بقلم : ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – تشهد تركيا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع نقاشًا حادًا حول ما يسمى بـ”منظمة فتح الله كولن”، حيث انضمّ حزب الشعب الجمهوري إلى صف تنظيم أرجنكون -الدولة العميقة- في اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ”الذراع السياسية للمنظمة”، بعدما كان الأخير يسلط هذه التهمة على كل من يريد تصفيته من الأشخاص أو الكيانات السياسية والمدنية.
شقاق محير بين أرجنكون وأردوغان
هناك فضول عام حول العوامل الداخلية والخارجية التي أدت إلى فرقة وانشقاق في التحالف بين أرجنكون وأردوغان في هذا التوقيت على وجه الخصوص بعدما بدأ في أعقاب فضيحة الفساد والرشوة في عام 2013، ويحاول الكتاب والمحللون الكشف عن تلك العوامل انطلاقًا من قراءتهم للمشهد التركي والإقليمي والدولي، منهم الكاتب الصحفي التركي المخضرم سعيد صفا، رئيس تحرير موقع (خبردار) الإخباري، والذي تناول القضية بكل أبعادها في قناته على موقع يوتيوب.
حاول الكاتب الإجابة على الأسئلة التي تثار حول الصراع الذي ظهر إلى السطح في الآونة الأخيرة بين أردوغان وتنظيم أرجنكون، من خلال تسليط الأضواء على تاريخ وطبيعة عملية التنظيم والتشكيل التي اتبعها الطرفان في مؤسسات الدولة.
أكد الكاتب أن هناك آليتين مختلفتين داخل الدولة التركية في الوقت الراهن، وأطلق عليهما “الآلية التابعة لأردوغان” و”الآلية التابعة لتنظيم أرجنكون”، وقسّم آلية أرجنكون إلى التقليدية والحديثة، لافتًا إلى أن آلية أرجنكون أسست شراكة مع آلية أردوغان في مرحلة بدأت فيها تتحول من التقليدية إلى الحديثة، ثم تساءل قائلاً: “حسنًا لماذا خاض الطرفان في غمار صراع في الوقت الذي كانا يستفيدان من بعضهما البعض وينفذان مشاريع بعضهما البعض؟
الكاتب سعيد صفا ألقى الضوء على الجذور التاريخية لآلية أرجنكون وطبيعة عمل الدولة التركية تحت سيطرتها قائلاً: “شعبة العمليات الخاصة، أو بعبارة أصحّ، قيادة القوات الخاصة هي التي سيطرت دومًا على البؤرة الأساسية للدولة في تركيا. هذا الكيان مع أنه يعمل ضمن رئاسة الأركان العامة، لكنه يقوم بتحديد مَنْ سيتولى منصب رئيس الأركان العامة حتى بعد عشر سنوات. هذا الكيان عمل على تطوير آلياته من خلال التعامل مع الولايات المتحدة من جانب؛ والاتحاد السوفييتي من جانب آخر حتى أربعينيات القرن الماضي. وبعدما أجرى رئيس أركان تلك الفترة زيارة إلى الولايات المتحدة أسس شعبة العمليات الخاصة في رئاسة الأركان، وبدأت تركيا منذ عام 1947 تلعب دورًا مهمًا في الحيلولة دون توسع الاتحاد السوفييتي نحو الدول الغربية. وبفضل الاتفاقيات العسكرية التي وقع عليها الطرفان تأسس في تركيا ما يمكن تسميته “منظمة غلاديو السرية التابعة لحلف الناتو”.
وأفاد الكاتب أن هذا الكيان ظهر بـ”قناعٍ” جديد بعد التسعينات، وانتقلت السيطرة عليه إلى ما يسمى اليوم بـ”الأوراسيون” أو “المجموعة الأوراسية” الموالية لروسيا، وأن هذه المجموعة الجديدة هي التي بدأت تصف الكيان القديم لأرجنكون الأطلسي أو الموالي للولايات المتحدة بأنه “منظمة غلاديو السرية التركية”، وأنها كانت “الدولة العميقة”. وأضاف: “الأوراسيون، الذين يُعتبر زعيم حزب الوطن دوغو برينجك من أبرز قادتهم وشخصياتهم، هم من كانوا يصنّفون، عبر جهاز المخابرات، الموظفين المنتمين إلى منظمة غلاديو أو أرجنكون الأطلسي، مثل فريق وزير الداخلية الأسبق محمد آغار. وكذلك الأوراسيون من كانوا يعدون تقارير مخابراتية بحق أعضاء منظمة غلاديو بعد فضيحة حادثة “سوسورلوك” المرورية في عام 1996″.
لكن الكاتب أشار إلى نقطة مهمة قائلاً: “هاتان المجموعتان، أي المجموعة الأطلسية والمجموعة الأوراسية تتعاونان في هذه الأيام”. وهذا التصريح يدل على أن هناك كيانًا أعلى ذا عديد من الأوجه أو الأذرع مثل الأخطبوط يبرز أحد أوجهه أو أذرعه بحسب الظروف الزمانية والمكانية أو التيار الصاعد.
آلية عمل أرجنكون
بعد ذلك حاول الكاتب إزاحة الستار عن طبيعة عمل آلية أرجنكون داخل الدولة قائلاً: “الآلية الأساسية التي تعمل من خلالها الدولة في تركيا يمكن جمعها في أربعة عناصر رئيسية تجتمع تحت مظلة شعبة القوات الخاصة. فالمجموعة التي تتحكم في هذه العناصر الأربعة تستطيع أن تقدم نفسها للمجتمع بصورة مقنعة بدعم عنصر خامس وهو الإعلام. أركان الدولة في تركيا تتكون من 1) القوات المسلحة و2) جهاز المخابرات و3) جهاز الأمن و4) جهاز القضاء. وغير ذلك من الآليات أو السلطات الأخرى تعتبر جزءًا متمّمًا لهذه العناصر الأربعة. فمثلاً لا توجد أي أهمية للوزارات الحكومية مقارنة بهذه العناصر الأربعة”.
وأضاف الكاتب أن الذين يجهزون “وثيقة سياسة الأمن الوطني” أو ما يعرف بـ”الكتاب الأحمر” أو “الدستور السري”، ويقدمونها للحكومة كل شهر، ويتخذون الخطوات الضرورية لتنفيذ مقتضياتها، هم الذين يصمّمون كلاً من المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والأمن والقضاء ويتحكمون فيها.
وفي حديثه عن مفهوم “اختراق الدولة”، وفقًا لرؤية تنظيم أرجنكون المسيطر على العناصر الأربعة للدولة، قال الكاتب: “إذا كان المواطنون الذين دخلوا إلى أي من هذه المؤسسات لا ينتمون إلى هذا الكيان فإنه يعتبرهم مخترقين للدولة، بغضّ النظر عن هوياتهم. بمعنى أن أي موظف، سواء كان علويًّا أو اشتراكيًّا أو إسلاميًّا، إذا لم يبايع هذا الكيان، ولم يعمل لحسابه بشكل أو بآخر، أو لم يراعِ مصالحه العليا فإنه يكون مخترقًا لدولتهم، ويجب طرده منها عند الفرصة السانحة. لذا كل موظف لا يتعامل مع هذا الكيان من قريب أو بعيد يتعرض للتصفية بحجج شتى. هذا الكيان هو الذي استولى على كل من المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات والأمن والقضاء في تركيا منذ سنوات”.
هل اخترقت حركة الخدمة الدولة؟
وأردف الكاتب أن حركة الخدمة استطاعت تحطيم البؤرة الأساسية لهذا الكيان العميق، وكسر السور الذي وضعه بين مؤسسات الدولة والمواطنين العاديين من أبناء الشعب التركي، حيث قال: “حركة كولن استطاعت كسر الآلية الأساسية لهذه الدولة العميقة التي تعتبر نفسها مالك الدولة”، وذلك من خلال المؤسسات التعليمية والتربوية الناجحة التي أخرجت أجيالاً متعلمة ومنفتحة على العالم.
ونوّه الكاتب بأن حركة الخدمة لم تتعامل مع تنظيم أرجنكون بنوعيه الأطلسي والأوراسي، وإنما تعاملت مع المؤسسات القانونية، سواء في الداخل التركي أو الخارج، وأردف: “هذا الكيان الثالث (حركة كولن) تعاطى مع المؤسسات المرئية القانونية التابعة لحلف شمال الأطلسي الناتو، وبالتالي كافح ضد منظمة غلاديو السرية -غير القانونية- التابعة للناتو ذاته في الداخل. فالأشخاص المنتمون إلى حركة كولن أو المتعاطفون معها فكريًّا تمكنوا من دخول تلك المؤسسات الأربع في تركيا بعدما كانت حكرًا على أعضاء تنظيم أرجنكون فقط. لكن هذا التطور لم يكن يرغبه أرجنكون بطبيعة الحال، ولذلك تعرضت هذه الحركة والمتعاطفون معها للتصفية من الدولة”، على حد تعبيره.
وهذه العبارات تدل على أن الكاتب يقسّم حلف شمال الأطلسي إلى قسمين، فالقسم الأول يتكون من المؤسسات المرئية التي تعمل ضمن القانون الدولي، والقسم الآخر يمكن تسميته بـ”الناتو العميق” الذي يعمل بشكل سري ولا يتقيد بالقانون، مثل منظمة أرجنكون السرية التابعة لهذا القسم الثاني من الناتو.
وهنا يجدر بنا أن نذكّر أن إعلام أرجنكون / الدولة العميقة كان نشر مقاطع فيديو في يوليو 1999 تتضمن مقتطفات من الدروس التي ألقاها الأستاذ فتح الله كولن في أوقات ومناسبات مختلفة، وأخرجها عن سياقها ليتسنى له اتهام حركة الخدمة بـ”الرجعية الدينة” ومحاولة تقويض “العلمانية”. وانطلاقًا من ذلك بدأ ينشر في جميع الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة التابعة له أخبارًا تخدم مزاعم اختراق حركة الخدمة لمؤسسات الدولة عبر الطلبة الذين تخرجوا في مؤسساتها التعليمية، ومن ثم حصلوا على وظائف عامة في أجهزة الدولة. كولن كان ينصح في هذا الدرس لمحبيه من الموظفين العموميين بأن يلتزموا الحيطة والحذر لكي لا يُشعروا بأنفسهم “البؤر المظلمة” التي تسترت في “أعماق الدولة”، والتي لا تستسيغ وجود “أي شخص له أدنى صلة بالإسلام” في المؤسسات الرسمية. إلا أن وسائل إعلام أرجنكون كانت أثارت زوبعة في الفنجان، واستغلت نصيحة كولن هذه في الاستشهاد على اختراق أجهزة الدولة من قبل حركة الخدمة، وواصل نشر هذا النوع من الأخبار على مدار 3 أو 4 سنوات متتالية دون انقطاع، من أجل تشويه سمعة المؤسسات التعليمية التابعة للحركة وإقناع نخب تركيا بذلك، خاصة الفئات العلمانية. لكن هذه الحملات أثمرت نتائج عكسية، حيث لم تستطع تغيير نظرة المثقفين من كل الاتجاهات الفكرية إلى مؤسسات الخدمة، بل عملت على زيادة اهتمامهم بها وإقبالهم عليها في التسعينات والألفية الثالثة.
أفضل مثال على ذلك الكاتب الصحفي الراحل توكتاميش آتيش، الذي لم يكن يشكّ أحد في علمانيته، حيث اعترض على اتهامات أرجنكون وأكد أن هذه النصيحة إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الضغط الذي كان يُمارَس على “الفئات المتدينة” أو المحافظين الملتزمين بمتطلبات دينهم وأخلاقهم، وأشار في الوقت ذاته إلى إعلان وزير العدل الأسبق من حزب الشعب الجمهوري محمد موغلتاي (1994 – 1995) على الشاشة التلفزيونية أنه قام بفصل أكثر من 5 آلاف شخص “متدين” من شتى المؤسسات والهيئات الرسمية، بينهم متعاطفون مع حزب الرفاه “الإسلامي” وحركة الخدمة والجماعات الإسلامية الأخرى، ووظّف مكانهم ممّن ينتمون إلى فكرهم العلماني اليساري المتطرف و”الطائفة العلوية” على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، وجه كولن المتعاطفين معه بصفة خاصة، والمتدينين بصفة عامة، بأن يتجنبوا إظهار هوياتهم الدينية في المؤسسات الرسمية على نحوٍ يثير حفيظة الأطراف العلمانية الصارمة، وبالتالي تنظيم أرجنكون، حتى لا يتعرضوا للنفي أو الطرد من الوظيفة بحجج واهية.
ومن ثم رد الأستاذ كولن بنفسه على مزاعم اختراق أفراد حركة الخدمة لمؤسسات الدولة، بأن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده، في إطار القانون، لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، حيث إن المشجَّعين على دخول هذه المؤسسات هم أفراد الشعب التركي، ومواطنو الدولة التركية، والمؤسسات هي مؤسسات هذا الشعب وهذه الدولة. ومن ثم لفت إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في فترة معينة على أيدي شرذمة قليلين مِمَّن ليسوا من أبناء الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعوْن للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية. ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات الأجنبية لمؤسسات دولتهم. فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق قانوني ومشروع لهم، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية في إطار القوانين واللوائح الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”.
تصفية حركة الخدمة
وعودة إلى تحليل الكاتب المخضرم سعيد صفا للمشهد الحالي في تركيا، فإنه لفت إلى أن الجناح الأوراسي للدولة العميقة / أرجنكون اتفق مع فريق أردوغان من أجل تصفية حركة كولن، وواصل بعد ذلك بقوله: “اعتقد الأوراسيون أن أردوغان سينفذ كل ما يطلبونه منه بعد تصفية حركة كولن، وأنه سيترك السلطة لهم بعد فترةٍ ليقوموا بإعادة تصميم السياسة كما يحلو لهم إلى أن تعود تشكيلاتهم القديمة إلى مؤسسات الدولة مرة أخرى. استمر تحالف أردوغان والأوراسيين إلى هذه الأيام مقدّمًا كلُّ طرفٍ للطرف الآخر عديدًا من التنازلات. إلا أن ما لم يتوقعه الأوراسيون هو أن أردوغان كان يكنّ كراهية لهم بقدر كراهيتهم له على الأقل. ولهذا كان صراع الطرفين عاجلاً أم آجلاً أمرًا لا مفر منه”.
ثم بدأ الكاتب يبحث عن إجابة لسؤالِ: ما الذي حدث حتى ظهر الصراع بين أردوغان والأوراسيين؟ وقال في ذلك الإطار: “في الوقت الذي عقد فيه أردوغان اتفاقية مع الأوراسيين ضد حركة كولن بعد فضائح الفساد في 2013، عقد اتفاقية سرية أخرى مع الجماعات والطرق الإسلامية من جانب؛ والكيانات التابعة لحزب الحركة القومية من جانب آخر، وبدأ ينقل المنتمين لهاتين المجموعتين إلى “جهاز القضاء”، لتنطلق مع ذلك تشكيلة جديدة تابعة لأردوغان في السلك القضائي خلال العقد الأخير إزاء التشكيلة الأوراسية. بمعنى أن تشكيلات حزب العدالة والتنمية والجماعات الإسلامية (ما عدا حركة كولن) والكيانات القومية أصبحت جنودًا يعملون وفق تعليمات أردوغان. وهذا أمر لا يستسيغه الأوراسيون، حيث كانوا يعتقدون أنه لن ينشئ تشكيلات جديدة في أجهزة الدولة، وأنهم سيعيدون بكل سهولة تشكيلاتهم إلى المؤسسات التي خلت من أفراد حركة كولن بعد تصفيتها، وسيكونون المسيطرين في تركيا مجددًا من دون غيرهم. لكن الرياح لم تجرِ كما اشتهت سفنهم”.
تطرق الكاتب بعد ذلك إلى تشكيلات أردوغان في “جهاز المخبارات” قائلاً إن أردوغان اتخذ خطوة أخرى في السيطرة على الدولة من خلال تعيين هاكان فيدان في منصب رئيس المخابرات، وبدأ يتشكل فيه أيضًا، اقتداء بالنهج الذي اتبعته الدولة العميقة القديمة، وهو يتمثل في نقل ضباط متقاعدين من القوات المسلحة إلى جهاز المخابرات، ليفتح أردوغان بهذه الطريقة قناةً ضمّ من خلالها الضباط المنتمين إلى التيار الإسلامي في المؤسسة العسكرية إلى جانب هاكان فيدان في المخابرات، مشيرًا إلى أن هذه التشكيلات الإسلامية الجديدة هي التي تشرف على تنظيم وتشكيل العناصر والمجموعات الجهادية في الداخل التركي والمنطقة، لا سيما في سوريا وليبيا، وهذا هو الأمر الثاني الذي أزعج الأوراسيين.
واستمر الكاتب قائلاً: “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 كان الأوراسيون ينتظرون أن تعود عناصرهم القديمة إلى المؤسسة العسكرية، وأن تترقى كوادرها الموظفة حاليا إلى مناصب عليا عبر قرارات مجلس الشورى العسكري. غير أن أردوغان بدأ يتشكل في “الجيش” أيضًا من خلال مستشاره المسؤول عن الشؤون الأمنية ورئيس شركة صادات الأمنية عدنان تانري فردي، الذي يعود تاريخ علاقته بأردوغان إلى عام 1993 من جانب، ومن جانب آخر قام بإحالة بعض الجنرلات والضباط المرتبطين بالأوراسيين إلى التقاعد. ولم يكتفِ بهذا فقط بل أقدم على تهميش بقية الأوراسيين وتجريدهم من القوة والنفوذ، كما توجه إلى جمع كل الضباط والجنرالات المنتمين إلى شتى الجماعات الإسلامية تحت مظلته. بمعنى أنه، أي تانري فردي، قام بإعداد القوات المسلحة لقدوم المهدي، على حد تعبيره هو، الأمر الذي أحدث اضطرابات في كل المعادلات”.
ومن ثم ألقى أردوغان خطوة ثالثة، وهذه المرة في “جهاز الأمن”، بحسب الكاتب، حيث قال إنه كان منذ القديم مجموعةً داخل جهاز الأمن تنتمي إلى حركة “ملي جوروش” القديمة التي أسسها وقادها الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، مشيرًا إلى أن أردوغان أسس علاقات وروابط عضوية بين هذه الكوادر القديمة وتشكيلات حزبه الجديدة. ثم فصل قائلاً: “كانت في الأمن كيانات تابعة لمحمد آغار المنتمي إلى الجناح الأطلسي لأرجنكون، ومع أن تلك الكيانات كانت تتعاون مع الجناح الأوراسي إلا أن بعضًا منها خرجت من سيطرة الأطلسيين والأوراسيين معًا لتندرج تحت مظلة الكيان التابع لأردوغان. ومع أن الأوراسيين تعاونوا مع الأطلسيين لسنوات طويلة، بواقع أن أردوغان كان رجلهما المشترك من أجل التخلص من حركة كولن، إلا أن الأطلسيين المتحلقين حول محمد آغار يبدو أنهم الآن باتوا تحت سيطرة أردوغان. بمعنى أن التشكيلات الأردوغانية هي التي أخذت الدولةَ تحت سيطرتها. وهذا هو سبب الصراع الحالي بين الأوراسيين وفريق أردوغان، حيث لا يرغب الأوراسيون أن يمسك فريق أردوغان بزمام الأمور كلها في تركيا”.
دلالات تحركات زعيم المعارضة
وذكّر الكاتب أن حزب الشعب الجمهوري كان يتحدث عن ظهور “دولة عميقة جديدة” تحت قيادة حزب العدالة والتنمية بدلا من الدولة العميقة المعروفة، مضيفًا: “حزب الشعب الجمهوري التقليدي لم يكن منزعجًا من الدولة العميقة (القديمة) بل كان يتعاطى معها قديمًا وحديثًا. هناك فئة داخل الشعب الجمهوري تريد الآن التحلق حول رئيس الأركان الأسبق إيلكر باشبوغ الذي يمثل الدولة العميقة”.
وكشف الكاتب عن السبب الذي يقف وراء الصراع الحالي بين أردوغان والأوراسيين وهو أن الطرفين يكافحان من أجل الانفراد في التحكم بالدولة أو السلطة ونعمها، ثم بدأ يسلط المجهر على الخلفية التاريخية قائلاً: “لم يكن لدى أردوغان كوادر جاهزة عندما قام بتصفية حركة كولن من أجهزة الدولة الأربع المذكورة، فعقد تحالفًا مع الأوراسيين، كما سبق أن تحالف مع حركة كولن لتصفية الأوراسيين في وقت سابق. لكن اليوم تمكن أردوغان من إنشاء كوادره وتشكيلاته الذاتية داخل الدولة، وبدأ يعتقد أن تلك التشكيلات باتت جاهزة للحرب مع الأوراسيين. لقد تعرف أردوغان على الدولة قديمها وحديثها، وطبيعة عملها بعد السيطرة عليها طلية نحو عقدين من الزمن ويتحرك اليوم وفقًا لهذه التجربة”.
وشدد صفا أن اتهام رئيس الأركان باشبوغ أردوغانَ وحزبه بـ”الذراع السياسية لمنظمة فتح الله كولن” هو رد فعل الدولة العميقة التقليدية، مفيدًا أن هناك سببًا آخر وراء هذه الخطوة وهو أنه بدأ يلعب “الدور المسند إليه”، ثم أخذ يشرح ذلك: “البعض بدأوا يقدمونه كفاعل سياسي جديد.. هؤلاء كانوا فضّلوا تشريع نظام رئاسي حزبي في تركيا، وذلك لسهولة السيطرة على الشخص الواحد. ويبدو أنهم بعد تأسيس هذا النظام، الذي يجمع كل السلطات في الشخص الواحد، اختاروا لهذا المنصب إيلكر باشبوغ، ويريدون أن يكون رئيس تركيا القادم. وداخل الشعب الجمهوري مجموعة تؤيد باشبوغ وبدأت تتحرك في إطار هذا الهدف”.
ثم استدرك الكاتب بقوله: “لكن كمال كليجدار أوغلو لاحظ هذا التحرك، الأمر الذي دفعه إلى الإدلاء بصوت عال بتصريحات يتهم فيها أردوغان بالذراع السياسية لمنظمة فتح الله كولن، وذلك في محاولة منه لاختطاف دور باشبوغ في معارضة أردوغان. فهو مضطر لذلك؛ لأن الفئة المرتبطبة بباشبوغ داخل حزبه تستعد لما بعده من خلال عقد مؤتمر عام لاختيار رئيس جديد للحزب، لكنه لا يريد أن يسلم الكرسي لباشبوغ بطبيعة الحال، لأنه أيضًا يعلم جيدًا مدى خطورة هذا الكيان العميق بالنسبة لحزبه وتركيا على حد سواء. لذا يعتقد أن الصراع بين باشبوغ وأردوغان سوف يؤدي إلى تقسيم حزب الشعب الجمهوري وسيطرة الأوراسيين عليه، ويسعى لاتخاذ تدابير كفيلة بالحيلولة دون ذلك”.
وتساءل الكاتب سبب انزعاج الفئة أو المجموعة الأوراسية داخل حزب الشعب الجمهوري من كليجدار أوغلو وأجاب عليه قائلاً: “إنهم يخافون من تحول كليجدار أوغلو إلى شخصية سياسية أقوى وتعزيزه السياسة المدنية بدلاً من سياسة الدولة العميقة المارقة. لأنه يتخذ خطوات لا يمكن أن يتخذها أعضاء الحزب التقليديون المرتبطون بالدولة العميقة. فهو يلتقي بأحمد داود أوغلو الإسلامي، ويشارك في مؤتمر القدس الكبيرة، ويقترح على الرئيس السابق عبد الله جول أن يكون المرشح المشترك للمعارضة لمنصب الرئاسة، كما رشح منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو المنحدر من أوصل يمينية لرئاسة كل من بلديتي أنقرة وإسطنبول، ويجري في هذه الأيام مقابلات ومباحثات مع علي باباجان الذي يؤسس حزبا جديدا حول احتمالية التحالف”.
وفي صدد العوامل التي أدت إلى ظهور الصراع بين أردوغان والأوراسيين إلى السطح في هذا التوقيت خصوصًا، قال الكاتب: “إن حزب العدالة والتنمية بدأ يشهد انفصالات عملاقة، وبدأ يتحلق رجال الأعمال المحافظون والمستثمرون المؤيدون لأردوغان حول علي باباجان. وهذا يحمل أردوغان على تأسيس حكمه المطلق بصورة عاجلة قبل ذوبان شعبيه بالكلية؛ لأنه يعلم جيدًا أن كل شيء سينقلب رأسا على عقب إذا خسر في أية انتخابات قادمة. والأمر نفسه ينطبق على الأوراسيين أيضًا. فقد تغاضى الأوراسيون عن تشكيلات أردوغان في الدولة بسبب أنه يحظى بدعم جماهيري واسع، وأنهم لن يهزموه عن طريق الانتخابات الديمقراطية. وواصلوا التحالف معه إلى اليوم وأنوفهم راغمة، لكنهم يعلمون الآن أن أردوغان فقد هذا الدعم الشعبي وبات ضعيفًا. ولذلك أخذوا يشنّون عليه هجومًا صارخًا، ليمنعوه من الاستيلاء على الدولة بشكل كامل”.
وفي إطار تحليله البعد الخارجي للصراع بين أردوغان والأوراسيين الموالين لروسيا قال الكاتب إن الصراع الداخلي بين الطرفين هو الذي ولد الصراع بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمر بوتين: “لما اندلع الصراع مع الأوراسيين في الداخل بدأت روسيا تسحب دعمها من أردوغان في الخارج أيضًا؛ لأن روسيا تعتمد على الأوراسيين فقط وتعتبرهم امتدادًا لها في الداخل التركي، ولا تثق في أردوغان أبدًا. والذين ذهبوا إلى روسيا بعد إسقاط الطائرة لإصلاح العلاقات بين البلدين ليسوا فريق أردوغان بل هم الأوراسيون. والأطروحة التي تقول بأن روسيا بدأت تغير سياستها تجاه أردوغان لأنه لم يفِ بوعوده حول تطهير المدينة من الجهاديين ليست إلا ذريعة فحسب. لذا أعتقد أن هدف الهجمات في إدلب هو إضعاف أردوغان في الداخل تماما”.
يذكر أن زعيم حزب الوطن دوغو برينجك “الأوراسي” كان أعلن أنه من توسط بين أردوغان وبوتين من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين بعد أزمة إسقاط الطائرة، وأن الدور جاء الآن على إصلاح العلاقات بين أردوغان والأسد.
أمريكا تغرق أردوغان
في حين وصف الكاتب موقف الولايات المتحدة من كل ما يحدث في تركيا وسوريا بـ”الخطة الشيطانية كما هو الحال دائما”، زاعمًا أنها تدفع أردوغان وتشجعه على مزيد من التوغل والخوض والغرق في المستنقع السوري، وتعمل على إلقائه طعمًا لروسيا. وأردف: “كلما طال بقاء أردوغان في إدلب سارع الأوراسيون إلى محاربته في الداخل. والجميع، أي أمريكا والغرب وروسيا، ترغب وتخطط لذلك. ولعل روسيا تفكر أن رجالها من الأوراسيين لو حاربوا أردوغان في الداخل فقد تتمكن من فرض سيطرتها الكاملة على تركيا. بينما الولايات المتحدة والدول الغربية ترغب في أن ينزف الطرفان التركي والروسي معًا، فهي تريد أن يتصارع الطرفان وتتحطم بيضاتهما على حد سواء”.
ولفت الكاتب أيضًا إلى أن هذا المشهد التركي والإقليمي والدولي الحالي يصبّ في مصلحة الأحزاب الجديدة بقيادة كل من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان، نظرًا لأن الحرب بين أردوغان والأوراسيين وروسيا تستنزف أردوغان وتذيب شعبيته؛ أما غالبية الناخبين فيكرهون مثل هذه الصراعات، ولن يدعموا أيا من الطرفين المتصارعين، بل سيتوجهون إلى بدائل جديدة، كما كان سابقًا في أيام انقلاب 28 شباط 1996، حيث كان هناك صراع حقيقي أو مصطنع بين حزب الرفاه الإسلامي والدولة العميقة، لذا توجه الناخبون إلى حزب العدالة والتنمية المنفصل من حزب الرفاه. والمشهد ذاته يحدث في تركيا اليوم أو يتم توظيف الأحداث حتى يتشكل مثل هذا المشهد، وفقًا لرأيه.
الجميع خاسر
واختتم الكاتب الصحفي التركي المخضرم سعيد صفا، رئيس تحرير موقع خبردار الإخباري، قائلا: “إن أردوغان جهز تشكيلاته في الدولة، فضلاً عن أنه أنشأ مليشيات مسلحة، والآن يخوض حربًا ضروسًا ضد خصومه. حسنًا من سيربح؟ لن يكون هناك أي رابح في مثل هذه الحرب. أيٌّ من الطرفين لا يشعر بأي عطف وشفقة تجاه الطرف الآخر.. فعقلية أردوغان عقلية داعشية وأنصاره يتمكنون من ذبح وقطع الرؤوس بكل سهولة. ومن ثم يسوّغون ويسوّقون ذلك بأن بقاء الدولة يقتضي هذا! أما الأوراسيون فهم أشد من الفريق الأول بحيث لن يشعروا بالراحة ما لم يستأصلوا شأوة خصومهم، كما دل على ذلك تاريخهم.. فإذا ألقيتم نظرة على الظلم الذي ظهر في ظل تحالف هذين الطرفين – مثلا دخلوا المنازل بالدبابات، وقتلوا الناس دون تفريق بين الشيوخ والولدان والنساء والرجال في ديار بكر.. واعتقلوا آلاف النساء الحوامل مع أطفالهن دون أن تأخذ الطرفين أي رأفة بإمكانكم أن تتصورا الفوضى التي ستشهدها تركيا.. فهذه هي عقلية الطرفين.. وإذا ما تصارعت هاتان العقليتان فتصوروا المشهد الدموي الذي سيظهر في نهاية المطاف.. كل الأمارات تدل على أن الحرب لن تكون سهلة؛ فلن يترك أردوغان السلطة بسهولة.. وكذلك الأوراسيون لن يتركوها لأردوغان بسهولة.. سوف تتمايز الصفوف بين الطرفين تمامًا وستشهد تركيا حربًا مظلمة لكيانين مجرمين ستسفر عن خسائر كبيرة للأسف الشديد”، على حد قوله.
–