تقرير: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – زعم الكاتب والصحفي التركي أحمد نسين المعروف بتوجهاته “اليسارية الليبرالية” أن تركيا قد تشهد انقلابًا جديدًا، وذلك في الوقت الذي لا يزال الضباب يخيم على محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في 15 يوليو 2016.
في مقاله المنشور بموقع “آرتي جرشك” يوم الأربعاء الماضي (15/01/20) تحت عنوان: “الصراع بين أرجنكون وأردوغان وحزب الحركة القومية واحتمالية الانقلاب”، قال أحمد نسين: “رائحة انقلاب تملأ الهواء.. تركيا حبلى بانقلاب جديد”، على حد تعبيره.
نوّه نسين بأن تركيا قد تكون في الأيام القادمة مسرحًا للمواجهة الأخيرة بين فريقي أردوغان وأرجنكون، التنظيم الذي يطلق عليه إعلاميا في تركيا “الدولة العميقة” أو “دولة داخل الدولة”، بعد تحالفٍ استمر حوالي عقد من الزمن.
الكاتب أحمد نسين، أعاد للأذهان الأيام التي كان أردوغان فيها “ديمقراطيًّا”، مشيرًا إلى أنه أقدم على تغيير كثير من القوانين لسدّ الطرق المؤدية إلى انقلاب عسكري، ثم أضاف قائلاً: “أهمّ القوانين التي ألغاها أردوغان في عام 2010 لمنع حدوث أي انقلاب جديد في البلاد هو ما يتعلق بما سمي بـ”بروتوكول أماسيا”، أي “بروتوكول التضامن بين الشرطة العسكرية والأمن العام”. لكن في خطوة مثيرة للغرابة والشبهات، مرّر البرلمان هذا البروتوكول مجددا”، في 13 يوليو 2016، أي قبل يومين من الانقلاب، بدعم نواب الحزب الحاكم.
والأكثر غرابة من هذا أن أردوغان صدق على عودة هذا البروتوكول “الذي يجهّز الأجواء للانقلابات”، بحسب تعبير أردوغان نفسه، بعد يوم واحد فقط من الموافقة البرلمانية، وقبل يوم واحد مما سمي بـ”محاولة الانقلاب الفاشلة” في 15 يوليو 2016. والخطورة تكمن في أن هذا البروتوكول يسمح لقادة الوحدات العسكرية بتنفيذ عمليات في المدن دون انتظار قرار من الوالي والقاضي. وبدخوله إلى حيز التنفيذ مجددًا، بات بإمكان قادة الوحدات العسكرية القيام بعمليات في داخل المدن من دون الحصول على إذن مسبق من والي المدينة والمحكمة بعد أن كان ذلك ضروريا. وهو الأمر الذي يكشف أن تحالف أردوغان و”أرجنكون” المتوغل في المؤسسة العسكرية فتح أبواب الثكنات العسكرية ليخرج الجنود إلى الشوارع بحجة التصدي لهجمات إرهابية في ليلة الانقلاب، ليتشكل انطباع في الأذهان وكأن هناك انقلابًا عسكريًّا حقيقيًّا. ولو لم يتم تمرير هذا البروتوكول من البرلمان لرفض الجنود أوامر قادتهم المتواطئين مع الحكومة بالخروج من ثكناتهم بحجة بلاغ عن هجوم إرهابي كبير.
لذلك نرى أن الكاتب نسين يعلق على تمرير هذا البيروتوكول مجددا قائلاً: “نعم أن أردوغان ألغى هذا البروتوكول، لكنه أعاده مرة أخرى ونشر القرار المصدق عليه من قبله في الجريدة الرسمية قبل يوم واحد من 15 يوليو 2016، ومن ثم نفذ مع حليفه أرجنكون انقلابهما المضاد لانقلاب 15 يوليو 2016 الذي كانا على علم به مسبقًا”.
وذكّر نسين بأنه سبق أنْ أكد أن قضية تنظيم أرجنكون ستغلق، وأن أعضائه من العسكريين والمدنيين سيحصلون على البراءة من المحكمة، مرجعًا سبب ذلك إلى أن الأحزاب “البرجوازية”، مثل حزب العدالة والتنمية، لا يمكنها مكافحة الدولة العميقة، وإنما حكومة اشتراكية يمكنها مناطحة هذا الكيان، بحسب رأيه.
وتابع نسين، الذي هو الابن الأصغر لـ”عزيز نسين” الذين يعتبر من أفضل كتاب الكوميديا السوداء في العالم أو ما يسمى بالقصص المضحكة المبكية، أن ثلاث فئات في تركيا باتوا الآن على صفيح ساخن، وينتظرون بقلق كبير وحذر شديد، ثم ذكرها تلك الفئات قائلاً: “الفئة الأولى هي فريق أردوغان، حيث يرتعدون رعبًا من مبادرة أرجنكون إلى الإطاحة بهم من خلال انقلاب. في حين أن الفئة الثانية هي مجموعة أرجنكون، وهم كذلك في حالة حذر وحيطة بالغة مخافة إقبال أردوغان على الانقلاب ضدهم. أما الفئة الثالثة فهي نحن (أي الشعب)، إذ نحن من ندفع الثمن دائمًا بغضّ النظر عمّن سيفوز بهذه المعركة”.
تطرق نسين أيضًا إلى إرسال أردوغان عناصر شركة “سدات” الأمنية المؤسسة من قبل مستشاره السابق الضابط المستقيل من الجيش عدنان تانري فردي إلى ليبيا، ثم نقل من أردوغان قوله الخطير من الناحية السياسية والقانونية: “لقد بدأنا مرحلة جديدة لن نتمكن معها من توفير الأمن الخارجي لمدننا من خلال الأسوار والخنادق، والحفاظِ على نظامنا في داخل تلك المدن عن طريق قوات تنفيذ القانون!”.
واصل نسين بعد ذلك قائلاً: “ليس هذا فحسب، فإن رئيس مجلس إدارة جمعية الوحدة الوطنية عمر أوندر خبردار، وهو شخصية مقربة جدًا من أردوغان، قال في صفحته على موقع فيسبوك: الأرض ستهتزّ عندما سنثور جميعًا. إننا نستعد في العمق، ولن يبقى حينها أحد في مكانه وموقعه الحالي”.
وأكد نسين أن إصرار أردوغان على دخول الأراضي السورية من خلال العميلة الجديدة “نبع السلام” واستقباله آلاف المقاتلين التابعين للجيش السوري الحر إلى تركيا يحمل دلالة خاصة، معقبًا بقوله: “كل هذه المجموعات السورية المسلحة دربتها شركة سدات الأمنية التابعة للضابط عدنان تانري فردي.. بمعنى أن هذه المجموعات طوع أمر أردوغان، وبعبارة أخرى أن أردوغان حول هذ القوات المسلحة إلى جيش وطني تركي جديد”، بعد القضاء على الجيش الوطني الحقيقي السابق من خلال تدبير الانقلاب المصمم على الفشل.
وكان الكاتب ذاته صرح في مقاله السابق أنه لا يجد أي مبرر منطقي لإرسال أردوغان قوات عسكرية إلى الأراضي الليبية سوى أنه يريد نقل ضباط تنظيم أرجنكون الذين استخدمهم في تنفيذ انقلاب 2016 إلى ليبيا من أجل إضعافه في الداخل والإقدام على إجراء انقلاب حقيقي من خلال جيشه الموازي المكون من الجهاديين السوريين والأتراك يغير به شكل النظام من ألفه إلى يائه.
وهذا هو ما أيده أيضا الكاتب سعيد صفا الذي يتمتع بعلاقات وطيدة مع جهات مقربة من حكومة حزب العدالة والتنمية وكل الحركات الإسلامية في تركيا، حيث نشر عدة تغريدات استنادًا إلى “مصدره الخاص” الذي وصفه بأنه موظف يتبوأ “مكانة خطيرة” في الجهاز البيروراطي حاليًّا، مؤكدًا أن كل المعلومات التي زودّه بها مصدره هذا إلى اليوم كانت جميعها متوافقة مع ما حدث في وقت لاحق تمامًا.
قال صفا في تغريداته على موقع تويتر: “إنهم (أردوغان ودائرته الضيقة) أدركوا بصورة لا تدع مجالا للشك أنهم لن يفوزوا بالانتخابات مرة أخرى، بعدما رأوا المنشقين من حزبهم واستياء أنصارهم من الأوضاع الراهنة في البلاد. فماذا سيكون لو استيقظنا في الأيام القادمة على وقع إعلانهم عن ثورة إسلامية لتأسيس دولة إسلامية تطبق الشريعة على غرار الثورة الإسلامية الإيرانية (من أجل الحفاظ على نظامهم والهروب من المحاكمة)”.
وأضاف في تغريدته الأخرى “إنهم (فريق أردوغان) يناقشون خلف الأبواب المغلقة تلك الاحتمالات التي قد تحدث في حال إعلانهم عن تأسيس دولة الشريعة في تركيا: الثورة الشعبية؛ الانقلاب العسكري؛ التدخل الدولي؛ وهل لديهم قوة كافية للتغلب على هذه الاحتمالات أم لا”.
الخلفية التاريخية للصراع والتحالف بين أردوغان وأرجنكون
يذكر أن الأمن التركي عثر يوم 12 يونيو 2007 على قنابل يدوية ومتفجّرات في منزل بحي عمرانية في إسطنبول، ثم انطلقت في 12 يونيو 2007 عمليات وتحقيقات أمنية حول أنشطة الدولة العمية في البلاد، حتى تحولت تلك التحقيقات إلى قضية تحت اسم “قضية تنظيم أرجنكون الإرهابي” في 25 يوليو 2008.
وكشفت التحقيقات المتتالية في إطار هذه القضية أن هذا التنظيم تشكل في كل من المؤسسة العسكرية وكل مجالات الحياة المدنية، مثل تنظيم غلاديو في إيطاليا، وارتكب منذ خمسينات القرن الماضي جرائم لا تعد ولا تحصى، وأنه من يقف وراء الانقلابات العسكرية الأربعة والصراعات المسلحة بين اليميينيين واليساريين والأكراد والأتراك وأحداث الشغب بين السنة والعلويين التي سبقت تلك الانقلابات لتبريرها، إلا أن التنظيم لم يخضع لأي محاسبة قانونية حتى تاريخ 2007.
أبدت حكومة أردوغان في سنواتها الأولى إرادة صارمة في قضية أرجنكون، ووقفت إلى جانب الموظفين الأمنيين والمدعين العامين والقضاة الذين واصلوا الكشف عن أذرع هذا الأخطبوط رغم كل أنواع التهديدات، لدرجة أن أردوغان وصف نفسه بـ”أنا محقّق قضية أرجنكون” وطالب باحترام جميع أعضاء القضاء الذين أشرفوا على عملية “الأيدي النظيفة” في تركيا كما جرت في إيطاليا ضد تنظيم غيلاديو، على حد تعبيره.
استمرت التحقيقات والقضايا الخاصة بالدولة العميقة حتى عام 2013، بفضل الشجعان من البيروقراطيين في أجهزة الأمن والقضاء، وتكشفت حقائق مذهلة سلطت الأضواء على الجوانب المظلمة من تاريخ تركيا الحديث. غير أن مرحلة وعملية تطهير الدولة من الكيانات العميقة المارقة لم تكتمل عقب انتهاء التحالف بين ثلاثية السلطة السياسية والجهاز البيروقراطي والمجتمع المدني التي تشكلت في السنوات الأولى من حكم أردوغان، لتبدأ بعده مرحلة عكسية خسرت تركيا خلالها كل المكتسبات التي حققتها طيلة تاريخها وليس فقط المكتسبات التي تحققت في عهد أردوغان، وعلى رأسها “القانونية” أو “الشرعية” في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء.
تحالف أردوغان مع القوى الديمقراطية انتهى بالتزامن مع ظهور فضائح الفساد والرشوة في 2013، ليتجه بعد ذلك إلى عقد تحالف “مؤقت” مع عدوه القديم تنظيم أرجنكون. وحاول أن يبرر تراجعه عن كل تصريحاته ومواقفه السابقة من هذا التنظيم من خلال الزعم: “إن الكيان الموازي خدعني بشأن قضية أرجنكون”، في إشارة منه إلى حركة الخدمة. ثم بدأ بإقالة ضباط الشرطة والقضاة الذين كشفوا ملفات الفساد والرشوة، بتهمة انتمائهم إلى “الكيان الموازي”، وعين بدلاً منهم عناصر من الموالين له أو المتحالفين معه من بقايا عناصر أرجنكون الموالي للمعسكر الأوراسي، والإسلاميين الموالين لإيران، في مؤسسات الدولة، ثم أعاد هيكلة مجلس القضاء الأعلى التي ألغى على إثرها المحاكم الجنائية العاملة في البلاد منذ عقود، وأسس بدلاً منها محاكم أسماها “محاكم الصلح الجزائية”. بعد ذلك أغلق القضاةُ ومدعو العموم المعينون في هذه المحاكم كل ملفات الفساد والرشوة المتعلقة بالحكومة؛ وفي المقابل فتحوا تحقيقات مضادة انتهت باعتقال كل ضباط الشرطة والقضاة المقالين من وظائفهم ممن أشرفوا على تحقيقات الفساد والرشوة، بل طالت حتى كل من يمكن ألا يتجاوز عن هذه الملفات إذا أوكلت إليهم من أعضاء الأمن والقضاء.
وبداية من عام 2014 بدأ جهاز القضاء الجديد يخلي سبيل جنرالات أرجنكون الذين كانوا قيد المحاكمة، رغم أن القرارات الصادرة بحقهم وافقت عليها كل من المحكمة الدستورية والمحكمة العليا ومجلس الدولة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وقد تذمَّر أردوغان لاحقًا من هؤلاء الجنرالات لعدم تقديمهم الشكر له رغم خروجهم من السجن بفضله. كما صدرت قرارات بإيقاف ملاحقة المتهمين في كل من قضيتي الفساد والرشوة إلى جانب إيقاف التحقيقات الخاصة بمنظمة تحت اسم “جيش السلام والتوحيد والقدس” العامل في تركيا كامتداد للحرس الثوري الإيراني.
بعد هيكلة أردوغان لهذه القطاعات المختلفة في الدولة من خلال عملية الإحلال والتبديل التي بسطت نفوذه على السلطة القضائية وجهاز الأمن والاستخبارات، قاد حملة انتقامية واسعة النطاق استهدفت كل أعضاء الأمن والقضاء والبيروقراطيين المشاركين في تلك القضايا الثلاث، أي قضية الفساد الخاصة برجال أردوغان، وقضية أرجنكون الخاصة بالدولة العميقة وقضية السلام والتوحيد الخاصة بالتجسس الإيراني في تركيا، وبدأ يقدم الكيان الموازي مسئولاً عن كل جريمة وقعت في الماضي، حيث حمله كل الجرائم التي ارتكبها قديما تنظيم أرجنكون / الدولة العميقة طيلة تاريخ الجمهورية، زاعمًا أن الكيان الموازي من كان يدير ما يسمى بالدولة العميقة والتنظيمات الإرهابية بما فيها حزب العمال الكردستاني وداعش! لكن هذه الحملات لم تقتصر على موظفي القطاع العام فقط بل امتدت لتشمل القطاع الخاص أيضًا، لتصل إلى أوجها بعد فصل واعتقال أكثر من 200 ألف شخص عقب حالة الطوارئ التي أعلنها أردوغان بحجة التصدي لانقلاب 15 يوليو 2015 الذي تصفه المعارضة بـ”الانقلاب المدبر”.
وتشهد تركيا في الآونة الأخيرة تطورات تدل على أن التحالف الذي عقد بين أردوغان والدولة العميقة / أرجنكون بعد فضح وقائع الفساد والرشوة في 17/25 ديسمبر 2013 قد بدأ يتصدع؛ ذلك لأن فريق أرجنكون لا يريد لأردوغان أن يسيطر على جميع السلطات في البلاد وتكون الكلمة الأخيرة له في كل صغيرة وكبيرة. كما أن فريق أرجنكون لا يثقون في أردوغان، بل يفكرون أنه من الممكن أن يتخلى عنهم حينما تيقن أنه بات الأقوى وصار مالك زمام كل شيء.
الأمر نفسه ينطبق على أردوغان، إذ هو الآخر الذي لا يأمن جانب أرجنكون، إذ يعرف أنه كان المسؤول السياسي في قضية أرجنكون، وأن الأخير سينتقم منه عاجلاً أم آجلاً، كما انتقم من أعضاء الأمن والقضاء في الجهاز البيروقراطي بالعمليات التي نفذوها بالتعاون مع أردوغان خلال السنوات السبع الماضية.
وبما أننا كشعب لا نملك أي وسيلة للتدخل في هذه المعركة الحاسمة المتوقعة بين المتواطئين المجرمين الذين حولوا تركيا ومعها المنطقة إلى جحيم، فليس لنا إلا أن نقول: “اللهم سلط الظالمين على الظالمين و أخرجنا من بينهم سالمين!”