بقلم: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – تجربة “الإسلام السياسي” في تركيا بقيادة البيروفسيور نجم الدين أربكان لا تزال تثير جدلاً واسعًا حول الأهداف التي ابتغتها بين الواقع والمأمول والنتائج التي ظهرت في نهاية الطريق.
غني عن البيان أن هناك فروقًا جوهرية بين مفهوم الإسلام السياسي الذي تبناه أربكان –ومن على شاكلته- ليمارس السياسة في ضوء مبادئ إسلامية بناءً على تصوره الخاص عن الإسلام، ومفهوم “التدين” الذي يتضمن الأبعاد الثلاثة لمفهوم الدين، وهي الإيمان والإسلام والإحسان، ويحاول كل مسلم أن يعيشه في جميع مجالات حياته. بهذا المعنى مفهوم الإسلام السياسي أضيق وأخصّ، نظرًا لأنه يعنى بالجانب السياسي للدين والإنسان، بينما مفهوم التدين أشمل وأعمّ، نظرًا لأنه يشتمل كل ما يتعلق بالدين والإنسان.
تصريحات أربكان عندما كان في صفوف المعارضة أو عندما كان رئيس الحكومة تدل على أن هدفه النهائي هو السعي لإنشاء نظام اجتماعي وسياسي يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية، أو بعبارة موجزة هو بناء “الدولة الإسلامية” بمعناها التقليدي، الأمر الذي جعله يكرس كل جهوده وطاقاته لـ”السيطرة على الدولة” عن طريق أداة الديمقراطية.
غير أنه واجه عديدًا من المشاكل والعراقيل في نقل أفكاره من ساحة النظر إلى ساحة التطبيق، ذلك لأن وضْع غطاء إسلامي على الدولة الحديثة يكاد يكون من المستحيلات. هذه المشاكل هي المشاكل ذاتها التي تحدث عنها الكاتب وائل حلاق في كتابه المسمى بـ”الدولة المستحيلة”، وتنطبق على كل تجارب الإسلام السياسي في العالم الإسلامي. ذلك أن الدولة التركية الحديثة تقوم بنيتها الأساسية على القومية والعلمانية والدنيوية، بالمعنى الفلسفي، من حيث قوانينها ونظم عملها وبنيتها السياسية وجهازها البيروقراطي وفلسفتها وأيديولوجيتها، فلا مكان للمقدسات والأخلاق والقيم في منظومة الدولة، كما هو حال كل الدول الحديثة.
هذا الواقع القاهر منع إسلاميي تركيا من تغيير أي شيء يذكر كانوا يعارضونه قبل سيطرتهم على الحكم. زد على ذلك، فإنهم، شاءوا أم أبوا، قدّموا كثيرًا من التنازلات عن المبادئ التي دافعوا عنها من قبل. وبعبارة أخرى، فإن الإسلاميين الذين تعهدوا لأنصارهم بتغيير الدولة عند استيلائهم عليها هم الذين أصبحوا قابلين ومنفعلين أمام إملاءات هذه الدولة، واصطبغوا بصبغتها بدلاً من أن يضفوا عليها صبغتهم.
هذا الوضع أصبح ظاهرة عامة في جميع الدول التي شهدت تجربة الإسلام السياسي قليلاً أو كثيرًا، وليس نادرًا أن تتحول دولة الإسلاميين إلى نظام فاسد ومارق أكثر من الأحزاب العلمانية، خاصة في ظل غياب سيادة القانون وآليات الرقابة اللازمة. وأفضل مثال على ذلك ما آلت الأوضاع عند كل من رؤساء تركيا والسودان وماليزيا الإسلاميين المتهمين بالفساد.
ومن المآخذ التي أخذت على أربكان، وأمثاله من قادة الإسلام السياسي، أنهم احتكروا الإسلام في أنفسهم وسلبوه عن الأحزاب الأخرى من أي اتجاه كان.
وهذا دفعهم عند وصولهم إلى السلطة إلى تأميم الدين والجماعات الإسلامية، وربط كل الخدمات الدينية بالدولة، وقد وصل الأمر بهم أحيانًا لدرجة حظر أنشطة وخدمات الجماعات والمؤسسات المدنية الأخرى أو وتصفيتها باستخدام إمكانات الدولة وتشكيل جماعات في مواجهة تلك الجماعات الأخرى. لذا نجد أنهم يقدحون بعلماء أجلاء بسهولة، بل يمكن أن يبلغ بهم الأمر إلى حد تكفيرهم، لمجرد الخلاف بينهما حول أمور سياسية، أو يثنون على فاسقين ومنافقين لمجرد مشاركتهم في رأيهم السياسي أو تحالفهم معهم سياسيًّا.
ولا شكّ أن السعي لجعل جميع القنوات الدينية الحيوية حكراً على الدولة، وتأميمِ التعليم الديني وجميعِ مظاهر التديّن، لن يكون في الحقيقة لصالح المسلمين ولا لصالح الدولة، بل سيؤدي إلى تقديم الدين إلى السلطة السياسية الحاكمة لتستخدمه مثل العصا وفق مصالحها السياسية الآنية. وخطورة هذه الخطوة تكمن في أن الجماعات والمؤسسات المدنية التي أصبحت عالة على الدولة عن طريق حصولها على المساعدات أو المناقصات العامة لممارسة أنشطتها ستواجه الفشل والاضمحلال عندما يرحل هؤلاء الإسلاميون عن الحكومة ويأتي غيرهم.
من جهة أخرى، خروج أي حزب باسم الإسلام في تركيا وغيرها من دول المنطقة وتقديم نفسه وكأنه حاميه وممثله الوحيد في ظل نظام متعدد الأحزاب يفتح الباب أمام إلصاق الأخطاء التي يرتكبها هذا الحزب بالإسلام مباشرة، وبالتالي يتسبب في تكوّن قناعات وأفكار مغلوطة عن الإسلام نفسه.
ومن المفارقة أن حزب الرفاه وقادته -وهو حال جل الإسلاميين في العالم- انتقدوا وذمّوا الدولة ونظامها ووصفوها بـ”الطاغوت” قبل وصولهم إلى الحكومة، لكن عندما أصبحوا المالكين الجدد للدولة عينها وللنظام عينه دون أي تغيير في جوهرهما أو مظاهرهما توجهوا إلى تمجيدهما وتقديسهما بحيث طالبوا جميع المواطنين بالمبايعة لدولتهم “الإسلامية” بصورة لم يفعلها حتى أشدّ العلمانيين والاشتراكيين من قبل. ومن ثم أصدر علماء الدولة وأساتذتها فتاوى لهم تجيز تصفية الأشخاص والمجموعات الرافضة لهذه المبايعة وتحرّم على الناس نقد أي من إجراءاتهم.
ومما أخذ على حركة الإسلام السياسي في تركيا بقيادة أربكان –وهو ينطبق على نظيراتها في إيران والسودان وماليزيا ومصر وغيرها ولو بنسب مختلفة- أنها حولت الدين إلى أداة سياسية تنتج في نهاية المطاف خطابًا أيديولوجيًّا متطرّفًا يقسم ولا يوحد، يشتّت ولا يجمع، يفرق ولا يوفق، يهدم ولا يبني. ومع أن بعض المحللين ذهبوا إلى أن الحكم على أداء الإسلاميين إيجابًا أو سلبًا سابق لأوانه؛ نظرًا لأنهم لم يستطيعوا تطبيق مشروعهم على أرض الواقع بشكل كامل بسبب قصر عمر حكوماتهم أو مشاركتهم الحكومة مع حلفائهم من الاتجاهات الأخرى، إلا أنه ليس من الإجحاف أن نقول بأنهم فشلوا في ذلك حتى على المستويين النظري والخطابي.
والموضوع الآخر الذي يجب لفت الانتباه إليه في هذا السياق أيضًا هو أن الدراسات كشفت أن التدين بأبعاده الثلاثة شهد تراجعًا في عهد الحكومات “الإسلامية”. فمع أن الإسلام يصبح له حضور شكلي بارز في القطاع العام إلا أنه يزول تأثيره على أنماط حياة الأشخاص، ويُختزل الإسلام في الشكل والصورة ويغيب لبّه وجوهره، وذلك بسبب الجرائم التي ترتكبه السلطة السياسية “الإسلامية” باسم الدين وتشوّه صورته الناصعة.
من أهمّ أسباب ذلك أن الإسلاميين المسيطرين على الدولة الحديثة تعاملوا مع النصوص الدينية قرآنًا أو سنة بنظرة تجزيئية وانتقائية، فركزوا على أحكام الدين السياسية، وقاموا بتفسيرها وتأويلها وتطبيقها على نحو يخدم مصالحهم الشخصية والحزبية، بينما أهملوا الأحكام التي تتعلق بالعبادات التي تزكي الروح والأخلاق التي تقوّم السلوك. هذه النظرة التجزيئية والانتقائية في التعامل مع نصوص الوحي، والتركيز المفرط على الجوانب السياسية من أحكام الدين أدت في نهاية المطاف إلى خلق انطباع عن الإسلام وكأنه مجرد نظام سياسي وأيديولوجي من جانب؛ وخفض أهمية الأحكام المتعلقة بالمبادئ والقيم والأخلاق، التي تتصل بالسواد الأعظم وتنظم المجالات المدنية كالإنسان والأسرة والمجتمع، إلى الدرجة الثانية أو الثالثة.
والاقتصار على الجانب السياسي للإسلام يفضي بشكل أو بآخر إلى الاعتقاد بأن أحكام الدين تبتغي تحقيق غايات ومقاصد دنوية فقط من جانب؛ ومن جانب آخر يقود إلى تطويع نصوص الوحي المتعالية لمبادئ “الدَنْيَوَة” أو “العَلْمَنة”، التي تقوم على أساس التاريخيّة، وتؤدي إلى تعطيل كثير من الأحكام أو إفراغها من مضامينها الحيقيقة بحيث يفتح المجال أمام تأويلات لا تحتملها النصوص.
أضف أن دَنْيَوَة الدين على هذا المنوال تسببت في زعزعة المبادئ الأخلاقية والجوانب العرفانية والحياة الروحية عند المسلمين. والظهور الشكلي للإسلام في القطاع العام بعيدًا عن جوهره ولبه يورث السأم والملل من كل ما يتعلق بالدين حتى لدى الملتزمين به، ويدفع خاصة الشباب إلى الانحراف بل الإلحاد.
إن المأسات التي عاشها المسلمون في الفترة التي أدت إلى انهيار الدولة العثمانية لعبت دورا مهما في اختلال التوازن الفكري والسلوكي عند الإسلاميين وجعلت منهجهم وحركتهم رد فعل أكثر من استجابة موزونة مدروسة لحاجات المجتمع الحقيقية. لذا نرى أنهم طوروا خطابًا يقوم على العداء والكراهية للأحزاب اليسارية والعلمانية المختلفة في الداخل؛ والبلدان الغربية والولايات المتحدة والصهيونية العالمية في الخارج. بل أوصلوا الأمر إلى المجال المدني ووصفوا كثيرًا من المجموعات المدنية الأخرى بـ”امتدادات القوى العالمية في الداخل”، مما أدى إلى ظهور معسكرات خارجية وجبهات داخلية عديدة تعادي بعضها البعض، بدلاً من تكريس جهودهم لتأمين التوافق الوطني والسلام الإقليمي والدولي. ولا يكمن إنكار أن خطاب الإسلاميين المعادي للغرب والأنظمة القومية أو العلمانية الحاكمة في بلدانهم لعب دورًا قليلاً أو كثيرًا في ظهور تنظيمات إرهابية باسم الإسلام، مثل القاعدة وداعش وتنظيمات متفرعة عنهما.
وكذلك قدم هذا الخطاب العدائي التصادمي للدول الغربية في الخارج، والأحزاب العلمانية في الداخل، ذريعة لتمارس الضغوط على الجماعات العاملة في المجال المدني.
والكارثة الكبرى تظهر عندما يتوجه أي حزب إسلامي في بلد ما للتضامن الأيديولوجي مع نظيراته في البلدان الأخرى، حيث يقيم علاقاته مع تلك الأحزاب على هذا الأساس ويبذل كل جهوده لإيصالها إلى السلطة، سواء بالطرق الديمقراطية أو من خلال إسقاط الأحزاب أو الأنظمة الحاكمة الأخرى.
والكارثة الأخرى هي أن الإسلاميين السنة يتضامنون مع إيران على أساس المشاركة الأيديولوجية، بدلاً من التعامل معها عن طريق العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الواقعية، ومن ثم يتحولون إلى “طراودة حصان” لها لتحقق أهدافها القومية والطائفية لا الإسلامية، كما نرى ذلك في جميع المنطقة المستسلمة للصراعات الطائفية في الوقت الراهن.
خلاصة القول؛ فشل الإسلاميون في تقديم منظومة فكرية شاملة واضحة المعالم عن شكل الحكم الذي سيطبقونه على المواطنين بعد سيطرتهم على السلطة، وطبيعة العلاقة التي سيقيمونها مع “الآخر” في الداخل، ومع “الغرب” في الخارج، وكيفية تطبيق أحكام الدين ومبادئه ومقاصده على أرض الواقع في ظروف العصر الحديث، بل اضطروا في كثير من الأحيان إلى الإبقاء على النظام القديم ومؤسساته القديمة قلبًا وقالبًا، كما هو الحال في تركيا وتونس اليوم. ومع أنه لم يتغير أي شيء في الدولة التركية العلمانية المعروفة إلا أن الإسلاميين طالبوا الجماعات الإسلامية الأخرى بالإيمان والبيعة لهذه الدولة عينها واتهموا تلك التي اختارت الاستقلال والعمل المدني بالبغي والكفر والضلال.
ولعل أبرز أسباب ذلك أن الإسلاميين اعتقدوا، بظنّ باطل، بأن المشاكل ستنحلّ تلقائيًّا بمجرد وصولهم إلى السلطة بشعارات “الحل في الإسلام”، ولم يدركوا أو تجاهلوا أن السياسة والإدارة تتطلب “بسطة في العلم والجسم”، باعتبارها فنًّا مستقلاً له قواعده العلمية والتقنية. لذا فإن المشاكل الوطنية التي تعهدوا بحلّها ضاعفت في عهدهم بدلاً من التضاؤل، حتى إنهم لم يستطيعوا تسوية مشاكل الشارع الإسلامي الذي ينتمون إليه، بل ازداد الانحرف والإلحاد كلما طال أمدهم في السلطة، وتفاقم الخلاف والصراع بين المجموعات الدينية المختلفة. ومع أنهم كانوا سبب تلك المشاكل وازديادها إلا أنهم اتهموا دائمًا “الآخرين”، وتحدثوا باستمرار عن وجود “أعداء داخليين وخارجيين” دون أن يمارسوا أي نوع من النقد الذاتي!
وأعتقد أن الإسلاميين في تركيا أو غيرها من البلدان الإسلامية لن يستطيعوا تقديم نموذج ناجح على المستويين النظري والتطبيقي ما لم يبدأوا الأمر بمبدإ “الحرية” و”العدل” لجميع “المواطنين”، دون التمييز على أساس الدين أو العرق أو الفكر، كما منح الله كل إنسان عند خلقه “الحرية الفطرية” أو “الخَلْقية”، ومن ثم يبنوا على ذلك الأساس كل الفروع الأخرى.
–