بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – اتخذ نجم الدين أربكان من الإسلام مرجعية لسياسته من خلال خمسة أحزاب أسسها وقادها، وحاول تطبيق تصوره عن الإسلام في الحياة السياسية في إطار خطاب جمع بين الإسلامية والقومية-العثمانية والمعاصرة.
تعتمد جذور الفكر السياسي لأربكان على أفكار الشيخ النقشبندي محمد زاهد كوتكو الذي توفي سنة 1980، ومع أنه أسس جماعة “إسكندر باشا” كجماعة صوفية تعني بالجانب التربوي للمجتمع في الأساس، لكنه اضطلع في الوقت ذاته بدور مهم في تأسيس وتطوير حركة الإسلام السياسي في تركيا، لدرجة أن الباحثين الأكاديميين عمر بايكان وعمر جاها وصفاه بـ”زعيم حركة الرؤية الوطنية”، -حركة ملي جوريش-، لكنها اشتهرت على يد أربكان أكثر من شيخه ونسبت إليه مباشرة.
المحاضرات التي ألقاها الشيخ كوتكو حول التعليم والتربية والأخلاق والاقتصاد والسياسة تحولت بمرور الوقت إلى مبادئ فكرية لأحزاب يمين الوسط بصفة عامة والأحزاب الإسلامية التي أسستها حركة ملي جوريش أو أربكان بصفة خاصة. بالتزامن مع انضمام شخصيات من الجهاز البيروقراطي والعالم الأكاديمي والطلاب، بدأت جماعة “إسكندر باشا” بقيادة كوتكو تقترب من المجال السياسي. وعلى الرغم من أنها نظرت إلى مفهوم “السلطة” بريبة، وحاولت أن تضع مسافة معينة بين نفسها وبينها، إلا أنها طورت علاقتها بالسياسة لتحقيق مصلحة حماية أعضائها من ظلم السلطة السياسية، ليتطور الأمر مع مرور الوقت إلى الرغبة في الوصول إلى السلطة بصورة مباشرة. مع ذلك فإن تصور الشيخ النقشبندي كوتكو القائم على تقديم خدمات دينية واجتماعية وثقافية للمجمتع كان بعيدًا للغاية عن مفهوم السلطة التي وضعها أربكان في المركز الأول بين أهدافه، الأمر الذي أدى إلى اندلاع خلاف بل صراع بين الطرفين في السنوات القادمة. فقد كان الشيخ أدرك أن التحزب يفضي إلى تفريق عصا المسلمين ويوقع بينهم.
وعلى الرغم من أن هذا الخلاف الذي نشب بين أربكان وكوتكو حول مستوى التمسك بالسلطة والسعي وراءها خفّت حدته نسبيًّا عقب إغلاق حزب السلامة الوطني بعد الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980 وانتقال الشيخ كوتكو إلى رحمة الله تعالى في العام نفسه، لكن الخطوط الفاصلة بين الطرفين أصبحت عريضة بالتزامن مع اعتراض أربكان الصارخ على البروفيسور والشيخ محمود أسعد جوشان الذي تولى رئاسة جماعة إسكندر باشا بعد وفاة الشيخ كوتكو، لينفرد أربكان في المحطة الأخيرة بالمجال السياسي بعيدًا عن الجماعة.
هذا التقسيم بين الديني والسياسي تبلور بأجلى صورة في مبادرة الشيخ جوشان إلى تشكيل لجنة الشورى الإسلامية من أجل منع مزيد من الانقسام بين الجماعات الإسلامية وتعزيز التضامن بين الطرق الصوفية، حيث قوبل باعتراض شديد من قبل حركة ملي جوريش بقيادة أربكان. وقد نقل الشيخ جوشان عن أربكان قوله: “هل أقوم بتشكيل لجنة الشورى من الشيوخ ليتحولوا إلى مصيبة في طريقنا!” ولما سحب الشيخ جوشان دعمه من حركة ملي جوريش رفع أربكان راية المعارضة الصارخة ضده.
مع أن أربكان اتسم أسلوبه مع الشخصيات والأحزاب السياسية الأخرى بالسماح والمرونة، إلا أنه لم يظهر هذا الموقف داخل حزبه وحركته، بل زعم كثير من المؤلفين الذين كتبوا في هذا المجال أنه كان “شخصية استبدادية” من حيث الديمقراطية والشورى داخل الحزب. وهذا هو السبب الذي يمكن أن يفسر استئثاره برئاسة كل الأحزاب التي أسستها حركة “ملي جوريش”، واسترداده رئاسة تلك الأحزاب من رؤسائه المؤقتين بعد رفع حظر ممارسة السياسة عنه في فترات معينة؟
كانت ثقافة المبايعة والطاعة هي التي تسيطر على علاقة نجم الدين أربكان مع أعضاء حزب الرفاه، حيث كانت الأسماء الوازنة بالحزب، من أمثال شوكت كازان، يرون أن أربكان ليس زعيمًا سياسيًّا عاديًّا بل هو زعيم ديني، أي يمكن اعتباره “خليفة” في الوقت ذاته، وليس الحزب إلا وسيلة لتحقيق غايات عليا وهي تأسيس دولة إسلامية، وأن تأييد الحزب واجب ديني، ومن يتجنبون مبايعة أربكان يرتبكون ذنبًا من الناحية الدينية. بل ذهب كازان إلى أبعد من ذلك وقال: “إن حركة ملي جوريش حركة جهاد، ومن أعرض عن الجهاد ارتكب إثمًا مبينًا”، بحسب رأيه. ليس هذا فحسب، فإن أربكان نفسه كان يقول: “إن الذي لا يبايع حزب الرفاه ولا ينقاد لأوامرنا فهو من دين البطاطس!”، على حد تعبيره. ومن مقولاته في هذا الصدد أيضًا: “إن حضرة آدم عليه السلام هو من حزب الرفاه أيضًا!”
لذا نرى أن الشيخ جوشان أبدى رد فعله على أربكان من خلال التركيز على ثقافة المبايعة والطاعة، حيث قال: “إن قلتُ أنا شيئًا مخالفًا لما ورد في القرآن الكريم فلا تطيعوني، ولكن عليكم أيضًا أن لا تطيعوا أي شخص إذا قال شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة. حاسبوهم وزِنُوا أقوالهم وأفعالهم بمعايير الكتاب والسنة، فإن كثيرًا من الناس يتدللون ويتغيرون ويخرجون عن المسار. لقد ساندتهم (أربكان وحركته) حتى يناير 1990، رغم كل الأخطاء التي يرتكبونها، وإن عادوا إلى الصواب والرشد لساندتهم أيضًا. ولكن إن لم يعودوا إلى الصراط المستقيم فلن أطيعهم ولن أطيع أحدًا حتى لو كان والدي. إنهم يزعمون أنهم يجاهدون في سبيل الله، ويصف (أربكان) نفسه بأمير المجاهدين! كلا! أنت لم تجاهد في سبيل الله ولم تصبح أمير المجاهدين، بل اكتفيتَ بالتكلم والنطق فقط. مَنْ أنت حتى آخذ بقولك على الرغم من أنني لا أثق فيك”، على حد قوله.
يذكر أن البروفيسور أسعد جوشان كان شيخًا وعالمًا محبوبًا ومحترمًا لدى شريحة كبيرة من الشعب، خاصة لدى المتعلمين، وخطف الأضواء على نفسه من خلال تقديم خدمات دينية سواء في الداخل التركي أو الدول الأوروبية والعالم بشكل عام. وقد ارتحل إلى دار البقاء في عام 2001 مع صهره البروفيسور علي يوجيل أوياريل في حادث سير تعرضا له في أستراليا. غير أن الدكتور رمضان كورت أوغلو المعروف زعم في لقاء تلفزيوني أنهما تعرض لعملية اغتيال في صورة حادث سير قائلاً: “لقد بدأت عملية إعادة تصميم الجماعات الإسلامية في تركيا باغتيال المرحوم الأستاذ أسعد جوشان في أستراليا. هناك عديد من القضايا لا يمكننا الحديث عنها. لقد تم تصفية الشيخ جوشان بطريقة مثيرة للغاية يستخدمها إحدى الأجهزة الاستخباراتية. إني قلت في نفسي عندما علمت مقتله: وا أسفا! فإنهم سيضربون تركيا عن طريق توظيف الدين”، في إشارة منه إلى أنه عملية مشتركة بين الدولة العميقة في تركيا وأذرعها العالمية.
التصور السياسي الإسلامي لأربكان قام بصفة عامة على تقسيم العالم إلى قسمين؛ العالم الإسلامي والعالم غير الإسلامي، ربما انطلاقًا من الفقه الإسلامي التراثي الذي يقسم العالم إلى دار الإسلام ودار الكفر أو دار السلم ودار الحرب، وسعى لإقامة علاقاته الداخلية والخارجية في ضوء هذا التقسيم. ورغم أن علاقات أربكان بالتيارات الإسلامية في العالم الإسلامي كانت ضعيفة، غير أنه لم يتجنّب تقديم نفسه زعيمًا للعالم الإسلامي من خلال المشاريع العملاقة التي طرحها، مثل السوق الإسلامية المشتركة، والأمم المتحدة للدول الإسلامية، والدينار الإسلامي، وقوة الدفاع المشتركة للبلدان الإسلامية، ومجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية، وما إلى ذلك.
ومن فروع هذا التصور أنه يدعو لمكافحة الدول الغربية ومقاومة التغريب والأَوْربة من أجل الحفاظ على المبادئ المعنوية والقومية واسترداد المكانة التي فقدها الأتراك قبل ثلاثة قرون بعدما تبوأوها في عهد الدولة العثمانية. فهو اعتقد أن العامل الخارجي للدمار الذي تعرضت له تركيا والعالم الإسلامي معه هو الاستعمار الغربي الثقافي والدعاية السلبية التي شنّتها الصهيونية التي نعتها بـ”الدولة العالمية السرية”.
ونرى أن أربكان ردّ على الانتقادات التي وجهتها الدول الغربية لتركيا بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وسجلها المتدني في مجال حرية التفكير والتعبير والصحافة، من خلال اتهام الاتحاد الأوروبي بأنه “نادٍ مسيحي”. ولذلك اعتبر اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي في 31 ديسمبر 1995 من الوسائل التي تستخدمها الدول الغربية لاستعمار المسلمين والقضاء عليهم.
ومن المفارقة أن أربكان رغم أنه تبنى خطابًا معاديًا للغرب، إلا أنه استند إلى المعايير الغربية للعلمانية والديمقراطية في انتقاده جوانب القصور الموجود عند السلطة السياسية أو الأحزاب السياسية التركية الأخرى. إذ قدم حزب الرفاه في وثيقة برنامجه العام تعريفًا للعلمانية نصّ على أنها تتضمن في الأصل حرية الدين والضمير والعبادة للمواطنين، وأكد أنها لا تعني اللادينية، بل تضمن عدم التدخل في المعتقدات مهما كانت. ومن ثم اتهم الأحزاب السياسية التي حكمت تركيا، والأيديولوجية الرسمية الكمالية، بتحريف مضمون العلمانية والابتعاد عن تطبيقاتها العالمية، ناسبًا إليها تهمة “الرجعية” المنسوبة له ولحزبه أصلاً! قال أربكان في هذا الصدد أيضًا: “لقد عفا الزمان على العقليات التي تقدم التطبيقات المخالفة للعلمانية على أنها العلمانية.. هذه عقلية حزب الشعب الجمهوري. أما نحن فسنطبّق نفس المعايير العلمانية التي تطبقها الدول الغربية دون إثارة أي صراع بين فئات الشعب. سنحترم الديمقراطية الحقيقية، ولن نسمح لأحد بمعاداة الدين باسم العلمانية. فالهجوم على معتقدات الشعب وحجاب النساء سلوك وتصرف رجعي”.
وفيما يتعلق بحريات وحقوق الإنسان قال أربكان: “لا يمكن أن نقبل التهديدات الموجهة إلى حقوق وحريات الإنسان في تركيا. يجب أن تكون حدود الحريات في بلادنا مثلما عند الدول الغربية على أقل تقدير. الحقوق الموجودة في البلدان الغربية غير موجودة في دستورنا الحالي. لذا ينبغي إعادة النظر في نصوص دستورنا المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية وتغييرها على نحوٍ يتوافق والمعايير الغربية”. كذلك دافع أربكان عن ضرورة الاعتراف بالحقوق السياسية للمواطنين والأحزاب السياسية على مستوى المعايير الغربية أيضًا.
ومن المفارقة أيضًا أن أربكان على الرغم من أنه طالب الجماعات الإسلامية، والمواطنين عامة، بالتصويت لصالح حزبه كواجب ديني، معتبرًا التصويت لغيره ذنبًا، بل أوصل بعض الشيوخ المنتمين إلى حزبه، مثل شوكت يلماز، المعروف بخطاباته النارية، إلى اتهام مؤيدي الأحزاب الأخرى بالكفر والشرك، لكن رأينا أنه شكل حكومة ائتلافية مع بولند أجاويد اليساري، والأحزاب اليمينية والقومية، وأخيرًا مع زعيمة حزب الطريق القويم السيدة تانسو شيلر.
ثمة مفارقة أخرى تفوق كل ما ذكرنا أعلاه وهي أن أربكان عندما كان في صفوف المعارضة وجه انتقادات لاذعة للنظام الحاكم في تركيا والنظام العالمي على حد سواء، لكنه عندما أسس حكومة ائتلافية مع شريكته السيدة شيلر بصفته رئيس الوزراء طرح المبادئ التي دافع عنها وراءه ظهريا، مثل عرقلة تكليل التحقيقات البرلمانية المفتوحة بحق شريكته شيلر بتهمة ممارسات فساد، والتقاعس عن الكشف عن أذرع “الدولة العميقة” المتوغلة في أجهزة الدولة المختلفة بعد فضيحة “سوسورلوك”، والتستر على قضية “مرجيماك” الخاصة بإيداع الأموال المجموعة من المواطنين لإرسالها إلى البوسنة والهرسك في حسابات حزب الرفاه البنكية والتربح من ورائها وما إلى ذلك من الفضائح.
لعل هذا الفارق الشاسع بين الدفاع النظري عن المبادئ الديمقراطية والإسلامية والإخفاق في تطبيقها لسبب هذا أو ذاك، بعد التمكن من السلطة، كان المصير المشترك أو القدر المحتوم لمعظم حركات الإسلام السياسي في العالم الإسلامي، فليس حال السودان وماليزيا وغيرهما بأفضل مما كان في تركيا قديمًا وحديثًا.
–