-لحركة-فتح-الله-غولن-مستقبل-في-المنفى-السياسي؟/غولن
2- دايفيد ليبسكا، حركة جولن الممزقة تواجه أزمة وجودية، موقع أحوال تركية، 14 فبراير 2020.
3- دايفيد ليبسكا ، هل وصلت حركة جولن التركية إلى النهاية؟، موقع أحوال تركية، 28 يناير 2020
https://ahvalnews.com/ar/hl-wslt-hrkt-ghwln-altrkyt-aly-alnhayt/ghwln
–