القاهرة (زمان التركية) – يقول المؤرخ الكبير مانيتون، أول من كتب تاريخ المصريين القدماء منذ حوالي 22 قرنا: “إن هناك أدلة قاطعة بأن الحضارة المصرية كانت توحيدية وليست وثنية”.
ويؤكد نفس الحقيقة العالم المصري أيضا دكتور نديم السيار الذي ألف كتابا رائعا يتناول بالتفصيل ومدعوم بكافة الإثباتات للتأكيد على ثبوت هذه الحقيقة بعنوان “قدماء المصريين أول الموحدين”.. أول من قال لا إله إلا الله وأول الحنفاء”.
والتوحيد على متون الأهرام، كان قائما منذ الأسرة الأولى ومن النصوص في ذلك “الله واحد وليس له ثان”.
وفي كتاب الموتى _ أقدم كتاب كان في مصر القديمة – هذا النص “أنت الأول وليس قبلك شيء، وأنت الآخر وليس بعدك شيء”.
ويضاف إلى كل هذا عشرات المسلات المصرية التي تشير بالإصبع إلى السماء فكما يقول دكتور مصطفي محمود هذا يعد نوعا من التوحيد فهذه المسلات بمثابة مآذن التوحيد ومصاعد للدعاة في مصر القديمة… الخ من أدلة كثيرة ومتنوعة وقاطعة تدل على ثبوت هذه الحقيقة.
إذاً من أين جاء هذا الافتراء بأن هؤلاء الموحدين كانوا عباد أصنام؟
الإجابة باختصار من أعداء هذه الحضارة وعلى رأسهم اليهود، فسيجموند فرويد في كتابه موسى والتوحيد يقول: “عقدة اليهود الأزلية هي الحضارة المصرية القديمة”، فلقد اختلقوا الأكاذيب والافتراءات في حق هذه الحضارة ظلما وكرها وعدوانا.
قالوا بأن موسى عليه السلام أول الموحدين، وهذا غير صحيح، فسيدنا موسى عليه السلام هو نبي الله ونؤمن به، ولكنه لم يكن أول الموحدين وإنما كان أول الموحدين نبي الله سيدنا إدريس الذي كان في مصر القديمة.
وبالإضافة لكل هذه الأدلة وغيرها هناك أدلة عقلية ومنطقية، منها أن هناك استحالة منطقية وعقلية أن يكون هؤلاء العظماء العباقرة الذين أتوا بما لم يأتِ به ذويهم من إبداع وتقدم في كل المجالات، وحضارة ما زالت تحير العالم إلى يومنا هذا، استحالة أن يكون هؤلاء كان لديهم تعدد آلهة بالمعنى الذي يصدر لنا بأنهم كانوا يعبدون أي شيء.
يقول الدكتور مصطفي محمود إن مسالة اخناتون ودعوته للتوحيد فهذا لم يكن للشعب وإنما كان للحاكم أو للحكام الظلمة حينئذ الذين كانوا غزاة على أرض مصر كفرعون الذي كان من الهكسوس، أما الشعب المصري فكان موحدا ومؤمنا بطبيعته بدليل كلام القرآن الكريم ذاته فقال تعالى في الآية الكريمة :(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ)
فهذا الرجل كان أحد المصريين.
ومن جملة الافتراءات الأخرى التي تعرضت لها الحضارة المصرية وأشهرها هي أن المصريين القدماء كانوا فراعنة.
وهذه أيضا دست في التاريخ المزيف لترسيخ مفهوم خطير عن الحضارة المصرية حيث يقول هؤلاء بأن فرعون كان مصريا، وكان حكام مصر على شاكلته في البغي والظلم ضد رعاياهم وادعاء الألوهية.
ولقد سبق البيان في المقالة السابقة التي كانت بعنوان “لماذا مصر هي أم الدنيا” كيف قامت هذه الحضارة على العدل بين الحاكم والمحكوم، وفيما يتعلق بمسالة التوحيد أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن الحضارة المصرية أيضا قامت على التوحيد، وبأن فرعون لم يكن مصريا وإنما كان من الهكسوس جاء في أواخر فترة حكمهم.
والأدلة كثيرة في هذا الشأن، منها أن اسم فرعون في القرآن الكريم لم يأتِ معرفًا بالألف واللام، وذلك في 74 موضعا في القرآن الكريم، مما يدل على أنه اسم من أسماء الأعلام.
أيضا هذا الاسم لم يأتِ منسوبا لمصر والمصريين على غرار مثلا عزيز مصر أو ملك مصر.
فكما يقول العلماء المتخصصون في الآثار، منهم دكتور زاهي حواس، لم يكن فرعون كما يدعي البعض تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني بأدلة كثيرة تدل على ذلك.
وأعود وأؤكد على أنه لا يوجد ما يسمى بفراعنة في أصل حضارتنا ولكن الموجود هو اسم فقط أما الصفة فغير موجودة.
وممن كانوا وراء شيوع هذا المفهوم الخاطئ عن الحضارة المصرية اليهود فينسب وضع هذه الكلمة (فراعنة) للمؤرخ البريطاني فلندرز بتري الذي دفن في القدس. فلقد جاء بهذه الكلمة ليثبت بأن ما جاء في العهد القديم من كلمة (برعا) أي البيت العالي، لها وجود في التاريخ المصري القديم فقال: برعا وفرعا تصبح فرعو وفرعوا تصبح فرعون اذاً هم فراعنة!”، ظلماً وبهتاناً وتحريفاً.
أما الاستفهام القائم حول اختلاف حاضر المصريين اليوم عن أمجاد الأجداد العظماء صُناع الحضارة.. فكنت في زيارة لأستاذي العالم الفاضل رجل العلم والأخلاق السيد المستشار الأستاذ الدكتور حسام فرحات أبو يوسف رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا النموذج المتفرد في دماثة الخلق والرقي والوطنية، وبينما تطرق حديثنا إلى مصر والحضارة المصرية فقال لي أمرًا حدث منذ فترة، حيث إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان في زيارة رسمية لجمهورية الصين الشعبية، وبينما كان يمشي معه الرئيس الصيني ويتحدث معه عن تاريخ دولة الصين قال له الرئيس الأمريكي بأن معلوماته تشير إلى أن الحضارة المصرية أقدم من الحضارة الصينية بكثير، فرد عليه الرئيس الصيني قائلا: “نعم هذا صحيح ولكن الحضارة المصرية توقفت أما الحضارة الصينية فهي مستمرة. فقال لي حضرة العالم دكتور حسام من فضلك عندما تقابل دكتور وسيم أبلغه أ كان هذا الكلام صحيحا أم لا فاستأذنه أن يوضح لنا الأمر؟
وبعدها بحوالي يومين قابلت عالم الطب والتاريخ دكتور وسيم السيسي وأبلغته فقال لي إن الحضارة المصرية لم تتوقف بدليل وجود عالم كبير مثل دكتور حسام وإن كنا نمر بمرحلة صعبة في تاريخنا وتراجعنا. فكل الأمم تمر بهذا تتعافى وتعود إلى سابق مجدها فهكذا التاريخ.
قلت له وكيف نعود إلى سابق عهدنا وعظمة حضارتنا ما هو الطريق ؟ أجابني في كلمة واحدة عن طريق تطبيق (سيادة القانون). فهذا هو طريق عودتنا إلى وجهتنا الحضارية وعودة مصر إلى نفسها مرة أخرى .
فعالم السياسة والاقتصاد السويدي جونار ميردال (GUNNAR MYRDAL) الحاصل على جائزة نوبل، ذكر بأن العامل المشترك الأعظم في كل الدول الرخوة أو النامية هو غياب سيادة القانون.
وفي عام خمسمائة قبل الميلاد عندما حكم على سقراط بالإعدام وشرب السم، هيأ له تلاميذه طريقا للهرب، فرفض وقال إن كسر القانون يؤدي إلى الفوضى، فردوا عليه بأن هذا قانون ظالم، فقال: القانون الظالم يعدل بقانون عادل أما كسره فيؤدي إلى الفوضى.
دامت أوقاتكم نورها العلم وقوامها الحب ..
المستشار هيثم السحماوي : باحث مصري في القانون الدولي