بقلم: هيثم السحماوي
القاهرة (زمان التركية) – (من يفكر جميلاً يرى كل شيء جميلا، ومن كانت وجهته هي الجمال تلذذ من الحياة. وصفة المحبة هي ضمانة الحياة البشرية وهي تدفع إلى تحقيق السعادة) هذه من كلمات بديع الزمان سعيد النورسي، وكانت عادته أن كلماته ليست كغيرها من الكلمات، ومن ثم كان التميز الشديد لمؤلفاته وكتبه، فلقد كانت متميزة إلى أقصى حد.
وفي هذا الشأن يقول أحد المحبين له وهو الأستاذ إحسان قاسم صالحي الذي ترجم رسائل النور إلى اللغة العربية (إنني كنت مثل كثيرين أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما قرأت رسائل النور شعرت بأنني أعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم).
كان للعالم سعيد النورسي العديد من المؤلفات وتعد أشهرها رسائل النور، ومن بين المؤلفات تحت هذا العنوان العام: اللمعات، الشعاعات، الكلمات، المكتوبات.
تبلغ هذه الرسائل نحو تسعة مجلدات، صفحاتها أكثر من خمسة آلاف صفحة، وترجمت إلى أكثر من ستين لغة، وكتبت حولها الكثير من البحوث والكتب.
أما عن المحاكمات التي تعرض لها العالم سعيد النورسي، وتحوله إلى معاداة السياسة، فلقد عاش فترة الدولة العثمانية، وفترة السلطان عبد الحميد الثاني ومن بعده، وعاش مرحلة سقوط الخلافة وقيام الجمهورية الحديثة.
وطوال حياته تعرض للعديد من المحاكمات، والأسر، والسجن، وغيرها من المشكلات الكثيرة والعقبات المتعددة، واوجهها جميعا وهو ثابت على مبادئه عازم على تكملة المسيرة والثبات على طريق الحق مهما كان.
رغم الكثير من الإغراءات التي عرضت عليه حينئذ فمثلا في فترة 22 نوفمبر 1922 نظم برلمان أنقرة احتفالاً رسمياً للترحيب بقدوم بديع الزمان حضره قائد الجمهورية التركية حينذاك مصطفى كمال أتاتورك، ولكن ما لبث أن بدأ الخلاف والاختلاف بين بديع الزمان وبين أتاتورك، فلقد كان القائد أتاتورك حينذاك يعادي كل ماله علاقة بالدين، خلافا مع رؤية العالم سعيد النورسي الذي كان يرى أن الجمهورية ينبغي أن تتخذ الشريعة أصلا لها وبهذا خطب في البرلمان التركي حين دُعي للتكريم فيه.
حاول البعض أن يكسبه لصفه عن طريق عرض بعض المناصب عليه ولكن فطن بديع الزمان للأمر ورفض ذلك.
كانت هناك فترة مراجعة هامة في حياة بديع الزمان حولت مسار حياته وأحدثت انقلابا فكريا هاما في حياته ألا وهو الانتقال من خدمة الدين عن طريق العمل السياسي إلى التفرغ التام لعلوم الدين بعيدا عن السياسة. وهنا يقول بديع الزمان في المكتوب السادس عشر: (قيل: لمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تقترب إليها قط؟ الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر سنوات عله يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته أدراج الرياح)،
إن العالم سعيد النورسي منذ شبابه وهو يحارب عدواً ويجاهد ضده ألا وهو الشيطان، ضم إليه في كبره عدواً آخر بعد ذلك ألا وهي السياسة، فلقد ظل يحاربهما معاً.
يقول بديعُ الزمان سعيد النورسي في المكتوب الثالث عشر: (ولذلك قلت أعوذ بالله من الشيطان والسياسة لكي أحافظ على نور القرآن، واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقيا مطرقة السياسة جانبا).
ورغم هذا التحول وهذا الاتجاه البعيد عن السياسة إلا أنه لم يسلم من الاعيبها وكيد أهلها، فلقد لاحقوه؛ ففي عام 1935 اتهم من قبل محكمة الجنايات بإحدى عشر جريمة مختلفة، وتوالت بعد ذلك الاتهامات بمختلف الجرائم والاعتقالات والنفي الشديد ليس له وحده وإنما له ولطلابه والمقربين منه أيضا. وعندما قامت ثورة أيضا في شرق تركيا مع أنه لم يشارك فيها إلا أنه اتهم بالتفكير والتدبير لقيامها هو وأصحابه (جماعة النور).
وهنا من منطلق ما يسمى في علم النفس بعلم تداعي المعاني (association of thoughts) يأتي إلى ذهني وأنا أكتب هذا المقال ما حدث مع العالم القدوة أيضا فتح الله كولن وأصحابه (جماعة الخدمة) من قبل النظام الحاكم إثر وقوع الانقلاب المفبرك في الخامس عشر من يوليو 2016، وكأن التاريخ يكرر نفسه.
لقد اهتم بديعُ الزمان طوال حياته بالمحبة كطريق ونور للجميع ومع الجميع، وظل علي هذا المنهاج حتى توفي جسده وارتفعت روحه إلى بارئها وبقيت أعماله حية بيننا سواء من خلال المؤلفات أو طلابه الذين يقدرون بالملايين في أنحاء العالم.
كان مما قاله في آخر حياته الدنيوية ووصاياه (أوصي طلابي ألا يحمل أحد منهم شيئا من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا جادين لنشر رسائل النور، وأن يرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً)
دامت حياتكم نورها العلم وقوامها الحب..
هيثم السحماوي: باحث مصري في القانون الدولي
–